من الدولة الاستبدادية إلى الدولة الواهنة: ثقل التاريخ السياسي وأزمات الانتقال نحو الديمقراطية .. بقلم محمد العربي العياري

 

بين المقاربة الأيديولوجية وبين التوصيف السياسي، يفرض البحث إعادة الغوص داخل التاريخ السياسي للدولة سعيا نحو الكشف على تمظهرات الفعل السياسي وتنظيراته وتسليط الضوء على أزماته والتي هي بالأساس أزمات الدولة .

الفاعل السياسي في تونس بين أزماته الداخلية وصراعات التموقع  .. بقلم محمد العربي العياري

فمن دولة استبدادية مثقلة بإيديولوجيا التسلط إلى دولة واهنة تتميز بكثافة التنظير ومحدودية الفعل وصراعات التموقع , يتموضع الحدث الأبرز الذي إنعطف بالفعل السياسي نحو إثقال تاريخ وحاضر الدولة بأزمات خارقة لجدار الصمت الديمقراطي الذي شيدته دولة الإستبداد , لكنه في ذات الوقت أسبغ نوعا من فوضى ديمقراطية غير خلاقة أجبرت الجميع على إعادة التفكير في محتوى الديمقراطية وشكل الدولة ذاتها .

فكيف نفهم أزمات الإنتقال نحو الديمقراطية في ظل دولة واهنة مثقلة بتاريخ سياسي لدولة مستبدة ؟

إن البحت في التاريخ السياسي للدولة هو شكل من أشكال إعادة كتابة لهذا التاريخ ذاته بشروط اللحظة التاريخية المرادفة لزمن الحدث المكتوب , بمعنى أدق , إستعراض لحدث سياسي في سياقه العام دون الإنعطاف بالشرط الموضوعي نحو المقاربة التاريخانية والتي يصعب معها الفصل بين الذاتي والموضوعي .فدولة الإستبداد هي موضوع تأريخ سياسي يحتمل أشكالا عدة من التوصيف ويرتهن إلى أنماط متعددة من المقاربات المنهجية , لكن المشترك هو ما يمكن تسميته بتاريخ الإستبداد السياسي للدولة .هذا التاريخ الثقيل والمثقل لكاهل الفعل السياسي لازال يلقي بضلاله على ممكنات البناء والتجاوز في علاقة بفعل التأسيس لدولة ديمقراطية.

دولة الإستبداد هي ضرورة دولة فائض القمع والبيروقراطية وهى دولة إنعدام الشرط الوطني المضمن في عقد التأسيس الاجتماعي للدولة , ألا وهو شرط المشاركة والفعل السياسي وفسح المجال للآخر من خارج آلة الدولة , هي دولة المحجوز الفكري والإيديولوجي المتمم للركن المادي لجريمة خرق حرمة الحزب الواحد والزعيم التاريخي .لذلك سوف يتأسس تاريخ هذه الدولة على خيارات سياسية تختزل في رأى واحد,و في قطيعة تنظيمية وسياسية مع السلطة الموصوفة بالقمع والتسلط وفي محاولات لخرق فضاءاتها المعسكرة والمغلقة في وجه الآخر المعارض.

لذلك سوف يقتصر الفعل السياسي على جانب المعارضة النخبوية بخطاب موجه ضد السلطة يختزل ممكنات التطور والتأسيس الجديد في تغيير شرط الفعل السياسي دون الحديث على تغيير ميكانيزمات إشتغال الدولة التي أصبحت واهنة بفعل الإستبداد.

من هذه الزاوية تبدأ تمظهرات الازمة في الظهور بشكل جلى , حيث أسست دولة الإستبداد بمخرجاتها المتمثلة في الدولة الواهنة والفاعل السياسي الغير متدرب جيدا على ممكنات الفعل والتأثير السياسي ,لأزمات بنيوية حادة لم تتمكن لحظة الإنتقال نحو الديمقراطية من سد ثغراتها أو تجاوز مشكلاتها رغم أهمية اللحظة وخطورتها.

لذلك تمظهر تاريخ الإنتقال نحو الديمقراطية كتاريخ أزمات منها ماهو هيكلي ومنها ماهو بنيوي , لكنها تشترك في نقطة إرتكاز مهمة ومحددة وهى مراكمة العجز على التخلص من مخلفات تاريخ دولة الإستبداد على جانب الخطاب والممارسة وبناء الحدية الأيديولوجية والقطيعة مع شريك الأمس واليوم من فاعلين سياسيين , وكأن دولة الإستبداد لازالت تتحوز على هوامش فكرية مهمة وتتمظهر كحل لفض إشكالات دولة الإنتقال نحو الديمقراطية .

من هذا الجانب نفهم أزمات الإنتقال نحو الديمقراطية ليس كلحظة إنتقالية نحو دولة غير مستبدة , بل كمرحلة تأسيسية لدولة لا تلغي تاريخها السياسي رغم أزماته بل تستثمره من أجل إعادة الإعتبار للفعل السياسي ولكن هذه المرة بصيغة الجمع وليس بصيغة المفرد , وتتعامل مع لحظة الأزمة بعقل الدولة المبدع من جانب إستثمار تلك التصدعات من أجل تكريس خيارات الشعب المعبر عنها بإيديولوجيا الحزب وتكتيكات الفاعل السياسي .

إن الإنتقال نحو الديمقراطية يتجاوز حدود التأسيس القانوني والمؤسساتي نحو بناء أسس مفاهيمية جديدة ترسم علاقات إجتماعية وثقافية وسياسية مغايرة لما هو سائد في دولة الإستبداد , وهذا أهم أزمات الإنتقال نحو الديمقراطية ’ فالسائد هو صراعات التموقع وغياب البرامج الحزبية والتواصل المباشر مع المعني الأول بالإنتقال نحو الديمقراطية وهو الشعب .

محصلة القول , دولة الإستبداد قدمت ما لديها من القمع الفكري والتسلط وأثرت على الفاعل السياسي الذي تعامل مع مرحلة الإنتقال نحو الديمقراطية دون أن يعي بأنه قد وقع القطع مع شروط الفعل السياسي المميزة لدولة الإستبداد .لذلك سوف تبقى أزمات الإنتقال نحو الديمقراطية بمثابة الزائدة السرطانية التي تستهلك إمكانيات الديمقراطية وتغتال ملكات التأسيس الجديد للدولة طالما لم يستوعب الفاعل السياسي بأن الدولة هي دولة الشعب وليست دولة الرغبة أو الطموح المختزل في إنتصار إنتخابي قد لايصمد بضعة أشهر.

محمد العربي العياري/تونس

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *