لماذا لا تستفيد تونس من التجربة الفرنسية مع أمريكا ؟ بقلم جنات بن عبد الله

حتى لا نقع في فخّ الحكومات المتعاقبة في التعارض مع الاتحاد الأوروبي

عبّر عدد من نواب البرلمان الفرنسي في جلسة اول امس عن استيائهم بخصوص غياب الشفافية وصعوبة النفاذ الى النصوص والتقارير المتعلقة باتفاقية التبادل الحر للتجارة والاستثمار بين الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأمريكية التي انطلقت في جويلية 2013، وطالبوا الوزير الأول الفرنسي بالتدخل لدى المفوض الأوروبي لتمكينهم من حقهم في النفاذ الى المعلومة، دعوة توجه بها عدد من النواب على خلفية انطلاق جولة جديدة من المفاوضات بين الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأمريكية الأسبوع القادم من 22 الى 26 فيفري الجاري في ظل معارضة واتهامات وجهت الى الرئيس الفرنسي والوزير بتدمير القطاع الفلاحي الذي يعاني ازمة وفرة الانتاج، بقبول فرنسا التي تقود الاتحاد الأوروبي التفاوض مع الولايات المتحدة الأمريكية.
من جهة أخرى دخل مربو قطاع الماشية وقطاع الالبان في حركات احتجاجية بداية من هذا الأسبوع في عديد المناطق الفرنسية للمطالبة باجراءات عاجلة لانقاذ القطاعين في ظل ازمة حادة افرزها الركود الاقتصادي العالمي الذي تجسد من خلال تراجع الطب على منتوجات هذين القطاعين. تراجع الطلب تسبب في تراجع الاسعار عند الانتاج مما أثر على دخل الفلاح الذي اصبح يعاني صعوبات مالية حادة.
الأزمة التي يواجهها القطاع الفلاحي في فرنسا وفي عدد من البلدان الأوروبية مثل اسبانيا وبولونيا هي أزمة وفرة الانتاج وتجاوز العرض الطلب مما تسبب في تراجع الأسعار عند الانتاج وبالتالي عند الاستهلاك … وضعية كبدت أهل القطاعين خسائر كبيرة تهدد اليوم بتدمير القطاعين …

الاستثناء الفلاحي !
الحكومة الفرنسية تحركت على المستوى الداخلي باتخاذ اجراءات عاجلة، وعلى المستوى الأوروبي في اطار السياسة الفلاحية المشتركة لانقاذ قطاع تربية الماشية وتقديم الدعم والمساعدات المالية …
تفاعل المفوضية الأوروبية مع المطالب الفرنسية كان محتشما حيث اتهمت فرنسا بضعف سياستها الفلاحية … الا ان ذلك لم يمنع المفوض الأوروبي من الاستماع الى وزير الفلاحة الفرنسي وقبول تسريح اعتمادات هامة في انتظار فريق العمل الذي كلفه المفوض الأوروبي بتقديم مقترحات تقطع مع كل ما هو تقليدي لانقاذ القطاع الفلاحي ككل.
ملامح هذه المقترحات بدأ الحديث بشأنها منذ مدة وتهدف الى استثناء المنتوج الفلاحي من قوانين المنافسة وقانون السوق. بعبارة اخرى تحرير حركة الاسعار من قانون العرض والطلب واعطاء صلوحيات للدولة للتدخل في ضبط الاسعار بما يؤمن تغطية تكاليف الفلاح وتؤمن له الدخل الكافي لضمان ديمومة نشاطه.
مثل هذا التوجه الجديد يستند الى طبيعة المنتوج الفلاحي وهو منتوج قابل للاتلاف ولا يمكن خزنه خلال مدة طويلة على غرار المنتوجات الصناعية مثل السيارات والتجهيزات، ورقة كشف عنها الأوروبيون لاعادة النظر في السياسات الفلاحية وخاصة سياسة الدعم التي تبقي العمود الفقري للسياسة الفلاحية المشتركة في أوروبا في اتجاه تعزيزها ولكن بما لا يتناقض مع احكام اتفاقية الفلاحة ومبادئ النظام التجاري متعدد الأطراف للمنظمة العالمية للتجارة.
المقترحات المنتظرة من فريق العمل الذي كلفه المفوض الأوروبي ستعمل على مراعاة عدم تضاربها مع احكام النظام التجاري متعدد الأطراف بما يضمن عدم امكانية طعن البلدان الاعضاء بالمنظمة بما فيها الولايات المتحدة الأمريكية التي لها امكانيات ضخمة في مجال التحكيم الدولي، في هذه المقترحات … توجه ذكي توصلت اليه اوروبا لحماية القطاع الفلاحي الأوروبي في مواجهة الشركات العالمية والأمريكية التي تستعد لاقتحام السوق الأوروبية بفضل اتفاقية التبادل الحر للتجارة والاستثمار بين الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأمريكية.
… بعد الاستثناء الثقافي
خيار الاستثناء الفلاحي جاء على ضوء نجاح اوروبا بزعامة فرنسا في تسعينات القرن الماضي في مستوى التفاوض حول تحرير قطاع الخدمات وبالتحديد تحرير القطاع السمعي البصري حيث رفضت فرنسا اعتبار المنتوج السمعي البصري كسلعة وبالتالي اخضاعه لقانون العرض والطلب، توجه تبنته الولايات المتحدة الأمريكية في ظل تفوقها في المجال امام اوروبا التي طالبت باستثنائه من المفاوضات والتعاطي معه كمنتوج ذي خصوصية ترتبط بالهوية والموروث الحضاري والثقافي لكل بلد.
وبفضل هذا التوجه نجحت اوروبا في تعطيل المفاوضات في هذا الباب لتقديم الدعم للقطاع السمعي البصري ومساندة الدولة له مما عزز قدرته التنافسية.
ما تسعى فرنسا للقيام به اليوم مع القطاع الفلاحي يندرج ضمن هذا السيناريو الذي ربحت به معركتها ضد المنافسة الامريكية الشرسة في المجال السمعي البصري …
وفي هذا السياق تبحث اوروبا اليوم عن مسالك وآليات لدعم القطاع الفلاحي بما يضمن انقاذ القطاع باقرار اجراءات تحاول اقناع الجميع بعدم تضاربها مع آليات احكام اتفاقيات المنظمة العالمية للتجارة … طريقة ديبلوماسية ذكية لربح المعركة اليوم في المجال الفلاحي بتعطيل المفاوضات أو تأجيلها.
الحكومة الفرنسية وتحت ضغط الفلاحين والمجتمع المدني اعلنت عن اجراءات عاجلة واستثنائية لانقاذ قطاع تربية الماشية وقطاع الالبان … اجراءات تتضارب مع نظام اقتصاد السوق عرفت الحكومة التسويق لها وتطبيقها بعيدا عن انتقادات الليبراليين.
هذه الاجراءات تتمثل في بعث صندوق لدعم قطاع اللحوم تموله شركات التوزيع الكبرى الفرنسية بقيمة 100 مليون أورو يقدم الدعم المباشر للمربين خلال ستة اشهر مع التزام المساحات الكبرى بالمحافظة على مستوى السعر عند الانتاج رغم وفرة الانتاج. كما تعهدت الحكومة الفرنسية بالتخفيض في الاعباء الاجتماعية التي يتحملها الفلاح كخطوة في اتجاه تخفيض تكاليف الانتاج.
ماذا بعد اقصاء السلطة التشريعية ؟
تفاعل الحكومة الفرنسية ووراءها المفوضية الأوروبية، وسرعة التحرك لتقديم الحلول لانقاذ قطاعي تربية الماشية والالبان في اطار سيناريو ذكي ضمنت به انقاذ القطاع الفلاحي من جهة، وتعطيل المفاوضات مع الولايات المتحدة الامريكية من جهة اخرى يدفعنا للتساؤل عن موقف الحكومة التونسية من المفاوضات التي ستنطلق بين تونس والاتحاد الأوروبي في شهر افريل المقبل حول اتفاقية التبادل الحر الشامل والمعمق الرامي لتحرير قطاعي الفلاحة والخدمات والاستثمار بعد تصويت اللجنة البرلمانية للتجارة بالبرلمان الاوروبي يوم الاثنين الماضي على بدء المفاوضات مع تونس.
المجتمع المدني في تونس وعدد من الخبراء الاقتصاديين تحركوا في اتجاه تنبيه الحكومة لمخاطر الانخراط في التفاوض حول تحرير قطاعي الفلاحة والخدمات والاستثمار خاصة في ظل غياب شرط التكافؤ بين الطرفين وهشاشة القطاع الفلاحي وغياب تقييم تجربة اتفاقية الشراكة لسنة 1995 … تحرك قوبل بتطمينات لا تستند الى دراسات وتعكس عدم وعي النخبة السياسية بخطورة تداعيات تحرير القطاعين الفلاحي والخدمات على سيادتنا الوطنية في المجال الاقتصادي. من جهة اخرى التحرك المكثف لسفيرة الاتحاد الأوروبي بتونس لاورا بائيزا هذه الأيام لتسويق مقدمات اتفاقية التبادل الحر ومن بينها برنامج مساندة تنافسية الخدمات (programme d’appui à la compétitivité) والترفيع (des services; le PACS) والترفيع في حصة تونس لتصدير زيت الزيتون الى أوروبا، تبعث على التساؤل بخصوص وعي هذه الحكومة بخلفية هذا التحرك والأطراف المساندة له في ظل غياب السلطة التشريعية واقصائها من متابعة الموضوع.
ففي الوقت الذي كنا ننتظر فيه دورا للسلطة التشريعية في تناول الملف وتشريك المجتمع المدني وتوفير المعطيات ونصوص الاتفاقية لبحثها من زاوية نتائج دراسة تقييمية لاتفاقية الشراكة لسنة 1995 من قبل مؤسسات وطنية مستقلة، نكتشف اعترافا بهذه الاتفاقية ومتطلباتها من خلال اعتمادها بالوثيقة التوجيهية للمخطط الخماسي للتنمية وبمجلة الاستثمارات الجديدة … توجه يعكس عجز هذه الحكومة على استنباط الحلول التنموية حسب متطلبات المرحلة وانخراطها في مسار الاصلاحات الاقتصادية والاجتماعية كما اقترحتها الجهات المانحة والممولة لعملية الانتقال الديمقراطي والانتقال الاقتصادي.

ارادة سياسية مفقودة
السيناريو الذي توصلت اليه فرنسا ووراءها اوروبا لانقاذ القطاع الفلاحي ومواجهة المنافسة الأمريكية في اطار اتفاقية التبادل الحر للتجارة والاستثمار كشف عن قوة الارادة السياسية لدى الاوروبيين في الحفاظ على كيانهم في مواجهة المنافسة الخارجية، هذه الارادة السياسية القوية فتحت الباب امام المختصين والخبراء للبحث عن حلول بعيدة عن الخضوع والتبعية والتكرار وتقطع مع كل ما هو سهل وعادي … فخ وقعت فيه الحكومات التونسية المتعاقبة بعد الثورة وحكومة الائتلاف التي بقيت وفية لثقافة «ليس بالامكان أحسن مما كان» … لتسقط في دائرة فارغة وتجر معها ما تبقى من السيادة الوطنية في تقرير منوال التنمية ومخطط التنمية …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *