ليبيا.. حرب الثروات الطبيعية تهدد آمال الاستقرار بالبلاد

أسدل الستار منذ أكثر من أسبوعين على المعارك التي اندلعت بين “الجيش الليبي” الذي يقوه المشير خليفة حفتر وقوات ما يعرف بسرايا الدفاع عن بنغازي بعد مواجهات عنيفة كان هدفها السيطرة على موانئ النفط في البلاد. وإن نجحت قوات الجيش في استعادة الحقول من قبضة المليشيات ولكنها أثارت الجدل من جديد حول الحروب القائمة في ليبيا، والتي على اختلافها وتعددها، إلا أنه بدا واضحا للمتابعين أن الثروات النفطية والطبيعية عموما هي المحرك الرئيسي لها.

ولم تكن معركة الجيش والمليشيات الأولى من نوعها للسيطرة على حقول النفط إذ سبق ذلك العديد من المعارك التي دارت بين فصائل مختلفة تنشط في البلاد، فضلا عن جهاديي الدولة الإسلامية الذين حاولوا كثيرا للوصول إلى موانئ النفط، سعيا منهم جميعا لتحصيل مورد قار قادر على تأمين حاجياتهم العسكرية أساسا، وإيمانا منهم بأن السيطرة على النفط تعني الوقوف في مركز القوة باعتباره المورد الوحيد والأساسي للثروة في ليبيا.

صراع إثبات الوجود

ففي 2013 وكان إبراهيم الجضران القائد السابق في قوات حرس المنشآت النفطية الليبية، أول من دخل المنطقة في صيف عام 2013، وفرض حصارا على المنشآت النفطية متسببا في تقليص حجم الإنتاج قبل أن يتم طرده في وقت لا حق على يد قوات حفتر. وفي نهاية سنة 2014، شن قوات “فجر ليبيا” هجمات على المنشآت النفطية في تحرك أطلقت عليه اسم “عملية فجر ليبيا”، محدثة دمارا كبيرا في سبعة مخازن من أصل 19 في منطقة السدرة تبلغ كلفة كل واحد منها 34 مليون دولار. و لكنها أجبرت على الرحيل إثر اشتداد المعارك غرب العاصمة طرابلس     و الحملة التي شنتها المليشيات ضد الدولة الإسلامية في سرت.

و في الأثناء عاد الجضران من جديد ليضع يده على منطقة الهلال النفطي ولكن تحركاته لم تكن تروق لعديد الأطراف الليبية ولا سيما المشير حفتر الذي تمكنت قواته من إخراجه واستعادة السيطرة على الحقول النفطية الكبرى في البلاد في سبتمبر أيلول، حتى موعد الهجوم الذي شنته مليشيات سرايا الدفاع عن بنغازي في مارس آذار وانتهى بعودتها لسلطة “الجيش الليبي”. والمتأمل لتتالي المرات التي حدثت فيها المواجهات الدامية بسبب النفط يدرك أن حرب الذهب الأسود في ليبيا ستبقى مستعرة ما دامت البلاد تعيش هذا القدر من الانقسام، و في ظل تعدد المليشيات والحكومات.

ففي ظل الصراعات القائمة في ليبيا والتوتر القائم بين عدة أطراف يسعى كل منها لإثبات انه الأقوى و أنه الحاكم   و النافذ في البلاد، و إن اختلفت تمثيلياتهم بين من يلعب دور الحكومة والتي يتقاسمها ثلاثة أطراف في مناطق مختلفة من البلاد تدعي الحكم والتمثيل الشرعي، وبين من يلتحفون بالجلباب العسكري و يحتكمون للسلاح لإثبات قوتهم، فإن حرب النفط ستبقى مستعرة.

و مما لا شك فيه أن استمرار أي فصيل يحتاج إلى موارد مالية لتسيير شؤونه سواء السياسية أو العسكرية، و لهذا لن يكون أمام الجميع من خيار سوى الحرب من أجل النفط باعتباره المورد الوحيد المتوفر و الذي بإمكانه تحقيق إيرادات مالية في وقت قياسي. و لهذا يقدر المراقبون أن الوضع الراهن في ليبيا سيعزز الصراعات من اجل النفط،   و سيبقى هذا التداول على السيطرة على الحقول من حين لآخر وتحديدا متى احتاج كل فصيل إلى عوائد مالية لتسيير شؤونه. ولن ينتهي هذا السيناريو برأيهم إلا في حال توصل الفرقاء الليبيين إلى اتفاق سياسي يتوحدون بمقتضاه ويتم الاتجاه لتشكيل دولة مستقرة لا تحتكم إلا لسلطة وحكومة واحدة وجيش واحد.

و لا ينفي المطلعين على الشأن الليبي استفادة الأطراف السالف ذكرها لفترات من عائدات النفط، ولكن هذه الحلقة المتتالية من المعارك ألقت بظلال وخيمة على معدلات إنتاج النفط في التي تراجعت بمستويات قياسية. فبحلول عام 2016 انخفض الإنتاج إلى ربع مليون برميل يوميا، ثم بلغ 700 ألف برميل يوميا في فبراير (شباط)، ليتوقف الإنتاج من جديد في أكبر حقول النفط الليبية على خلفية الصراع المسلح الأخير. علما و أن إنتاج النفط كان عام 2012 يبلغ 1.6 مليون برميل يوميا. و لا تلوح في الأفق أي بوادر مصالحة حقيقية بين أطراف النزاع في هذا البلد لاعتبارات الصراع على النفوذ و الاستحواذ على الحكم، و لاعتبارات أخرى تحركها أطراف أجنبية تتخذ لها أجنحة عسكرية و سياسية محلية تتولى الدفاع عن أهدافها مقابل الدعم المالي و العسكري.

قطر و معضلة الغاز

 و يقول الكثير من المراقبين أن انسداد أفق حلحلة الأزمة الليبية يعود أساسا لتعدد الأطراف الخارجية التي تراهن في غالبها على استمرار التوتر خدمة لمصالحها السياسية و الاقتصادية. فمن جهة تدعم روسيا بشكل أصبح معلنا قائد الجيش المشير خليفة حفتر، ولكنها لا تريد أن تظهر بشكل مباشر اليوم لالتزاماتها العسكرية في المستنقع السوري. ولهذا قد يلائمها إطالة أمد الأزمة في البلاد حتى تكون جاهزة لتحط بثقلها الكامل في ليبيا كما هو الشأن ـ ربما ـ في سوريا.

و الأكيد أن الثروات النفطية تتصدر اهتماماتها، وليست هذه المرة الأولى التي تعمد فيها قوة كبرى للسعي لإثارة أو إطالة أمد النزاعات الداخلية من اجل السيطرة على ثروات دول صغيرة، فالتاريخ يزخر بهذه النماذج. ولهذا وإن يساعد الدعم الروسي الجيش الليبي على المسك بزمام الأمور فيما يتعلق بالمنشآت النفطية، إلا أن هذا الدعم لن يكون دون دفع فاتورة في المقابل، فضلا عن كون هذا التدخل يدعم إلى حد كبير تواصل الصراعات بين أطراف النزاع المحلية. وفي المقابل تدعم قطر الإسلاميين في ليبيا منذ بداية الثورة في البلاد، في تدخل اعتبره الكثير من المتابعين بمثابة وقود المعارك والصراعات القائمة هناك، نظرا لرهانها الكبير على استمرار الوضع المتأزم، ودوام التوتر في البلاد خدمة لمصالحها الاقتصادية.

فالدوحة التي تعد أحد ابرز منتجي الغاز في العالم تبحث على الحفاظ على هذه المكانة وعدم ظهور منافسين جدد قد يفتكون منها الريادة، وعلى رأسهم ليبيا التي تنام على ثروات غاز هائلة يقدر الخبراء بأنها ستؤهلها لتصدر منتجي الغاز في العالم. وهو ما تسعى قطر لتجنبه عبر دعم استمرار حالة الانقسام في البلاد بدعم فصيل ضد آخر، بل وهناك الكثير من المتابعين ممن يتهمون الدوحة بأنها أول الدول التي دعمت الفوضى في ليبيا منذ 2011 بدعوى دعم الثورة.

من جهة أخرى تتبع قطر هذا الخيار و تحديدا تأجيج حالة الصراع على الموانئ النفطية حتى لا تتمكن ليبيا من استعادة استقرارها النفطي الذي يهدد السوق بمزيد التخمة في حال استعادة النفط الليبي لعافيته، وتشاركها في هذا الهدف عدة دول نفطية أخرى. و لهذا ستستمر حرب النفط والثورات الطبيعية مستعرة ما دام أطراف النزاع يوكلون مصائرهم لأطراف أجنبية ويغضون أبصارهم عن أي فكرة مصالحة أو اتفاق كفيل بجمع مختلف الأطياف حول طاولة، أو التشارك في حكومة واحدة. في حين أن هذا التدخل الأجنبي سيبقى يغذي فكرة الاستفراد بالحكم لدى كل فصيل و إقصاء الآخر في مشهد عبثي سينتهي بتدمير البلاد أكثر فأكثر.

المصدر:ميدل آيست

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *