من أجل إذابة جبل الجليد بين أتباع الأديان…. بقلم هاني ضوَة

“الإنسان عدو ما يجهل” حكمة قالها الأوائل ما زلنا نتناقلها إلى اليوم، وتبارى الفلاسفة في المشرق والمغرب في الكلام عن علاقة الإنسان بغيره الذي لا يعرفه، وكيف أن الصور الذهنية المسبقة والجهل بالآخر قد يؤدي بالإنسان إلى التقوقع داخل تصوراته الذاتية الخاطئة، ومن ثم إقصاء الآخر والابتعاد عنه، وأحياناً احتقاره، ومن هنا تأتي العنصرية والانعزال بين أبناء المجتمع الواحد.

قبل فترة كنت مشاركاً ضمن وفد من القيادات الشبابية بدار الإفتاء المصرية في البرنامج التدريبي الذي عقده مركز الملك عبدالله بن عبدالعزيز العالمي للحوار بين أتباع الأديان “كايسيد”، تحت عنوان: “متحدون لمناهضة العنف باسم الدين.. وسائل التواصل الاجتماعي كمساحة للحوار”، حيث تشرفت بمصاحبة الأساتذة من قيادات الدار طارق أبوهشيمة، وأحمد رجب، وحسن محمد، ومحمد الشربيني في هذا اللقاء المهم.

كان البرنامج التدريبي الذي استمر لثلاثة أيام فرصة حقيقية ونادرة للتواصل مع أشقاء الوطن رغم اختلاف ديانتهم وطوائفهم، حيث حضره قيادات دينية شبابية من مختلف المؤسسات والهيئات الدينية في مصر من دار الإفتاء والأزهر الشريف، وشباب من الكنائس الإنجيلية والأرثوذكسية والكاثوليكية والكلية الإكليريكية وغيرها من الهيئات المسيحية.

اجتمعنا معاً لإذابة جبل الجليد؛ لنتواصل ونتعارف متخلين عن النظرة المسبقة والصور الذهنية عن بعضنا البعض، مدركين أن السبيل الوحيد للتعايش هو قبول أحدنا الآخر واحترام خصوصيته الدينية.. حينها فقط يعم السلام في المجتمع ونكون حصناً منيعاً يحول دون كيد الخائنين الذين يسعون لبث الفرقة والانقسام والطائفية بين جناحَي مصر مسلميها ومسيحييها.

المميز في هذا البرنامج التدريبي أنه تخطى وعَلَا على مرحلة الخطابة والسجال ومجرد تبادل للأفكار، إلى التطبيق على أرض الواقع بأفكار وأنشطة مبتكرة وعصرية تعتمد على وسائل التواصل الحديثة مثل شبكات التواصل الاجتماعي يتشارك فيها الجميع في تنوع ثقافي وديني ومذهبي كان يستعصي أن يجتمعوا معاً في عمل مشترك يملأه التفاهم والقبول المشترك بعيداً عن طاولات المؤتمرات والندوات.

ركز البرنامج التدريبي لـ”كايسيد” على كيفية استخدام وسائل التواصل الاجتماعي للوصول للآخر، والعمل على تعميق مفهوم المواطنة المشتركة وترسيخ التعايش السلمي والتفاهم والتعاون بين أتباع الأديان والثقافات المتنوعة داخل الوطن الواحد، والتعاون في إطلاق حملات إلكترونية يتم تطبيقها على أرض الواقع لمواجهة العنف والإقصاء بكل أشكاله، وخصوصاً المرتكب منه باسم الدين.

لقد أدركنا جميعاً أن العمل معاً والتشارك في أنشطة وحملات بين أتباع الطوائف والأديان والمذاهب المختلفة هو السبيل الأوحد للتعارف فيما بينهم وإذابة جبل الجليد، وطرد الصورة الذهنية المسبقة والمغلوطة التي تكونت نتيجة لعوامل كثيرة أغلبها موروثات مجتمعية قديمة.

ترسخ في نفوسنا مفهوم أن الاختلاف بين الطوائف والأديان والمذاهب هو أمر طبيعي وحتمي يستلزم منا أن نتعايش معه ونقبله، يقول تعالى: (لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ).
ويذكر الإنجيل قولاً للسيد المسيح عليه وعلى سيدنا محمد الصلاة والسلام يقول فيه: “إذا كنت لا تحب أخاك الذي تراه، فكيف تحب الله الذي لا تراه”.

وكما قال الفيلسوف الفرنسي “Merleau-Ponty” ما معناه أن الموقف الطبيعي الذي ينبغي أن يتخذ من الآخر المخالف للذات ليس هو موقف النبذ والإقصاء بل مد جسور التواصل معه وعدم اعتباره موضوعاً قابلاً للإقصاء والتشيؤ.

ففتح قنوات الحوار مع الغير لا يتم إلا إذا خرج كل من “الأنا” و”الأنا الآخر” من طبيعته المفكرة، وجعل نظرتنا بعضنا للبعض “نظرة إنسانية”، أساسها القبول وتفهم أفعال كل منا للآخر؛ لأنه في النهاية كيف ما كانت علاقتنا بالغير -سواء كانت علاقة صداقة، عداوة، غرابة، تواصل، اشتراك، أو حتى صراع- فهي تراهن على ما هو أبعد وأشمل في الإنسان، إنها تراهن على وجودنا الإنساني الكوني الذي يتحول فيه البعيد إلى قريب.

وما أجمل تعبيره عن ذلك: “يقال إن من الواجب علينا أن نختار أحد اثنين: إما أنا وإما الغير، غير أننا نختار أحدهما ضد الآخر، ونحن بذلك نؤكدها معاً. ويقال أيضاً: إن الغير يحولني إلى موضوع وينفيني، وأحوله إلى موضوع وأنفيه. والواقع أن نظرة الغير لا تحولني إلى موضوع، كما لا تحوله نظرتي إلى موضوع، إلا إذا انسحب كل منا وقبع داخل طبيعته المفكرة، وجعلنا نظرة بعضنا إلى بعض لا إنسانية، وإلا إذا شعر كل منا بأن أفعاله، بدلاً من أن تتقبل وتفهم، تخضع للملاحظة مثل أفعال حشرة، ذلك ما يحصل مثلاً عندما تقع على نظرة شخص مجهول. غير أنه حتى في هذه الحالة لا يتحول كل منا إلى موضوع أمام الآخر بفعل نظرة الغير، ولا تولد هذه النظرة الشعور بالضيق، إلا لكونها تحل محل تواصل ممكن”.

فشكراً لكل من أسهم في هذا البرنامج على تلك المجهودات.. شكراً على اختيار قيادات من الشباب ليشيدوا بناءً جميلاً قوامه التقارب والمحبة واحترام الاختلاف.. شكراً للمدربين الأعزاء لقد ساعدتمونا على معرفة أن التعارف والتشارك -حتى عبر حملات وأنشطة مواقع التواصل الاجتماعي- له تأثير كبير في ترسيخ ثقافة الحوار بين الشباب بمختلف توجهاته وأطيافه ودياناته، وهو ما خلق روحاً تشاركية ومد جسوراً للحوار والمحبة فيما بيننا جميعاً

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *