كوريا الجنوبية من التقسيم والحرب إلى الرخاء والازدهار: هكذا خططت سيول لتصبح القوة الاقتصادية 12 في العالم والأسرع نموا .. بقلم سفيان رجب

من الصعب على أي دولة أن تبني نفسها في ظرف 60 سنة فحسب، ومن الصعب على أي دولة أن تكون أرقامها الاقتصادية ومؤشراتها التنموية أقل من الصفر لتوشك في مدة قصيرة على بلوغ الرقمين مع ضوء أخضر في جميع المجالات دون استثناء..تلك هي تجربة أو نموذج كوريا الجنوبية التي سمحت لي الظروف بزيارتها مؤخرا ضمن وفد صحفي تونسي ومصري في إطار الجولة الإعلامية التي ينظمها العملاق الكوري “آل جي” سنويا للاطلاع على التطور الذي تشهده البلاد وآخر ابتكارات ومنتوجات الشركة التي ستنزل للأسواق بعد أشهر.

التقسيم والحرب الكورية دمّرا الاقتصاد

ولا يمكن الحديث عن كوريا الجنوبية اليوم ومدى التطور الذي وصلته دون العودة إلى الوراء حيث كانت عند استقلالها عن اليابان في 15 أوت 1948 واحدة من أفقر دول العالم ولم يكن دخل الفرد فيها يتعدى 80 دولارًا في السنة. وزاد الوضع

سوءا بعد التقسيم الذي شتت الاقتصاد وموارد الدولة لتكون الضربة القاضية للاقتصاد خلال وبعد الحرب الكورية (1950-1953) والتي ألحقت دمارًا مسّ كل القطاعات وقُدرت الأضرار الناجمة عن الحرب بالنسبة لكوريا الجنوبية وحدها بحوالي 69 مليار دولار أي ما يعادل خمس مرات الناتج الإجمالي للدولة حينها.

أما البنية الصناعية فقد انهارت تماما حيث دمّر 68% من مجموع المصانع وتراجع الإنتاج الصناعي بحوالي 75%، كما تراجع إنتاج الأرز بـ65%. ومع انتهاء الحرب، تراجع دخل الفرد إلى حوالي 50 دولارًا سنويًا، وأصبحت كوريا تعيش على المساعدات الخارجية بشكل كامل.

ثورة فكرية وتنموية

هذا الوضع الاقتصادي المظلم لم يكن أكثر المتفائلين يأمل في أن يتحسن ولو جزئيا، لكن وبوصول الجنرال “بارك تشونغ هي” إلى سدة الحكم (1961-1979)، منح للتنمية الاقتصادية أولوية كبرى فأنشأ بنوكًا حكومية وأمّم البنوك الخاصة للتحكم في القروض وتوجيهها وفق ما تقتضيه الخطط التنموية، وغيّر إستراتيجية التنمية الاقتصادية من إستراتيجية تعتمد كليا على التوريد إلى أخرى تعتمد على اقتصاد موجه نحو الصادرات. وكانت نتيجة ذلك توفر العملة الصعبة بالشمل الكافي مما ساعد على اشتراء التكنولوجيا التي يحتاجها

القطاع الصناعي الناشئ والمرور بسرعة إلى مرحلة التصنيع والتخلص من التبعية الاقتصادية ثم الدخول في مرحلة التصدير الصناعي وبعده التكنولوجي.

واعتمدت كوريا على المخططات الخماسية بداية من سنة 1962 وأنشأت للغرض مؤسسة كاملة تحمل اسم مجلس التخطيط الاقتصادي للإشراف على التخطيط وتنفيذ المخططات التي تركزت على تأمين مصادر الطاقة وتحسين البنية التحتية وتحسين ميزان المدفوعات الخارجية عن طريق زيادة حجم الصادرات. وارتفع الناتج الإجمالي المحلي من 4.1% سنة 1962 إلى 9.3% سنة 1963 ليحافظ النمو على نفس المعدل تقريبا طيلة السنوات اللاحقة.

البحث العلمي.. تشجيع الخواص ودور الشركات العملاقة

وباعتبار ضعف الدولة الخارجة لتوها من الحرب، منحت السلطة الدور الريادي إلى القطاع الخاص لقيادة الاقتصاد وخدمة الأهداف التنموية. وساندت الدولة هذه الشركات للاستثمار في مجالات اقتصادية وصناعية جديدة في إطار ما ترسمه الدولة من مخططات وذلك عبر منحها امتيازات عديدة من مساعدات مالية وتمويلات تفضيلية وضمان الدولة للقروض الخارجية والحماية من اتحادات العمال… وهو ما أعطى ثماره بشكل واضح وسريع حيث نمت هذه الشركات لتتحول إلى “عملاقة” ومصدرة لكل دول العالم لتنمو

الصادرات والموارد الكورية بفضل صناعات كانت في البداية “خفيفة” قبل المرور إلى قطاعات جديدة تستطيع المنافسة على الصعيد العالمي أقرها المخطط الاقتصادي الخماسي الثالث الذي أعطى الأولوية للصناعات الكيمياوية والثقيلة والتكنولوجيا. ولتحقيق هذا الهدف وتطبيق ما تم اعتماده في المخطط الثالث، تم إنشاء مدارس التكوين المهني ومعاهد تكوين المهندسين والعلماء ومراكز البحوث والتشجيع على البحث العلمي..كما تمّ التركيز على تشجيع الصناعات الكبرى مثل بناء السفن والبتروكيمياويات والصلب والتكنولوجيات ومنحت هذه الصناعات إعفاء ضريبيا كاملا خلال السنوات الثلاث الأولى، وتكفلت الدولة بتجهيز المناطق الصناعية وربطها بشبكة الطرق والماء والكهرباء.

المرتبة 12 في سلم أعظم القوى الاقتصادية

بحلول 1992، حققت هذه الصناعات نجاحًا كبيرًا في الأسواق الخارجية وأصبحت تشكّل 60.4% من حجم الصادرات، لتواصل كوريا نموها التدريجي رغم ما رافق العالم وقتها من هزات اقتصادية لتحتل البلاد اليوم المرتبة 12 في سلم أعظم القوى الاقتصادية في العالم والأسرع نموا في السنوات الأخيرة إلى جانب هونغ كونغ وسنغافورة، وتايوان. كما أن سيول تعد اليوم سادس أكبر مصدر في العالم.

ويحتل اقتصاد كوريا الجنوبية المرتبة 11 في الترتيب العالمي والرابع آسيويا وذلك بفضل قوة ناتجها الداخلي الخام والدخل الفردي الكبير مع ارتفاع مؤشر التنمية البشرية (الرتبة العالمية 26) ومؤشر بطالة ضعيف (3,1٪) .

كما يتميز الاقتصاد الكوري بقوة إنتاج صناعي هائلة هزت به كل الأسواق العالمية من سيارات وصناعات الكترونية دقيقة لتحتل المرتبة العالمية 2 في صناعة السفن،و3 في صنع الأجهزة الالكترونية الدقيقة و5 في صناعة الصلب و6 في إنتاج السيارات (هيونداي،كيا)..

هذه قصة نجاح كوريا الجنوبية ومسيرة تحولها في ظرف 60 سنة من دولة مفلسة إلى قوة اقتصادية عالمية تتحكم في عدد من الأسواق العالمية بفضل تخطيطها المحكم وقدرة وفطنة حكامها وتضحية شعوبها وكفاءة خبراتها.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *