لماذا أخفت حكومة الشاهد جريمة محافظ البنك المركزي؟ .. بقلم جنات بن عبد الله

صادق يوم الجمعة الماضي 14 أكتوبر 2016 مجلس الوزراء على مشروع قانون المالية لسنة 2017 في ظل جدل لا يزال قائما بين الاتحاد العام التونسي للشغل وعدد من المنظمات المهنية حول مفهوم تقاسم التضحيات لتأمين موارد إضافية لميزانية الدولة.
حكومة الشاهد أكدت على لسان ناطقها الرسمي أنها استجابت الى “حزمة مطالب نقابية واجتماعية وجبائية”، كما التزمت بعدم رفع الدعم عن المواد الأساسية في خطوة للحفاظ على المقدرة الشرائية للطبقات الضعيفة والمتوسطة، كما أكدت التزامها بتخفيض مدة تجميد الأجور من 3 سنوات (وهو ما التزمت به تجاه صندوق النقد الدولي) الى سنة واحدة شرط تحقيق نسبة نمو ب 3 بالمائة في سنة 2017.
الصيغة التي سوقت بها حكومة الشاهد مشروع قانون المالية لسنة 2017 نجحت ظاهريا في امتصاص غضب الرافضين للإصلاحات بإيهامهم باستجابتها لمطالبهم في إطار ما تسمح به اكراهات المرحلة الراهنة والقادمة. وفي قراءة للمؤشرات التي قدمتها حكومة الشاهد بخصوص مشروع قانون المالية لسنة 2017 يتضح أن هذا المشروع قد قام على مغالطة الرأي العام، وعلى سياسة “ذر الرماد على الأعين”، و”الضحك على الذقون” من جهة، وأن الجدل الذي اندلع بين الحكومة واتحاد الشغل على خلفية الضغط على كتلة الأجور للضغط على عجز ميزانية الدولة من خلال تجميد الزيادة في الأجور لمدة ثلاث سنوات وإصلاح الوظيفة العمومية كان زوبعة في فنجان لتحويل اهتمام الرأي العام الوطني عن القرارات الخطيرة التي تم تمريرها في هذا المشروع من جهة أخرى. ولئن لا يمكن التعرض الى كل هذه القرارات باعتبارها تتعلق بمسائل جبائية واجتماعية واقتصادية ومالية ونقدية وغيرها فإننا سنقتصر على البعض منها والتي تشكل الأرضية التي انطلق على أساسها الاعداد لمشروعي ميزانية الدولة وقانون المالية.
فقد اعتمد اعداد مشروع قانون المالية على فرضية تحقيق نسبة نمو في السنة المقبلة في حدود 2.7 بالمائة وهي النسبة التي ضبطت على أساسها الموارد الجبائية المتوقعة وحددت على أساسها توقعات نسب نمو القطاعات والأنشطة الاقتصادية، الفلاحية منها والصناعية والخدمات. وبالرجوع الى قانون المالية لسنة 2016 يتضح أن حكومة الشاهد لم تتعظ من تجربة حكومة الصيد ولا الحكومات المتعاقبة بعد الثورة والتي اعتمدت نسب نمو مستحيلة التحقيق لضمان تمرير مشروعي الميزانية وقانون المالية على مجلس نواب الشعب وايهام الرأي العام الوطني بتوازنات مالية سليمة لتسارع في منتصف كل سنة الى تحيين قانون المالية في اتجاه التخفيض في نسبة النمو ونسف ميزانية الدولة خاصة في مستوى ميزانية التنمية المتعلق بالاستثمارات العمومية القادرة على خلق مواطن شغل، تصرف يشكك في مصداقية الحكومات وفي قدرتها على التمكن من منهجية اعداد الميزانية ليتكبد المواطن نتائج هذه المغالطات في مستوى خلق مواطن الشغل وجودة خدمات المرفق العمومي وارتفاع الأسعار وتدهور مقدرته الشرائية وتفاقم المديونية الخارجية باعتبار تعويض تراجع الإنتاج بالتوريد.
ان الإعلان عن توقع تحقيق نسبة نمو في حدود 2.7 بالمائة في سنة 2017 هو اعلان يحمل في طياته مغالطات كبيرة بناء على نسبة النمو المتوقع تحقيقها خلال هذه السنة. فحكومة الصيد أعلنت سابقا عن نسبة نمو ب 2.5 بالمائة للناتج المحلي الإجمالي في سنة 2016 وسارعت في شهر جويلية الماضي في جلسة في مجلس نواب الشعب بتاريخ 12 جويلية 2016 الى الإعلان عن مراجعة قانون المالية وتحيينه و”اعتماد توازنات مالية جديدة استنادا الى التغيرات الاقتصادية خلال السداسي الأول من السنة وتقديرات السداسي الثاني وذلك بالتخفيض في نسبة النمو التي قدرت في حدود 2.5 بالمائة”. وأشار وزير المالية آنذاك الى “أن تدهور قيمة الدينار التونسي حمل ميزانية الدولة أعباء إضافية بقيمة 400 مليون دينار”.
وانطلاقا من بيان مجلس إدارة البنك المركزي المنعقد في أواخر شهر أوت 2016 فقد سجل السداسي الأول من السنة الجارية نسبة نمو ب 1.2 بالمائة. واستنادا الى المعطيات الشحيحة المتوفرة في ظل تراجع البنك المركزي عن نشر تحاليله الدورية للظرف الاقتصادي على المستوى الوطني فان نسبة النمو المتوقعة لهذه السنة، والتي قدرها صندوق النقد الدولي في حدود 1.8 بالمائة بناء على تقديرات مرتبطة بعودة الإنتاج في قطاع الفسفاط، لن تتعدى الواحد بالمائة في أحسن الحالات باعتبار الركود الاقتصادي، والتي ستعزى بالأساس الى تطور الخدمات غير المسوقة أي كتلة الأجور كما كان الشأن بالنسبة للحكومات السابقة التي كانت تتباهى بنسب نمو إيجابية حققتها بفضل الزيادة في الأجور. من هذا المنطلق فإننا نتساءل عن الفرضيات التي اعتمدتها حكومة الشاهد لبلوغ نسبة 2.7 بالمائة السنة المقبلة خاصة وأنها لا تتطابق مع النسبة التي توقعها صندوق النقد الدولي في تقريره الأخير والتي ضبطها في حدود 2.5 بالمائة بناء على شرطين أساسيين يتمثل الأول في تحقيق درجة عالية من الاستقرار الاجتماعي، والثاني في تطور الطلب الخارجي. ونشير في هذا المستوى الى أن تقرير صندوق النقد الدولي، وبخصوص الشرط الثاني، تعرض الى دور المبادلات التجارية الخارجية لتحسن نسبة النمو لا من جهة العرض أي التصدير من تونس ولكن من جهة طلب الأسواق الخارجية وذلك على خلفية ما يقوم به الاتحاد الأوروبي في كل مرة ولفترة وجيزة، وفي إطار توزيع الأدوار، من ترفيع حصة تونس من صادرات زيت الزيتون للتباهي بمساندته للانتقال الديمقراطي في تونس في حين أن العملية لا تتعدى هدية ملغومة لاستدراج حكام تونس الجدد للتوقيع على مشروع اتفاقية التبادل الحر الشامل والمعمق.
وبقطع النظر عن مدى واقعية فرضيات صندوق النقد الدولي ونزاهتها والتي تبقى خاضعة لتقييم المواطن التونسي الذي يعيش اليوم على وقع ضرب مقدرته الشرائية من جميع المستويات، فان ما صدر عن حكومة الشاهد بخصوص التزامها التخفيض في مدة تجميد الأجور من ثلاث سنوات الى سنة واحدة شرط تحقيق نسبة نمو ب 3 بالمائة في سنة 2017 لا يمكن أن يخرج عن منطق استبلاه الطبقة الشغيلة ومغالطة منظمتهم العريقة، خاصة اذا ما أخذنا في الاعتبار تداعيات جريمة الصرف المشتركة بين محافظ البنك المركزي وحكومة الصيد المتعلقة بالتخلي عن حماية العملة الوطنية في سوق الصرف بما أدى الى تدهور قيمة الدينار منذ شهر ماي الماضي وذلك بمقتضى الالتزام الذي تعهد به محافظ البنك المركزي ووزير المالية في حكومة الصيد في رسالة النوايا التي بعثا بها الى المديرة العامة لصندوق النقد الدولي بتاريخ 2 ماي 2016 مباشرة بعد مصادقة مجلس نواب الشعب على النظام الأساسي للبنك المركزي حيث يرمي هذا الالتزام الى ترك الدينار التونسي لمتطلبات قانون العرض والطلب بسوق الصرف والاعتراف بأن قيمته لا تعكس حقيقة هذه السوق. لقد تعمدت حكومة الشاهد عند اعدادها وتسويقها لمشروع قانون المالية إخفاء جريمة محافظ البنك المركزي بالاشتراك مع حكومة الصيد وتداعياتها على القدرة التنافسية للمؤسسات الاقتصادية التونسية التي تعتمد على توريد المواد الأولية ونصف المصنعة من جهة، وعلى المقدرة الشرائية للمواطن من جهة أخرى باعتبار اثارها على ارتفاع الأسعار في غياب الإنتاج المحلي وتفاقم التوريد الذي يشمل كل الجوانب المعيشية للمواطن انطلاقا من الحبوب والأدوية والملابس والزيوت والمحروقات والنقل ..
ان تصريح الناطق الرسمي للحكومة بأن مشروع قانون المالية “يكرس الحفاظ على المقدرة الشرائية للطبقات الضعيفة والمتوسطة عبر تجميد أسعار المواد الأساسية” لا يخرج هو أيضا عن منطق الاستبلاه والمغالطة باعتبار أن المقدرة الشرائية قد دخلت اليوم مسارا تنازليا باعتبار تجميد الأجور من جهة، وتدهور قيمة الدينار التونسي من جهة أخرى. ان اعلان الحكومة عن تجميد أسعار المواد الأساسية يندرج ضمن سياسة “ذر الرماد على الأعين” باعتبار أن وزن هذه المواد، وهي الحبوب والزيوت النباتية والحليب والعجين والسكر والورق المدرسي، يبقى ضعيفا بالرجوع الى الأوزان التي يعتمدها المعهد الوطني للإحصاء لاحتساب مؤشر الأسعار عند الاستهلاك العائلي حيث تمثل مجموعة التغذية والمشروبات 28 بالمائة من نفقات الأسرة والتي لا تقتصر على المواد الأساسية، التي تبقى أسعارها مؤطرة، بل تشمل مواد أخرى مثل الغلال والخضر والفواكه الجافة واللحوم والبيض والمياه المعدنية والمشروبات الغازية والعصير…والتي تخضع أسعارها لقانون العرض والطلب وتبقى أسعارها مرشحة للارتفاع في السنة القادمة. كما تتجه 17 بالمائة من نفقات الأسرة الى مجموعة السكن والطاقة المنزلية، وينتظر أن تشهد أسعارها هي أيضا ارتفاعا في السنة المقبلة لاعتبارات يعرفها الجميع …
ان نواب الشعب الوطنيين مدعوون عند مناقشة مشروع قانون المالية لسنة 2017 الى كشف المغالطات التي جاءت في هذا المشروع والتدقيق في تداعيات جريمة محافظ البنك المركزي على المديونية الخارجية. كما أن المنظمة الشغيلة مدعوة الى مطالبة الحكومة ومجلس نواب الشعب بدعوة البنك المركزي الى إيقاف تدهور قيمة الدينار بما يساهم في الضغط على التضخم خلال فترة تجميد الأجور كخطوة لإنقاذ المقدرة الشرائية من الانزلاق في متاهات الاحتجاجات الاجتماعية.
ولئن نعلم أن البنك المركزي يحتمي اليوم بنظامه الأساسي الجديد الذي يكرس استقلاليته فان المستقبل المظلم الذي ينتظر البلاد يحتم التحرك من أجل تطويق المخاطر التي سيفرزها تطبيق مثل هذا المشروع.
حرر يوم السبت 15 أكتوبر 2016

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *