يأتي مؤتمر باليرمو ليس وسط خلافات محلية صرفة، بل أيضًا وسط صراع إقليمي ودولي، لعل أبرز أطرافه فرنسا وإيطاليا اللتين تسعيان للفوز والاستحواذ وفرض نفوذهما على بلد متوسطي مهم اقتصاديًا وجيوسياسيًا لهما.

الصورة العامة للصراع تبين أن إيطاليا تدعم معسكر غرب ليبيا وخاصة حكومة الوفاق الوطني برئاسة فائز السراج، ولا تحبذ استبدال السراج ومجلسه الرئاسي، بينما تدعم باريس شرق ليبيا الذي يسيطر عليه الجنرال خليفة حفتر دون منازع.

إلا أن لفرنسا وإيطاليا تواصلا مع كلا المعسكرين الشرقي والغربي، فحفتر والسراج لم يظهر من سلوكهما السياسي رفض أي دور للبلدين الأوروبيين المتوسطين، فالسراج يعلم جيدًا أن فرنسا عضو دائم في مجلس الأمن، عكس إيطاليا، وحفتر يدرك الأهمية الاقتصادية لإيطاليا التي تعتمد بشكل كبير على البترول والغاز الليبي من خلال شركة إيني الإيطالية، والولايات المتحدة الأمريكية هي البلد الوحيد القادر على تقريب وجهات النظر بين فرنسا وإيطاليا فيما يتعلق بملف حفتر والانتخابات والاستفتاء على مشروع الدستور الليبي.

باريس سعت إلى عقد انتخابات عامة في ليبيا نهاية العام الجاري تنفيذًا لمبادرة باريس التي حضرها رئيس المجلس الرئاسي فائز السراج والجنرال حفتر ورئيس مجلس النواب عقيلة صالح، في الـ29 من مايو/أيار الماضي.

 

“عبرت البعثة الأممية في ليبيا ورئيسها غسان سلامة في أكثر من مناسبة وإحاطة أمام مجلس الأمن الدولي عن عدم إمكانية إجراء هذه الانتخابات، في ظل التلكؤ في إصدار قانون الاستفتاء على الدستور، وإصدار قوانين أخرى منظمة للعملية الانتخابية”

إلا أن هذه الرغبة الفرنسية واجهت ليس رفضًا إيطاليا فقط، بل وحتى أمريكيًا، حيث اشترطا أن تكون هذه الانتخابات البرلمانية والرئاسية وفق دستور دائم للبلاد يصوت عليه الليبيون، وذلك بعد أن يصدر البرلمان قانون الاستفتاء، إضافة إلى ضرورة تهيئة الوضع الأمني بما يسمح بإجراء هذه الانتخابات.

كذلك عبرت البعثة الأممية في ليبيا ورئيسها غسان سلامة في أكثر من مناسبة وإحاطة أمام مجلس الأمن الدولي عن عدم إمكانية إجراء هذه الانتخابات، في ظل التلكؤ في إصدار قانون الاستفتاء على الدستور، وإصدار قوانين أخرى منظمة للعملية الانتخابية.

الداخل الليبي

يؤسس مؤتمر باليرمو أو بمعنى أدق يؤكد خطة المبعوث الأممي غسان سلامة التي أعلنها في عدة إحاطات سابقة، وآخرها في الـ9 من نوفمبر  الحاليّ، هذه الخطة تتمحور حول انعقاد الملتقى الوطني الليبي خلال الأسابيع الأولى من العام 2019.

خلاصة المؤتمر الوطني الجامع، الاتفاق على عقد انتخابات عامة رئاسية وبرلمانية في الأشهر الأولى من العام القادم، على أن تحال خلاصة المؤتمر الوطني الجامع إلى مجلس الأمن لاستصدار قرار يصبغ الشرعية على هذه المخرجات، كما منح القرار 2259 الشرعية لاتفاق الصخيرات السياسي.

وفق هذه الخطة يسدل الستار نهائيًا على سبع سنوات من المراحل الانتقالية والحروب الأهلية عاشتها ليبيا منذ ثورة الـ17 من  فيفري بهذه المخرجات وخضوعه للسلطة المدنية، ورفض انفراده بحكم ليبيا وفق نموذج عسكري شمولي، أو استمراره في شن حروب محلية.

“تعود الثقة الأممية في قيادة السراج لختام المرحلة الانتقالية إلى ضعف جميع مليشيات وقادة الجماعات المسلحة، بعد الحرب الأخيرة التي خاضتها ضد اللواء السابع مشاة من ترهونة جنوب شرق طرابلس، ولواء الصمود بقيادة صلاح بادي”

و خلال هذه الفترة التحضيرية للانتخابات، يجري الاستمرار في الترتيبات الأمنية تحت إشراف البعثة الأممية في ليبيا داخل العاصمة طرابلس وتوسيعها وتطبيقها على مدن أخرى، وكذلك الدفع بعملية الإصلاحات الاقتصادية الرامية إلى توزيع عادل للثروات ورفض استحواذ قادة المليشيات على ثروات البلاد.

و من شأن الترتيبات الأمنية والإصلاحات الاقتصادية رفض مساعي مجلسي النواب والدولة إلى تغيير المجلس الرئاسي الذي يقوده فائز السراج، فمن شأن هذه التغييرات عرقلة تنفيذ هذه الترتيبات والإصلاحات، إضافة إلى أن المجتمع الدولي والبعثة الأممية شبه متأكدين من عدم إمكانية اتفاق المجلسين على أسماء جديدة تقود المجلس الرئاسي، وأن السراج أفضل من يشرف على هذه المرحلة.

و تعود الثقة الأممية في قيادة السراج لختام المرحلة الانتقالية إلى ضعف جميع مليشيات وقادة الجماعات المسلحة، بعد الحرب الأخيرة التي خاضتها ضد اللواء السابع مشاة من ترهونة جنوب شرق طرابلس، ولواء الصمود بقيادة صلاح بادي، في شهري أغسطس/آب وسبتمبر/أيلول الماضيين، فرغم انتصار قادة كتائب طرابلس في هذه الحرب ورد مهاجمي العاصمة إلى تمركزاتهم السابقة، فإن هذه الكتائب ضعفت عسكريًا، ورضخت لتهديد البعثة الأممية بإحالة قوائم بأسماء قادة هذه المليشيات إلى لجنة العقوبات في مجلس الأمن الدولي.

مخرجات باليرمو

باتت صورة مخرجات مؤتمر باليرمو واضحة، فهي تقوم بالأساس على دعم خطة المبعوث الأممي غسان سلامة الرامية إلى عقد مؤتمر وطني جامع، يتم عن طريقه إقرار الاستحقاقات الدستورية والانتخابية التي فشل مجلس النواب الليبي في إقرارها، كأن يعهد إلى المفوضية العليا للانتخابات إصدار قانون الاستفتاء على مشروع الدستور وقانون تنظيم الانتخابات.

“رغم التضخيم الإعلامي الذي صاحب حضور الجنرال خليفة حفتر لمؤتمر باليرمو من عدمه، فإنه حضر المؤتمر، ووصلت إليه وإلى حلفائه الإقليميين كمصر والإمارات أنه لا مجال لخوض مغامرات عسكرية أخرى”

رسالة باليرمو أن المجتمع الدولي لن يصبر كثيرًا على الخلافات غير المنتهية بين الأطراف السياسية الليبية، وسيتجه إلى مجلس الأمن لحل الأزمة السياسية، حيث من المتوقع أن يصادق مجلس الأمن على مخرجات المؤتمر الوطني الجامع، ويمنح تلك المخرجات الشرعية كما فعل مع اتفاق الصخيرات السياسي.

نائبة رئيس بعثة الأمم المتحدة في ليبيا الأمريكية ستيفاني وليامز قالت لعدة أطراف ليبية إنها متأكدة أن مجلس النواب لن يوفي بالاستحقاقات المطلوبة منه، وأنها متأكدة أيضًا، من خلال رصد سلوك البرلمان والمجلس الأعلى للدولة أنهما لن يتفقا على تغيير المجلس الرئاسي، وستدفع بكل قوة في اتجاه تنفيذ الإصلاحات الاقتصادية والترتيبات الأمنية تمهيدًا لإجراء انتخابات عامة في ليبيا منتصف العام القادم.

ستيفاني طالبت المجتمع الدولي في ورشة عمل الإصلاحات الاقتصادية بالاستماع إلى مطالب حكومة الوفاق الوطني التي تتلخص في الدعم والمساعدة في توحيد مؤسسات المصرف المركزي ومؤسسة النفط والاستثمارات الخارجية، والحيلولة دون طباعة عملة أوزيادة الدين العام أو بيع النفط عن طريق المؤسسات الموازية، وتقديم الدعم اللازم لتأمين الحدود البرية والبحرية لمكافحة تهريب النفط والهجرة غير الشرعية، وحماية الاستثمارات والأصول الليبية في الخارج، وتمكين مؤسسات حكومة الوفاق من تنمية وإدارة هذه الأصول، ودعم وتطوير المؤسسات المالية والاقتصادية لتطوير أدائها.

رغم التضخيم الإعلامي الذي صاحب حضور الجنرال خليفة حفتر لمؤتمر باليرمو من عدمه، فإنه حضر المؤتمر، ووصلت إليه وإلى حلفائه الإقليميين كمصر والإمارات أنه لا مجال لخوض مغامرات عسكرية أخرى، خاصة بعد القضاء بشكل شبه نهائي على بؤر الإرهاب في ليبيا، وأن حفتر لم يكن هو المتصدي الوحيد للإرهابيين في ليبيا، حيث أثبتت قوى أخرى مناهضة لحفتر قدرتها على ضرب الإرهاب كقوة البنيان المرصوص من مصراتة التي طردت تنظيم الدولة من مدينة سرت عام 2016.

“يعتقد مراقبون أن لقاء باليرمو قطع الطريق بشكل نهائي على مبادرة باريس التي نصت على إجراء الانتخابات بحلول نهاية عام 2018”

كما أن حلم حفتر بفصل المؤسسة العسكرية والأمنية عن السلطة المدينة، والسيطرة عليهما منفردًا، من خلال مشاورات توحيد الجيش الليبي التي ترعاها القاهرة، بات هو الآخر من الماضي، خاصة أن وفد المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق الوطني المشارك في هذه المفاوضات يرفض رغبة حفتر تلك، وكذلك أمراء المناطق العسكرية (المنطقة الغربية والوسطى وطرابلس) يرفضون حفتر كقائد عام للجيش، مع رفض شبه دولي أن يسيطر حفتر على مقاليد السلطة عسكريا في ليبيا.

باليرمو وباريس

يعتقد مراقبون أن لقاء باليرمو قطع الطريق بشكل نهائي على مبادرة باريس التي نصت على إجراء الانتخابات بحلول نهاية عام 2018، وفقًا لجدول زمني يحدده المبعوث الأممي بالاتفاق مع حكومة الوفاق الوطني والمفوضية العليا للانتخابات، وذلك بسبب عجز وفشل مجلس النواب الليبي عن إصدار حزمة قوانين منظمة لتلك العملية.

يقول أيضًا المتابعون للشأن الليبي إن الولايات المتحدة نجحت بالاتفاق مع روسيا في وضع فرنسا وإيطاليا على سكة قطار التوافق بينهما فيما يتعلق بالملف الليبي والتخفيف من حدة التنافس الذي تحول إلى صراع بينهما على النفوذ والموارد.

أيضًا أسس مؤتمر باليرمو أن المجلس الأعلى للدولة والبرلمان وحفتر والمجلس الرئاسي ليسوا هم أصحاب الحل السحري للأزمة الليبية، بل إن المجتمع الدولي بيده توجيه الأطراف كافة أولاً لإنهاء المرحلة الانتقالية الراهنة، وثانيًا لكبح جماح كل المغامرين المحليين والإقليميين الراغبين في استمرار الصراع السياسي والعسكري في ليبيا.