ليبيا (2011-2016) داعش – الجوار – المصالحة

تقديم
نتج عن الحركات الاحتجاجية في العالم العربي تدهور حاد في الأوضاع السياسية والاقتصادية والأمنية لعدد من الأقطار العربية. تمثل ليبيا إحدى الدول التي عرفت انهياراً متسارعاً انعكست نتائجه بعد سقوط نظام معمر القذافي على المجتمع والاقتصاد والأمن، فدخلت البلاد في حرب أهلية دموية طال أمدها؛ نتيجة عدم قدرة أي طرف من الأطراف المتنازعة على الحسم في الميدان، وترافق ذلك مع الصراعات القبلية الدائرة على خلفيات سياسية واقتصادية. وعلى الرغم من أن العملية السياسية تتقدم، لكن من الصعوبة تحديد مسار إيجابي لنجاحها بشكل كامل، خصوصاً أن التحديات التي ستواجه ليبيا بعد الحرب أصعب بكثير من تحديات وقف الحرب.
عام 2012 أصدرنا كتابنا «ليبيا بعد القذافي: صراع التيارات ومخاوف الحرب الأهلية» ، بأقلام ليبيين عاشوا الصراع واستكشفوا مواطن الخلل. أفضت الأمور إلى أزمات متوالية تفاقمت بظهور «داعش» داخل الأراضي الليبية، وتحولها إلى أرض هجرة فعاد الاهتمام العالمي بعد انقطاع. لم تعد ليبيا موضوع الليبيين، بل أصبح المهتمون بها غالبيتهم من دول الجوار: تونس ومصر والسودان وتشاد والجزائر وغيرها من الدول. ولكن الاهتمام التونسي كان جديراً بالدراسة والتوثيق، لذلك كان هذا الكتاب رصداً للكيفية التي يرى الجيران فيها مستقبل أزمة ليبيا التي تؤثر عليهم.
لقد أدى سقوط نظام القذافي إلى انفلات العصبيات القبلية والجهوية، وإلى ظهور أحزاب سياسية جديدة اعتمدت على الولاء القبلي والشرعية الدينية، حتى تلك التي توصف بأنها ليبرالية وهي في الحقيقة أقرب إلى المحافظة السياسية. لم تظهر سيناريوهات تفكك ليبيا بعد «أحداث 17 فبراير»، إذ ثمة طبقات تاريخية مترسبة ترتبط بالتهميش الاجتماعي والسياسي والاقتصادي منذ الاستقلال. وتعكس معضلة بناء الدولة وفشل الأنظمة السياسية المتعاقبة في تحديث المجتمع بمختلف فئاته، وإشكاليات العلاقة التاريخية المأزومة بين الجماعات الليبية والسلطة، عمق التحديات الداخلية في ليبيا اليوم.
يسعى كتاب «ليبيا (2011-2016) داعش – الجوار – المصالحة» (الكتاب الرابع عشر بعد المئة، يونيو/ حزيران 2016) إلى تحديد المعطيات العامة لتشكل الأزمة الليبية بتشعباتها السياسية والاجتماعية والإقليمية والدولية. وقد تناولت الدراسات العنف في ليبيا، وخارطة التيارات السياسية الجديدة، والانقسام السياسي الراهن، وتبعات التدخل العسكري الخارجي، وتداعيات تدويل الأزمة الليبية، وكيفية تعاطي دول الجوار الليبي مع مخاطر تمدد تنظيم «داعش» الإرهابي والجماعات الإسلامية المسلحة، إلى جانب دراسة فرص التحول الديمقراطي وإدارة الصراع. كل هذا بعين المراقب والمتابع والخائف من التأثر بتداعيات الفشل والتطرف.
إن مستوى التعقيد الراهن في الملف الليبي على علاقة بعوامل عدة، لعل أبرزها: غياب المؤسسات الحكومية الحديثة في عهد العقيد معمر القذافي (1942-2012)، وافتقاد البلاد لجيش نظامي حديث خارج الولاءات المناطقية والقبلية، هذا فضلاً عن التداخل الراهن للتحالفات القبلية والسياسية، والصراع المحموم على الموارد الاقتصادية. وقد أدى تدخل حلف الناتو (2011) إلى تفاقم الفوضى، استغلته الجماعات الجهادية (القاعدة وداعش) وحركات الإسلام السياسي نتيجة الفراغ السياسي والأمني.
بعد انهيار النظام (2011)، سقطت المؤسسات الحكومية ولم يبق من ليبيا سوى حدودها المعترف بها دولياً، ويرى بعض الباحثين أن ليبيا تحوّلت إلى أنموذج مثالي للحالة التي وصفها الفيلسوف الإنجليزي توماس هوبز (1588-1679) في كتابه «اللفياثان» بأنها حالة «حرب الجميع ضد الجميع، وفيها يكون كل واحد محكوماً بعقله الخاص، وكل شيء يمكن أن يستخدمه سوف يشكل له عاملاً مساعداً في حفظ حياته تجاه أعدائه، فينتج عن ذلك أنه في حالة كهذه، يملك كل إنسان الحق على كل شيء، بما فيه الحق على جسد الآخرين».
سعت الدول العربية والغربية ومنظمة الأمم المتحدة إلى إيجاد صيغة سياسية تفسح المجال أمام مشاركة القوى السياسية الليبية كافة، فلم تستطع لوقت طويل تحقيق إنجازات مهمة نتيجة غياب الثقة بين الأطراف المتنازعة، والتدهور الأمني في البلاد، لا سيما بعد دخول الجماعات الإرهابية المسلحة على خط الصراع السياسي.
تقف أيّ حكومة ليبية مقبلة أمام تحديات كبرى، تناولها هذا الكتاب أولها: بناء مؤسسات دولة. وثانيها: تحديث المجتمع الليبي وتعزيز روابطه مع الدولة، وهذا التحدي يتلازم مع تطبيق المصالحة الوطنية بين الليبيين. وثالثها: إنعاش الاقتصاد الليبي المنهار في الوقت الذي تراجعت فيه أسعار النفط بحدة. ورابعها: القضاء بشكل كامل على تنظيم «داعش»، خصوصاً في الوقت الذي يُضيَّق الخناق فيه على التنظيم في العراق والشام، مما يدفعه نحو الهروب إلى أماكن أخرى، وليبيا على رأسها.
إن الفهم الدقيق للأزمة الليبية شرط ضروري لرسم الحلول المستقبلية. صحيح أن الحالة الليبية على درجة عالية من التعقيد، لكنها أمام مفترق طرق، وأمام خيارين لا ثالث لهما: إما استمرار الحرب الأهلية وتمدد الجماعات الإرهابية، أو التأسيس للعدالة الانتقالية التي يتقدمها تحقيق المصالحة الوطنية. وفي هذا السياق أدرجت بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا مجموعة من التوصيات في تقريرها الصادر عام 2012، ضمن عشر نقاط كان من بينها: «ينبغي للعدالة الانتقالية أن تشتمل، ليس على العدالة الجنائية فحسب، وإنما –أيضاً- على تقصي الحقائق وجبر الضرر والإصلاحات؛ بهدف ضمان ألا تتكرر مثل هذه الانتهاكات، وكنقطة بداية، ينبغي للسلطات الليبية النظر في وضع نهج اجتماعي فاعل لتقصي الحقائق، يضمن مشاركة شريحة واسعة من المجتمع الليبي، خصوصاً ضحايا انتهاكات حقوق الإنسان في الماضي والحاضر».
عانى الليبيون خلال فترة الحكم السابق، ثم دخلوا في صراع مسلح وحرب داخلية شاملة، ولو تمّ السير في خطوات حثيثة لتحقيق المصالحة، وتوحدت الجهود للقضاء على الإرهاب الذي يستغل الوضع الداخلي ويتشابك مع الفتنة، سيُعد ذلك بمثابة القفزة الإيجابية ليس لليبيين فحسب، ولكن –أيضاً- لدول الجوار.
في الختام، يتوجه مركز المسبار بالشكر إلى كل الباحثين المشاركين في الكتاب، ويخص بالذكر الزميل منذز بالضيافي والزميل عمر البشير الترابي، اللذين نسقا العدد، ونأمل أن ترضيكم ثمرة جهودهما وفريق العمل.

رئيس التحرير
يونيو (حزيران) 2016

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *