لهذه الأسباب، يكون الفصل السادس من قانون الانتخابات، لا دستوريّا ! .. بقلم محمد المؤدب

بعد تسعة أشهر من تعطيلات قيل أنّها لأسباب مبدئيّة و لمصلحة البلاد، مرّر مجلس نوّاب الشعب يوم الثلاثاء 31 جانفي بأغلبيّة مريحة، قانون الانتخابات و الاستفتاء متضمّنا الفصل السادس الذي يخوّل للأمنيين و العسكرييّن الترسيم بسجلّ الناخبين و بالتالي المشاركة في الانتخابات البلديّة و الجهويّة لكن دون سواهما. إنّ كيفيّة تمرير ذلك الفصل هي أقرب ما تكون مهزلة و مسرحيّة إتّفقت حولها أحزاب، في غفلة ممّن انتخبوهم. نعم ذات ليلة و بقدرة قادر انقلبت المواقف من الضدّ إلى الضدّ، فالطرف الذي كان معارضا شرسا لممارسة الأسلاك المسلّحة لحقّ الانتخاب و ذلك حرصا منه على مصلحة البلاد (!)، غيّر موقفه بين عشيّة و ضحاها و الأدهى و الأمرّ حصل ذلك بدون تقديم لأولائك الناخبين “الغلابى” أيّ تفسير لهذا الانقلاب في الرأي. يبدو أنّ تلك التطوّرات في المواقف حصلت نتيجة “لتنافقات” حزبيّة لا يفقه سرّها إلاّ الراسخون في التلاعب السياسي من أجل المصلحة الحينيّة الخاصّة.

مع ذلك، يبقى تمرير قانون الانتخاب من أهمّ إنجازات هذه المرحلة حيث سيسمح بإجراء الانتخابات البلديّة و الجهويّة و بذلك تركيز أسس الحكم المحلّي التشاركي الديمقراطي و هذا في حدّ ذاته إيجابي جدّا.

إلاّ أنّ الفصل السادس الذي بموجبه يخوّل للعسكرييّن و الأمنيين، الترسيم في سجلّ الناخبين للإنتخابات البلديّة و الجهويّة، جاء كما سأبيّنه فيما يلي، مخالفا للدّستور.

من خلال التحاليل والمواقف المعلنة و السابقة للتصويت على القانون، يمكن تلخيص الموقفين الرئيسيين للكتل البرلمانيّة بإيجاز كما يلي:

أ. الموقف الأوّل: تعليق ممارسة حقّ الانتخاب باعتبار خصوصيّات تلك الأسلاك و متطلّبات نجاحها في أداء مهامها أي لمقتضيات الأمن العام و الدّفاع الوطني كما يسمح به الفصل 49 من الدّستور،

ب. الموقف الثاني: اعتبار أفراد تلك الأسلاك مواطنين عاديين كسائر بقيّة التونسيّين، دون أيّ تمييز عملا بالفصل 21 من الدستور، لهم ما لغيرهم من حقوق و حرّيات دستوريّة.

فجوهر المسألة إذن يتعلّق بصفة أفراد الأسلاك المسلّحة، هل هم مواطنون ذوي خصوصيّات تبرّر تعليق ممارستهم حقّ الانتخاب، ما داموا يحملون السلاح، أم هم مواطنون بالمفهوم العام لا فرق مطلقا بينهم و بين غيرهم من المواطنين التونسيين ؟ و من الواضح أنّ الذين صادقوا على الفصل السادس، اعتمدوا الرأي الثاني القائل بالتساوي المطلق بين حامل السلاح و المواطن العادي.

فلنسلّم بهذا الأمر و ننظر في مدى دستوريّة ذلك الفصل من هذا المنطلق.

جاء بالفصل السادس من قانون الانتخاب موضوع هذا المقال : ” يرسّم بسجّل الناخبين العسكريّون وأعوان قوات الأمن الداخلي في الانتخابات البلدية والجهوية دون سواهما” و هو يتضمّن صراحة التناقضات العديدة التاليّة مع ما جاء بالدستور:

1. حرمان هذا الصنف من بقيّة الانتخابات، التشريعيّة و الرئاسيّة و كذلك من الاستفتاءات، و هذا يعدّ تمييزا لهم عن غيرهم مخالفا للفصل 21،

2. حرمانهم من حقّ الترشّح للمناصب النيابيّة و ذلك في كلّ المستويات، البلديّة و الجهويّة و التشريعيّة و الرئاسيّة، و في هذا إقصاء لهم من مجموع المواطنين، هو أيضا إجراء مخالف للفصل 21،

3. التنصيص عليهم بصفة خاصّة في فصل خاصّ هو في حدّ ذاته تمييز لا مبرّر له و مناقض للفصل 21 من الدستور،

4. يقضي الدستور في فصليه 18 و 19 بأن تؤدّي كلّ من المؤسّستين العسكريّة و الأمنيّة «مهامها في حياد تامّ». إلاّ آنّ ممارسة عمليّة الإنتخاب تفترض من الناخب، العسكري و الأمني في هذه الحالة، أن يولي اهتماما بالشأن السياسي من أحزاب و مترشّحين و برامج و خيارات سياسيّة حتّى تتبلور لديه مواقف و قناعات شخصيّة يصوّت للجهات السياسيّة التي تتبنّاها. و بالتصويت فهو يعبّر عن قناعات سياسيّة يمكن أن تتطوّر إلى ميولات و لا شيء يمنعها من أن تصبح ولاءات، من المستحيل ضمان عدم تأثيرها على كيفيّة أداء أصحابها لمهامهم و على التزامهم بالحياد التام المطالبين به بالدستور. و الحياد السياسي لا يقف طبعا عند عدم الانتماء الحزبي، بل يقتضي من حاملي السلاح و مؤسّساتهم المحافظة على صبغتهم اللاسياسيّة و هو ما يعني البقاء بعيدا كلّ البعد عن الشأن السياسي، عدم الاشتغال بالسّياسة و عدم لعب أيّ دور سياسي بل بالعكس الخضوع لسلطة سياسيّة مدنيّة. و لا يكمن الخطر في تسيّس المؤسّستين و أفرادها فقط، بل يشمل خاصّة مناورات و سعي الأحزاب السياسيّة ذاتها لاستمالتهم و ضمان اصطفافهم لجانبها. ألم يصرّح مؤخّرا السيد وزير الداخليّة أنّ كلّ الأحزاب تسعى لوضع يدها على الأجهزة الأمنيّة؟ كما أنّه ليس من الصعب تصوّر ما يمكن آن يحصل داخل الوحدات من انقسامات و انخرام الانضباط صلبها بسبب اختلاف توجّهات أفرادها السّياسيّة و نتيجة لمحاولات الفاعلين السّياسيين لاستمالتهم و الكلّ يعلم و الدستور يؤكّد على أنّ “الجيش الوطني جيش جمهوري وهو قوّة عسكريّة مسلّحة قائمة على الانضباط” ( الفصل 18). لتقدير خطورة الموضوع، يكفي تصوّر ما كان يحصل بتونس أثناء أحداث 2010/2011 أو بمناسبة ما عرف “باعتصام الرحيل” في صائفة 2013، لو لم يكن الجيش الوطني و المؤسّسة الأمنيّة بعيدين عن كلّ ما له علاقة بالسياسة. أمّا القول بأنّ دراية الأعوان بالشأن السياسي و المشاركة في الانتخابات لا تمنعهم من الإلتزام بالحياد التام، فهذا في

المرحلة الحاليّة حيث لا زالت السياسة تطغى على كلّ كبيرة و صغيرة، غير واقعي و لا شيء يضمن تجسيده في الواقع.

إنّ مخاطر تسيّس الأسلاك المسلّحة، عبر ممارسة حق الانتخاب، هي أكثر من واردة و بذلك يكون الفصل السادس من قانون الانتخاب مخالفا تماما لروح الفصلين 18 و 19 من الدستور.

5. بموجب قوانينهم الأساسيّة الخاصّة و التراتيب الداخليّة لكلّ مؤسّسة، كان العسكريّون و الأمنيّون و لا يزالون حتّى بعد تمرير هذا القانون، محرومين من العديد من الحقوق الدستوريّة و هذا طبعا غير دستوري إذ يتعارض مع جلّ فصول الباب الثاني من الدستور، باب “الحقوق و الحرّيات” و خاصّة:

* “حرّية الرأي و الفكر و التعبير و الإعلام و النشر” (الفصل31)،

* “حرّية تكوين الأحزاب و النقابات و الجمعيّات” (الفصل 35)،

* “حريّة الاجتماع و التظاهر السلميين ” (الفصل37)،

* حرّية التنقّل ” لكل مواطن الحرية في اختيار مقر إقامته و في التنقل داخل الوطن و له الحقّ في مغادرته” (الفصل 24).

6. ثمّ ماذا عن القيود الواردة بالأنظمة الخاصّة و التراتيب الداخليّة من تراخيص للزواج و للسّفر خارج البلاد و حتّى التنقّل داخلها و الحال أنّ الدستور يضمنها؟

ألا تكفي تلك الخرقات المتعدّدة لما جاء بالدستور من حرمان هؤلاء المواطنين، أبناء الأسلاك المسلّحة، من تلك الحقوق و الحرّيات و تمييزهم سلبيّا عن بقيّة المواطنين، لاعتبارالفصل السادس من قانون الانتخاب و الاستفتاء الجديد مخالفا للدستور أي لا دستوريّا ؟

ملاحظة: للأسف لا يمكن لا للمواطنين و لا لجمعيّات المجتمع المدني الطّعن في دستوريّة القوانين. أمّا النواب الذين لهم حقّ الطعن، فهم منهمكون في الحسابات السياسيّة و الأمل فيهم ضعيف.

* حفظ الله تونس –

أمير لواء (متقاعد) محمد المؤدب

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *