حيرة المسلم بين العقيدة والشريعة والأخلاق… بقلم “نصر محمد عارف”

بداية لابد من التفرقة بين الدين والتدين، فالدين لله، وهو يشمل كل الكتب السماوية، وأتباع الأنبياء والرسل، والتدين هو اقتناع الإنسان بالدين عقلاً، وتصديقه وإيمانه به قلباً، وتطبيقه سلوكاً، وقديما قال عبدالقاهر الجرجانى المتوفى 1078م فى كتابه «التعريفات».. «إن الدين منسوب إلى الله تعالي، والملة منسوبة إلى الرسول، والمذهب منسوب إلى المجتهد» وهنا يكون التدين هو ما تلقاه الإنسان الفرد من المجتهد، ولذلك كانت هناك مساحة واسعة بين الدين والتدين فى جميع الملل.

وعند تقديم الدين للإنسان، أو تحويل الدين إلى تدين، لابد من أن يكون البناء المعمارى للدين واضحا، حتى يكون التدين سليماً، لذلك لابد أن يكون عالم الدين أو الداعية أو الواعظ مهندساً معمارياً متميزاً، يفهم مكونات الدين، وهيكله وأولوياته، وأى هذه المكونات والأبعاد يكون أولاً، وأيها يأتى ثانياً.. وهكذا؟ ولابد أن يلتزم بنفس البناء المعمارى للدين، ولا يضع السقف مكان الجدار، ولا الأرضية مكان السقف، وإلا اختل الوضع، ومشى الناس على رءوسهم، وفكروا بغيرها، وهنا تكمن المشكلة.

أزمة المسلم فى هذا الزمان، التى تجعله تائهاً حيرانا، أنه يعيش منذ عقود طويلة مع علماء دين، ووعاظ ودعاة من النجارين والحدادين والسباكين، وليس فيهم مهندس واحد، لأن نظم التعليم فى عالمنا العربى آثرت أن ترسل أوائل الطلاب إلى الطب والهندسة، ومن هم دونهم بكثير إلى التعليم الديني، أو التعليم الشرعى والقانوني، والأدبى واللغوى بالجملة، لذلك انعدم وجود المهندس المعمارى فى فئة المشتغلين بتعليم وتنظيم تدين المسلمين، إلا من رحم ربى، وهم أقلية ضئيلة نادرة، الإسلام عقيدة وشريعة وأخلاق، هذا هو البناء المعمارى لهذا الدين الحنيف، العقيدة هى الإيمان بأركانه: الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله والقدر، ومن خصائصها أنها واضحة وبسيطة، وغير معقد وليس فيها فلسفة ولا كثير كلام، راسخة فى قلوب العوام والبسطاء أكثر من العلماء.

هكذا كانت منذ نزول الإسلام، ومع تطور الزمن وترجمة الفلسفة اليونانية، والاحتكاك بالحضارات والعقائد الأخرى، وجد المسلمون أنفسهم فى حاجة إلى إثبات قضايا الإيمان هذه بالعقل، وليس من خلال نصوص القرآن والسنة، لأنهم يخاطبون بشراً لا يؤمنون بالقرآن والسنة، فكان من شدة تسامحهم، ورقيهم أنهم أرادوا الدفاع عن دينهم بمنهج من يتحاورون معهم، وهو الإثبات العقلى بالحجة والبرهان، فنشأ ما سمى بعلم العقيدة، أو علم الكلام، أو علم التوحيد للدفاع عن الإيمان الإسلامى بالحجة العقلية والبرهان المنطقى من الكون والتاريخ. لكن مع الانحدار الحضارى الذى مرت به الأمة الإسلامية، وبتأثير عصور التخلف تحول هذا العلم إلى وسيلة لتعميق الخلافات بين المسلمين، وتكفير بعضهم بعضا، وتفريق المسلمين وتمزيقهم، لأنه دخل فى الخلافات بين المسلمين واقتصر عليها، وهو هكذا إلى يومنا هذا.

أما الشريعة أو الفقه فكان لتنظيم السلوك الظاهر من الإنسان فى علاقاته مع نفسه، ومع الآخرين، وهو يتعلق بالسلوكيات، ولكنه ليس مهيمناً على كل السلوكيات، بل مقصور على عدد منها، إما بالنص عليها فى القرآن والسنة، أو بالقياس على ما جاء فى القرآن والسنة، وترك الإسلام جميع حياة الإنسان بعد ذلك للأخلاق، فهى الأساس فى كل شىء، وهى العلة من وجود كل شئ، وهى نتيجة كل شىء، ولا قيمة للإيمان أو للشريعة والفقه إن لم تتحول إلى أخلاق يعيش بها الإنسان فى الحياة، تضبط سائر سلوكه مع ربه ونفسه ومع الناس، فالأخلاق هى هدف وغاية كل العقيدة، وكل الشريعة، وكل الفقه، الإشكالية الكبرى جاءت مع ظهور الجماعات التى نصبت من نفسها متحدثة باسم الدين، تراقب الناس باسم رب العالمين، تعيد تفسير كل شىء فى الدين طبقاً لما تراه، وكل ما عاداها خطأ وضلال مبين، ظهرت هذه الجماعات فى ظل غياب الدولة، وانكماش مؤسساتها الدينية، ودخولها فى حالة بيات شتوى امتدت لأكثر من نصف قرن، استطاعت هذه الجماعات إعادة صياغة التدين بعقلية السباك والنجار والحداد، ولم يكن من بينها مهندس معمارى واحد؛ لأنه للحقيقة والتاريخ كان معظم دعاتها من فئة المهنيين الذين يستطيعون القراءة، أطالوا لحاهم، وقصروا ثيابهم، وعددوا زوجاتهم، وامتدت كروشهم، فصار لهم سمت كهنة الدين فى عقل الإنسان البسيط، هذه الجامعات خرَّبت العمران الدينى جملةً وتفصيلاً، وأربكت المسلمين، وأدخلتهم فى متاهات لن يخرجوا منها قبل جيل من الآن.

جاءت هذه الجماعات خصوصاً السلفية منها بكل أشكالها من جمعية شرعية، وأنصار سنة… الخ بأجندة غريبة؛ تعامل المسلمين وكأنهم كفار لم يعرفوا الإسلام من قبل؛ فكان كل شغلها الشاغل الحديث فى قضايا العقيدة ليل نهار، ولا شغل لهم، ولا معرفة عندهم تتجاوز خلافات علم الكلام، والكلام فى العقائد، ففجَّرت المجتمعات إلى عقائد ومذاهب وأديان، وخلقت حالة من الفتن الطائفية والدينية.

ومن جانب آخر كان الإخوان قد شغلوا المسلمين ثلاثة أرباع القرن بالشريعة، وتطبيق الشريعة، وتجاهلوا الأخلاق فى خطابهم وفى سلوكهم مثل إخوانهم، ويكفى أن نرصد سلوكياتهم اللفظية على الأقل وقت الخصومة مع الآخرين خصوصا بعد ضياع حكم مصر من التنظيم. وهكذا وجد المسلم البسيط أن التدين الصحيح إما على مذهب الإخوان فيكون هو الاهتمام بالشريعة أو الفقه، وإما على مذهب السلفية فيكون الاهتمام بالعقيدة وهنا تُركت الأخلاق لا أحد يهتم بها أو يدافع عنها، فتولاها الجزار، يرعاها بأفلامه السينمائية العظيمة لينشئ لمصر جيلاً أسطورياً يدخلها فى نفق الأساطير.. ولا غالب إلا الله.

 

المصدر : ميدل ايست أونلاين

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *