“كان وسيلة لتدمير حياتنا:” نساء تونسيات يتحدثن عن التمييز الديني في عهد المخلوع

أغلقت أمس هيئة الحقيقة والكرامة التونسية أبوابها لإيداع الملفات، لتنتهي مرحلة أولى من رحلة طويلة. وقبل شهر، قدمت مجموعة من الجمعيات النسائية، التي أطلقت شبكة ” العدالة الانتقالية للنساء أيضا” بالتعاون مع المركز الدولي للعدالة الانتقالية، ملفاً جماعياً عن التمييز الممنهج الذي تعرضت له النساء المحجبات في عهد الديكتاتورية.

ضمن سلسلة لسبر أغوار تجاربهن الشخصية، وجهودهن في الشبكة، وسعيهن لضمان مستقبل أفضل لتونس، يفتتح المركز الدولي للعدالة الانتقالية هذا الأسبوع بأربع قصص لنساء تعرضن لأنواع مختلفة من الانتهاكات. وبعد، فهن يعتقدن أن العدالة الانتقالية هي الضامن الوحيد لعدم تكرار مأساة الماضي.

قي أعقاب الربيع العربي، التزمت تونس بمعالجة إرثها من الانتهاكات يإنشاء هيئة الحقيقة والكرامة في عام 2013. واليوم، بعد أكثر من ثلاث سنوات وما يزيد عن من 50،000 من الملفات التي قُدمت لاحقاً، تنهي الهيئة مرحلة عملها من جمع الشهادات، والتي هي معلما هاما في جهود البلد لتوفير الاعتراف والتعويض لضحايا انتهاكات حقوق الإنسان.

كجهة مكلفة بالتحقيق في الانتهاكات الخطيرة التي وقعت في تونس بين أعوام 1955 و 2013، تهدف الهيئة إلى توفير منصة شاملة لجميع المتضررين من الممارسات التعسفية للنظام القمعي لتبادل الخبرات التي ظلت صامتة لعدة عقود. لم تكن عملية بسيطة، وخصوصا عندما يتعلق الأمر بالوصول إلى قطاعات معينة من المجتمع. فمنذ وقت قريب، وقبل خمسة أشهر، بلغت نسبة النساء ٥٪ فحسب من الشهادات المقدمة. يبلغ هذا العدد الآن نسبة 20٪، وهو رقم يعكس العمل الجاد من النشطاء وشجاعة النساء في المجتمع حيثما غالبا ما يتم وصمهن عند التعبير عن رأيهن.

أحد المبادرات النسائية جسدت الجهود لتضمين الأصوات النسائية في عملية الانتقال عبر المناطق التونسية. شبكة “العدالة الانتقالية للنساء أيضا”، والتي انبثقت في عام 2014، انطلقت كتعاون بين المركز الدولي للعدالة الانتقالية والعديد من المجموعات النسائية التونسية. وكان معظم أعضاء الشبكة أنفسهن ضحايا الدكتاتورية. لأكثر من سنتين، استخدمت الشبكة استراتيجيات مختلفة لتشجيع المزيد من النساء على تقديم قصصهن إلى الهيئة والعمل للوصول إلى النساء في مناطق مختلفة من البلد. شملت جهودهن رحلات ميدانية وندوات واجتماعات، وكذلك تجمعات اجتماعية أقل رسمية – مثل تجمعات الحي والعائلة – للوصول للنساء حيثما تواجدن.

في 16 مايو، شبكة “العدالة الانتقالية للنساء أيضا” قدمت لهيئة الحقيقة والكرامة ملفاً جماعياً من شهادات 140 امرأة من مختلف أنحاء تونس. هذا الملف التاريخي يحمل تفاصيل التمييز المنهجي الذي ارتُدكب ضد النساء المحجبات في ظل القوانين التي سُنت خلال فترة حكم الحبيب بورقيبة الذي يحظر حصولهن على العمل والتعليم.

بعد استقلالها في عام 1955، كان يُنظر لتونس من قبل جيرانها والعالم كدولة اتخذت خطوات واسعة نحو “تحرير النساء”، حيث ضمنت لهن فرص الحصول على التعليم والعمل. ومع ذلك، ميزت هذه السياسة ضد النساء المحجبات. فقد تم توصيف غطاء الرأس المعروف بالحجاب كرمز رجعي وطائفي من قبل الدولة العلمانية التونسية. في عام 1981، أصدرت الحكومة حظراً إدارياً للحجاب في المدارس ومكاتب الدولة عُرف بمنشور 108. اشتدت هذه السياسة في عهد بن علي، الذي جاء إلى الرئاسة عن طريق انقلاب في عام 1987. لم تطرد النساء المحجبات فقط من الكليات والمدارس، ولكن أيضا كن عرضة باستمرار لمضايقات الشرطة في الشوارع، والاستدعاء المتكرر إلى مراكز الشرطة، والإقصاء من القطاع الخاص. وبعد ثورة 2011، لا يظل المنشور التمييزي قائماً. في ملفها الجماعي، دعت النساء في الشبكة لإلغائه.

لم تعترف العديد من هاته النساء في البداية بفداحة معاناتهن: ظنن أن الانتهاك لا بد أن يتضمن التعذيب الجسدي أو السجن السياسي. ولكن حظر تغطية رؤوسهن الذي قد يبدو غير مضر أدى إلى حرمانهن من أحلامهن في التعليم العالي، وفرص العمل، واحترام المجتمع.

تقديم الملف هو نهاية المرحلة الأولى من رحلة طويلة، ومن الضروري الاستماع إلى النساء اللاتي قدن الشبكة لتقديم ذلك الملف التاريخي: توفر قصصهن معلومات مهمة بشأن الآثار طويلة الأمد للانتهاكات التي تعرضت لها النساء في الماضي لعدة عقود.

في الأسابيع المقبلة سوف يشارك المركز الدولي للعدالة الانتقالية المزيد من قصصهن وعمل الشبكة من خلال مقالات ولقاءات لدراسة الكفاح الشخصي والعمل الاستراتيجي الذي يدعم نضال النساء من أجل الاعتراف والتعويض في تونس.

خديجة (53 سنة)

” لقد كان حلما لعائلة فقيرة، سعت بكل ما أوتت من جهد لتقديم الدعم المالي لأدرس. كان من المفترض أن أدرس ومن ثم أعمل لأقدم الدعم لاحتياجاتهم. ولكن لم يشأ الله، ولا النظام في ذلك الوقت.”
شكوايا كانت حول منشور 108 سيء الذكر في الثمانينات في عهد بورقيبة. في أكتوبر 86، كنا مجموعة من الطالبات في المدرسة العليا للفلاحة في الكاف (محافظة في شمال غرب تونس ) في عامنا الأخير ندرس هندسة فلاحية. كان يوم الاثنين 2 أكتوبر. وكان هناك حملة قوية على الحجاب في ذلك الوقت. جاءت السلطات الأمنية لمدرستنا وتم استجوابنا في مكتب المدير. ثم نقلونا إلى منطقة الأمن في الكاف، حيث تم استجوابنا مرة أخرى، وأجبرنا على التوقيع على تعهد بعدم ارتداء هذه الملابس في المستقبل. بقينا هناك لأكثر من 10 ساعات. لم أستطع تحمل هذا نفسيا. مرضت وقضيت بقية اليوم في المستشفى الجهوي في الكاف. في اليوم التالي عدت إلى بلدتي. ظللت مريضة لمدة 20 يوما حتى أرسلت لنا [المدرسة] برقية أنه إذا لم نعد في خلال 24 ساعة سيتم طردنا.

عدت بعد أعطاني أحد الأطباء، جزاه الله خيرا، شهادة تؤكد أن لدي مشاكل صحية في السمع، وأنني لا يمكني نزع الغطاء عن رأسي. وهكذا عدت إلى الدراسة وحصلت على شهادة البكالوريوس في الهندسة الفلاحية في يونيو 88.

ثم بدأت في فترة البحث عن وظيفة، ولكن لم أستطع الحصول على أي عمل. أنا عاطلة عن العمل لمدة 25 عاما لأنني كنت أرتدي الحجاب، وفين نفس الوقت كانوا يربطون الحجاب بأيديولوجية سياسية معينة. كان سبب لتدمير حياتنا: الواحدة منا تدرس، تنجح وتحصل على شهادة، ثم تجد نفسها بلا عمل لسنوات.

لقد كان حلما لعائلة فقيرة، سعت بكل ما أوتت من جهد لتقديم الدعم المالي لأدرس. كان من المفترض أن أدرس ومن ثم أعمل لأقدم الدعم لاحتياجاتهم. ولكن لم يشأ الله، ولا النظام في ذلك الوقت. رفضت التخلي عن حجابي للحصول على وظيفة. أعتقد حتى وإن كنت نزعته، لم أكن لأحصل على عمل. سيظل النظام يراني أنتمي إلى حزب سياسي معين.

ذهبت إلى استدعاءات الشرطة دون إخبارعائلتي. لم أكن أريد التعرض للمزيد من ضغطهم بأن أنزع الحجاب. كنت بالفعل تحت ضغط كبير، لأنهم كانوا في حاجة إلي عملي. كانوا يريدون أن يفخروا بي كمهندسة فلاحية. كنت عنيدة، متشبثة برأيي، لم أحاول أن أنزع [الحجاب] . اعتبرت أنه كان حقي. نزعته أخواتي عندما دخلن الجامعة. كنت أنا المثال أمامهم، لا يريدون تكرار نفس التجربة. قات لي إحدى أخواتي: أنت لم تكوني ذكية بالقدر الكافي لتستطيعي [التماشي] . ربما. ربما لم أكن ذكية. ربما كانت على حق. لست نادمة. كنت أقول لنفسي كان ابتلاءا من الله لي.

عندما ارتديت الحجاب في 79، لم أواجه الرفض. بدأ في 81. ربما كان الحجاب وسيلة لتحدي الدولة في البداية. لا أنكر ذلك. عندما يحس الإنسان أنه مهمش وأن حقه مهضوم في الدولة فربما يجد ذلك منفذا للتعبير عن شخصه، عن ذاته ، عن وجوده. ثم عند النضج تأتي المرحلة الثانية من أن ارتداء الحجاب هو امتثال لأمر إلهي.

قدمت ملفي إلى الهيئة في مايو عام 2015. ولكن حتى الآن أنا لم أستدع لجلسة استماع. وطلبت أن خطة معاش التقاعدية تأخد بعين الاعتبار السنوات الماضية. لست مؤيدة كبيرة للتعويضات المالية. أريد فقط أن أعيش بكرام

إيناس (33 سنة)

” لحد الآن، عندما أقترب من معهد التصرف أحس بالاختناق. حرمت من حقي. لماذا؟ فقط لأنني غطيت شعري؟”
كان عمري 19 عندما قررت ارتداء الحجاب. كنت متقدمة في المدرسة الثانوية ونجحت بمعدل جيد. عندما منعوني من الجامعة أمي قالت لي: “ابنتي يمكنك خلعه فقط لمواصلة دراستك.” لكنها لم تجبرني على خلعه. وعندما قررت عدم نزعه تقبلت اختياري. لم أكن أتوقع ما حدث لي. لم أكن أتخيل أن يحدث لي هذا فقط لتغطية رأسي. أن يتم منعي من مواصلة دراستي. لم أكن أعلم عن منشور 108. ولم أفهم أبدا أين المشكلة من تغطية شعري- حتى الآن.

دخلت إلى المعهد الأعلى للتصرف في سوسة (ISG) في أكتوبر 2002. في ذلك الوقت، لم يكن هناك في المعهد سوى فتاتين ترتديانه. في البداية، لم يكن هناك قلق، ولكن بدأ مع الاحتفالات بالسابع من نوفمبر. قررت الكاتبة العامة بالمعهد أن تقوم بحملة على المتحجبات. بعد أسبوع من ارتدائي الحجاب، تشجعت آخريات. فبدأوا يلاحظون أن أعدادنا تكاثرت. وكان هذا بالتزامن مع السابع من نوفمبر.

قررت الكاتبة العامة أن تمنعنا من الدخول وفرضت علينا أن ننزع الحجاب حتى قبل وصولنا إلى الجامعة. قالت: ” أريدكم أن تنزعوه الشارع. لا أريد أن أراه.” وبدأت المضايقات. كنت أقطن في حي الغزالة، وكان بعيدا عن المعهد. كان يلزمني على الأقل ساعة ونصف، وكنت أخرح من البيت الساعة 6 صباحا. ولكن بعد ذلك، كنت أغادر من البيت الساعة 5 صباحا لأصل مبكرا كي أستطيع الدخول قبل الحرس. كنا نذهب مبكر ونبقى في الحمامات ولا نقوم بحركة أوصوت كي لا ينتبهوا لنا.

ولكن بعد ذلك لاحظت ما كنا نقوم به، وأحضرت حدادا لبناء سياج عال مع باب صغير واحد فقط. ووضعت على الباب امرأة كانت وظيفتها فقط نزع حجابنا. كان علينا أن نترك الحجاب معها على الطاولة للدخول، لأن بعض الفتيات كن ينزعن الحجاب عند الباب ثم يلبسونه مرة أخرى. هذا جعلني أغيب عن الكثير من المواد وبالتالي، منعت من اجتياز ثلاثة امتحانات. حتى مع الغياب عن كل هذه الدروس كانت علاماتي جيدة.

لم أواصل دراستي بعد السنة الأولى. حاولت ارتداء قبعة فوق الحجاب. حاولت أنواع مختلفة من الحجاب لتغطية شعري فقط. ولكن الكاتبة العامة قالت لي: “لا، أريد أن أرى شعرك”. منذ كان عمري 12، كنت أحلم بأني أدرس في المعهد العالي للتصرف وأن أصبح إعلامية (خبيرة كمبيوتر). في بعض الأيام، كنت أتي للمعهد مبكرا ورغم ذلك كنت لا أستطيع أن أدخل. في يوم ما رأتني وشدتني بقوة حتى وقعت على الأرض. كانت تصيح في وجهي: “ما هذا التخلف. ما هذا التخلف!” ثم جرتني إلى مكتبها وقالت أعطني بطاقة الطالب . كانت تصيح. منعتني من الدخول. ومع ذلك، كنت أذهب كل يوم وأنظر لهم كيف يدخلون . لم أحتمل أكثر من هذا. اكتئبت ومرضت طوال الصيف. ثم تقدمت في العام التالي بطلب أخذ اجازة لمدة عام لأسباب صحية. ووافق طبيب المعهد، وعندما أكملت أوراقي لم توافق.

لحد الآن عندما أقترب من معهد التصرف أحس بالاختناق. حرمت من حقي. لماذا؟ فقط لأنني غطيت شعري؟ لم يكن لي انتماء سياسي. لم أكن أعرف ما هو الاتجاه الإسلامي. قلت لهم ذلك. انتهاك جسيم أن يتعدى أحد على حقك في الدراسة. بعد 14 عاما لا تزال القصة تبكيني. أصدقائي الذين ذهبوا إلى المعهد معي أساتذة الآن. في تونس، من المهم جدا للذهاب إلى الكلية، حتى بالنسبة للفتيات. مرة كنت أقول لحماتي أن شقيقتي تعمل على شهادة الدكتوراه فقالت لي “وأنت ما معك؟ بكالوريا مع الصفر؟”

هاجر (56 سنة)

” بناتي ارتدين الحجاب رغم أني في البداية كنت غير موافقة. كنت أخاف في أعماقي عليهم من المشاكل السياسية. لا أريد أن يتعرضن لما تعرضت له. ولكن بعد ذلك، اقتنعت. تركتهن. في التهاية هن أحرار ويفعلن أمرا حسنا، لماذا أمنعهن؟ لكن لا أريد أن يتكرر ما حدث معي- أن تُوقَف كل مرة في الطريق ويقال لها امضي على التزام بألا تضعي الخمار فوق رأسك أو تذهب إلي مكان ولا يقدمون لها الخدمات لأنها محجبة.”
درست في جامعة الزيتونة. كنت أرتدي الحجاب منذ أن كنت في المدرسة الثانوية. ارتديته في 76 ولكن بعد عام 1981، ظهر منشور 108 سئ الذكر الذي اتخذه الأعوان وبعض التونسيين ذريعة لطردنا من المؤسسات العمومية ومنعنا من مواصلة دراستنا، وإلزامنا بخلعه.

لم يضايقني أحد بسببه في المدرسة الثانوية والجامعة . وأيضا في المرحلة الثالثة (الماجستير) . في عهد بورقيبة، لم يطبقوا المنشور بصرامة كما فعلوا في عهد بن علي. في عهد بورقيبة كانوا يتتبعون كل من له توجه سياسي فقط، ولكنها في عهد بن علي كانوا يتتبعون الجميع، كل امرأة تلبس الحجاب.

في تلك الفترة، ذهبت إلى أحد المشايخ فأفتى لي بأن أخلعه وأن أبقى أُدَرِّس. قال لي هذا أفضل من البقاء في المنزل. في نهاية عهد بورقيبة، قال المدير يمكنك وضع قبعة ومواصلة التدريس. وفعلت ذلك. ولكن بعد ذلك في عهد بن علي، في 91، قال المدير لي أنا لا أقبل أن تأتي بالحجاب إلي المدرسة وأنه ممنوع أن تغطي رأسك. فكنت في فصل الشتاء أرتدي القبعة، وفي الصيف أذهب شعري عريان. كانت فترة صعبة بسبب أني كنت أخلعه فقط عندما كنت أذهب للتدريس. بمجرد ما أخرج للشارع كنت أضعه مرة أخرى.

عانيت أيضا من المضايقات في الشارع. ذات مرة ، في 91، كنت أقود سيارتي وأوقفني الحرس وقال: “لماذا أنت تلبسين هكذا؟ تعرفين أن هذا ممنوع.” فقلت له: “سوف أخلعه.” ولكن بمجرد أن تقدمت بالسيارة وضعته مرة أخرى. كان سيئا جدا أن تشعر بعدم الحرية حول أمور شخصية.

في عام 1995، ذهبت إلى الحج . في تونس، عندما تذهب امرأة إلى الحج، تذهب وهي كبيرة في السن. لذا فإن حجت وغطت رأسها لا يكلمونها. ولكن عندما عدتُ من الحج، المدير قال لي لا، ولم يسمح لي بارتداء الحجاب. فعلت ذلك تدريجيا. أولا وضعت إيشارب دون ربطه ويكون الأمامي من شعري ظاهرا. وتركوني. في أحد الأيام جاء مسؤول من الوزارة وسأله: “لماذا لديك نساء يضعن اللباس الطائفي ويدرّسن؟” فقال له: “لا، هذا ليس لباس طائفي. هؤلاء النساء كبيرات في السن، ذهبن إلى الحج، فوضعن على رؤوسهن إيشارب”.” ولكن في نفس الوقت، كنا مجموعة كبيرة نرتدي الحجاب. كان إذا أراد من أحدنا اتخاذ موقف معين، يقوم بتذكيرها ويقول: “اسمعي، أنتي تعرفين أن هذا اللباس ممنوع وأنا أسكت. إذن عليك أن تلتزمي يكذا وكذا”.

في الجمعية. علمت عن تقديم الملفات للهيئة. في البداية، لم نفكر في الأمر أنا وزوجي. كانت ابتهال عبد اللطيف تَدرُس في نفس الجامعة، وكان تقول يجب على ضحايا عهد الاستبداد إيداع الملفات إلي هيئة الحقيقة والكرامة. سألتها “لماذا؟ نحن لا نبحث عن مقابل لما حدث لنا. نحن نرغب في الجزاء الأخروي”. كانت هي التي أقنعتني بتقديم ملفي. فقدمت أولا ملف زوجي لأنه لم يريد أن يقدمه بنفسه. كان يقول : “أنا لا أنتظر شيئا من الدولة”. ثم قدمت ملفي، كان ضمن الملف الجماعي الذي قدمته الجمعية للهيئة، كجزء من أنشطتنا في شبكة “العدالة الانتقالية للنساء أيضا”.

أنا مقتنعة بشكل أساسي أن محاسبة الجلاد يجعل أولئك الذين يريدون تكرار الانتهاكات يعلمون أنهم لن يمروا دون عقاب. بناتي ارتدين الحجاب رغم أني في البداية كنت غير موافقة. كنت أخاف في أعماقي عليهم من المشاكل السياسية. لا أريد أن يتعرضن لما تعرضت له. ولكن بعد ذلك، اقتنعت. تركتهن. في التهاية هن أحرار ويفعلن أمرا حسنا، لماذا أمنعهن؟ لكن لا أريد أن يتكرر ما حدث معي- أن توقف كل مرة في الطريق ويقال لها امضي على التزام بألا تضعي الخمار فوق رأسك أو تذهب إلي مكان ولا يقدمون لها الخدمات لأنها محجبة.

المسؤولون تجاوزوا سلطتهم. منشور 108 ليس قانونا، و بذلك المنشور اعتدوا على حقوقنا الدستورية. عندما يقف أولئك الذين فعلوا ذلك أمام [هيئات] العدالة الانتقالية سيفهموا أن هناك حريات لا تمس.

ميزة العدالة الانتقالية هي أنه في حالات مثل منشور 108، ليس لدينا أدلة للذهاب للقضاء العادي، ليس لدينا شهود. العدالة الانتقالية لديها آليات مختلفة. ظللت أشجع مختلف النساء لتقديم ملفاتهن، لأنه عندما يكون لديك شهادات مماثلة من أشخاص مختلفين في نفس الفترة، يدعم كل منهما الآخر. يخبرك ذلك أن الانتهاكات كانت منهجية. الطريقة الأكثر فعالية لتوفير المساءلة هي أن لا تدع هؤلاء المذنبين يعودوا إلى مناصبهم.

نجاة (47 سنة)

” سوف أشعر بالرضى إن اعتذر الرئيس لجميع النساء، بأن يقف ويقول بأن الدولة التونسية اضطهدت النساء. المشكلة في تونس هي أنه حتى الآن لم يعترف بنا كضحايا.”
في الجامعة، التحقت بالاتحاد العام التونسي للطلبة. كنت أدرس في سوسة (في الساحل الشرقي لتونس). لم تفرق الدولة بين ما هو نقابي وما هو سياسي. اتهمونا بالانتماء إلى حزب سياسي، بالرغم أنه كان لدينا تصريح. كان عمري وقتها 22 سنة وكنت في السنة الثانية. جاءت [الشرطة] لأخذنا من الجامعة. أنا يومها، الاثنين، كنت قد ذهبت إلى المنزل بعد أن أنهيت دروسي. ووجدتهم هناك في انتظاري. عندما طرقت على الباب وجدتهم. هم فتحوا لي الباب. ثم أخذونا إلى مركز الشرطة. هناك الحوار كان راقيا بعض الشئ مع اثنين، ولكن شرطيا ثالثا تدخل وانهال علي ضربا. لم يجدوا معي بطاقة تعريف فأطلقوا سراحي.

ومن الغد عدت برجلي. [لم أكن أريد أن أترك أصدقائي وراءي]. اعتقدت أنني يجب أن أذهب إلى مصيري مهما يكن. فاعتقلوني بدعوة أنهم وجدوا عندي منشورات. في المساء، اقتدنا إلى المحكمة. قلت للقاضي: ” سيدي إنهم لم يجدوا حتى هويتي، فكيف لهم أن يجدوا المناشير” قال: “لك الاستئناف.” وكانت محاكمة صورية. حكم علينا بسنة. ذهبنا إلى سجن النساء بسوسة. نجح المحامي في تخفيف الحكم إلى ستة أشهر. لقد كانت تجربة فريدة. ففقد نزلنا من برجنا العاجي كطلبة واحتككنا بالواقع لأول مرة. كنا طلاب حقوق ولكن هناك فرق كبير بين النظري والتطبيقي.

ثم خرجنا بعدها إلى السجن الحقيقي: المجتمع. خرجنا من السجن يوم 5 جوان 1992. ما أن خرجنا، قيل لنا يجب أن تذهبوا إلى مركز الشرطة بسوسة وهناك قيل لنا أننا سوف نخضع للمراقبة الإدارية لمدة ثلاث سنوات، على الرغم من أن القانون التونسي ينص على أنها عقوبة تكميلية ويجب أن تكون منصوصة في الحكم القضائي. كان علينا أن نذهب مرتين في اليوم، ولكنها حسب اجتهاد رئيس المركز. هناك من يطلب منك أن تأتي مرة واحدة في اليوم، وهناك من يقول ست مرات في اليوم. قضينا ست سنوات من 92 إلى 98 نذهب إلى مركز الشرطة. وكنت أدرس. كنت أضع كل مصروف جيبي في المواصلات. كان المركز كان يبعد عن الجامعة 16 كم. كنت أخذ سيارة أجرة خاصة. تخرجت في 98.

لم يكن السجن قاسيا كما كانت السنوات الست من المراقبة الإدارية. إذا عليك أن تأتي الساعة 9 صباحا وتأخرت قليلا، قد تقضي تلك الليلة في الحجز. ليال كثيرة، كانوا يأتون إلى منزلي ليلا لمراقبة ما إذا كنت في البيت. لا تعلمين متى. التاسعة مساءا، الواحدة صباحا، الثالثة صباحا. ومن الطرافة أنه مهما اختلف الوقت يجدونني نائمة . كنت أعيش مع عائلتي. في بعض الوقت كنت أتخيل أني كنت جلادة لعائلتي. خاصة في ساعات الفجر عندما يطرق الباب تخرج أمي حافية القدمين رغم أنها مريضة بالكلى. كذلك كانت تهال الإهانات لوالدي. كنت أمله الوحيدة. أنا الوحيدة بين إخوتي التي دخلت إلى الجامعة. إلا أنني خيبت أمله. كذلك أختي بقيت دون زواج. كنت وصمة عار. كان بعض الناس يخشون أن يأتوا إلى منزلنا لأنه مراقب.

عندما كنت أريد زيارة عائلتي بعد أن تزوجت كان لا بد لي من تقديم مطلب [إلى مركز الشرطة]. في بعض الأحيان يقبل وفي بعض الأحيان يرفض. ولم يسمح لي بالسفر إلى حفل زفاف أختي الكبيرة.

كنت أشتغل على القضايا تحت اسم محام آخر. على الورق كنت يضع اسمه، لكنني كنت أشتغل هذه القضايا. كنت أحصل على دخل ضئيل. كان في بعض الأحيان يحصل على 15000 دينارا (6956 $)، وكنت آخذ 360 دينارا (140$) فقط. كان عضوا في الحزب الحاكم. كنت أعيش تحت ظله. لم أقل له أنني كنت سجينة سياسية. لم تكن الشرطة لتجرؤ على مهاجمتي وأنا آعمل معه. كنا كلانا نستغل بعضنا البعض.

سوف أشعر بالرضى إن اعتذر الرئيس لجميع النساء، بأن يقف ويقول بأن الدولة التونسية اضطهدت النساء. المشكلة في تونس هي أنه حتى الآن لم يعترف بنا كضحايا.

 

المصدر : المركز الدَولي للعدالة الانتقاليَة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *