في رد على قمة المجلس الأوروبي .. لا لتوقيع اتفاقية “الشراكة الشاملة” .. بقلم جنات بن عبد الله


أثارت التوصيات المنبثقة عن قمة المجلس الأوروبي المنعقدة في بروكسال يومي 29 و30 جوان 2023 المتعلقة بتونس تساؤلات خطيرة بخصوص إصرار الجانب الأوروبي على توجيه النقاشات ومسار التفاوض نحو الإسراع بالتوقيع على مذكرة التفاهم المتعلقة باتفاقية “الشراكة الشاملة ” التي أعلنت عنها المفوضية الأوروبية في البيان المشترك الصادر عن لقاء الوفد الأوروبي الذي تحول الى تونس يوم الاحد 11 جوان 2023 والذي يضم رئيسة المفوضية الأوروبية ورئيسي وزراء إيطاليا وهولندا برئيس الجمهورية قيس سعيد، والحال أن الملف المطروح على الطاولة بين تونس والاتحاد الأوروبي، هذه الأيام، يتعلق بالهجرة غير النظامية والذي تم تأجيل النظر فيه في مستوى القمة الى وقت لاحق.
في اليوم الثاني من القمة، وحسب تقرير وكالة الأنباء الإيطالية، تعرض المجلس الأوروبي لنقاش وصف بالاستراتيجي حول العلاقات الأوروبية مع دول الجوار في جنوب المتوسط حيث تبنت القمة توصيات حول تونس تتعلق بحزمة المساعدات وبضرورة عودة الحوار السياسي في إطار اتفاقية الشراكة بين تونس والاتحاد الأوروبي.
في هذا السياق أعلنت القمة عن أنه تم تأجيل توقيع اتفاقية مذكرة التفاهم بين تونس والاتحاد الأوروبي بعد عيد الأضحى وذلك بناء على طلب من السلطات التونسية لمزيد تحليل مذكرة التفاهم المتعلقة باتفاقية الشراكة الشاملة، وقد عبر مصدر عن الاتحاد الأوروبي عن تفهمه لهذا الطلب عندما يتعلق الأمر بالتفاوض حول قضية حساسة حسب رأيه.
ما يلفت الانتباه في التوصيات الصادرة عن القمة ما جاء على لسان المتحدث باسم الجهاز التنفيذي حيث لاحظ أن المفاوضات بين الجانب الأوروبي وتونس “متواصلة وبناءة” والحال أن الجانب التونسي لم يعلن عن انطلاق مفاوضات مع الجانب الأوروبي بشأن اتفاقية الشراكة الشاملة كما أنه لم يعلن لا عن قائمة الفريق المفاوض ولا عن التفويض الذي كلف به والمتضمن لتوجهات الموقف التونسي.
وفي غياب المعلومة الرسمية، يبدو أن الجانب الأوروبي قد اقتنص فرصة فتح ملف الهجرة غير النظامية لإعادة فتح ملف اتفاقية الشراكة وتمريرها بكل هدوء في ظل تعتيم اعلامي ممنهج وتضليل متعمد بعد الضغط الذي مارسه عدد من الخبراء والمختصين وعدد من مكونات المجتمع المدني في تونس منذ سنة 2019 على رئيس الحكومة أنذاك يوسف الشاهد لإيقاف المفاوضات وعدم التوقيع على اتفاقية التبادل الحر الشامل والمعمق في غياب تقييم موضوعي وعلمي من قبل مؤسسات تونسية لاتفاقية الشراكة لسنة 1995 وفي غياب تقييم تداعيات الاتفاقية الجديدة التي ترمي الى تحرير القطاع الفلاحي وقطاع الخدمات والاستثمار بعد تحرير المبادلات التجارية في المجال الصناعي بمقتضى اتفاقية 1995 والتي أدت الى تصحر النسيج الصناعي في تونس وتدمير وحدات الإنتاج الصاعدة بسبب رفع الحماية عنها وإلغاء المعاليم الجمركية الموظفة على المنتوجات الصناعية الأوروبية عند نفاذها للسوق التونسية.
انه من باب الانتحار الانخراط في مسار الاتحاد الأوروبي الرامي الى طي صفحة اتفاقية التبادل الحر الشامل والمعمق بالإسراع الى التوقيع عليها بعد توقف المسار لأربع سنوات وتغيير تسميتها وتعويضها باتفاقية “الشراكة الشاملة” في غياب طرح الموضوع على المستوى الوطني من جميع جوانبه وبمقاربة جديدة تقوم على حماية مصالحنا الوطنية أولا وثانيا وثالثا بعيدا عن الطرح الأوروبي الذي يسوق لمقاربة رابح- رابح والحال أن هذه المعادلة لا تنطبق الا على طرفين يتمتعان بنفس القدرات والامكانيات في حين أن ما يمر به الاقتصاد التونسي يجعله في موقع الضعيف العاجز عن التفاوض بل ليس أمامه الا مزيدا من التنازلات.
اننا لا زلنا نتساءل عن مدى تطابق استراتيجية التفاوض التي اتبعها المفاوض التونسي، ان وجدت، في مفاوضاته مع الجانب الأوروبي في إطار اتفاقية التبادل الحر الشامل والمعمق بخصوص تحرير القطاع الفلاحي وقطاع الخدمات والاستثمار مع شروط حماية هذه القطاعات من الاندثار تجنبا لما حدث للقطاع الصناعي بمقتضى اتفاقية الشراكة لسنة 1995.
من هذا المنظور، لا نفهم المقاربة التي اتبعها الجانب التونسي عند مفاوضاته حول تحرير قطاع الخدمات الذي يستوجب حرية تنقل الأشخاص في ظل فرض الجانب الأوروبي التأشيرة على مسدي الخدمات التونسي في حين يتمتع مسدي الخدمات الأوروبي بحرية الدخول الى الأراضي التونسية دون تأشيرة.
فبمقتضى القوانين التي مررها يوسف الشاهد في باب الاستثمار وتحسين مناخ الاستثمار والتي تندرج ضمن تحرير قطاع الخدمات أصبح متاحا للمحامي الأوروبي والطبيب والمهندس والمحاسب والمستشار وكل مسدي خدمات في مجال تجارة التفصيل أو الجملة وغيرها فتح مكتب في تونس بكل حرية وتعاطي النشاط مثله مثل أي مسدي خدمات تونسي في حين يمنع التونسي من ذلك بسبب التأشيرة.
الخطير في الأمر أنه في الوقت الذي يغلق الاتحاد الأوروبي حدوده أمام مسدي الخدمات التونسي تفتح فيه تونس حدودها أمام الأوروبيين دون قيود ولا شروط بما يهدد بالقضاء على المهنيين التونسيين باعتبار الإمكانيات المادية وغير المادية التي يتمتع بها الأوروبيون مقارنة بالمهنيين التونسيين.
كما أننا لا نفهم المقاربة التي اتبعها المفاوض التونسي بخصوص تحرير القطاع الفلاحي وفتح الحدود أمام توريد المنتوجات الفلاحية الأوروبية دون معاليم جمركية والحال أن القطاع الفلاحي في أوروبا يتمتع بدعم مالي ضخم في إطار السياسية الفلاحية الأوروبية المشتركة التي تستحوذ على نصف ميزانية الاتحاد الأوروبي حيث يتمتع الفلاح الأوروبي على دخل شهري قار الى جانب عدة أنواع من الدعم المباشر وغير المباشر بما يعطي المنتوج الفلاحي الأوروبي قدرة تنافسية قوية تسحق بكل سهولة أي منتوج فلاحي تونسي في السوق المحلية وتجعل المنتوج التونسي عاجزا عن النفاذ الى السوق الأوروبية ولو بصفر معاليم جمركية باعتبار غياب سياسة فلاحية قطاعية وغياب الدعم الذي من شأنه تحسين الجودة والضغط على الأسعار.
لقد كان حري بالمفاوض التونسي مطالبة الجانب الأوروبي بتمتيع الفلاح التونسي بنفس امتيازات الفلاح الأوروبي في إطار السياسة الفلاحية الأوروبية المشتركة لفتح التفاوض حول تحرير القطاع الفلاحي وفي غياب ذلك يكون التفاوض مرفوضا.
اتفاقية الشراكة الشاملة تشمل أيضا تحرير الخدمات المائية والخدمات الطاقية بما يعني رفع احتكار الدولة لهذه القطاعات وفتحها أمام الشركات الأجنبية وهو ما انطلقت في تنفيذه تونس بقوانين تم تمريرها في عهد الحبيب الصيد ويوسف الشاهد في ظل التعتيم والتضليل دون أن تكون لتونس والشركات التونسية القدرة على الحصول على عقود امتياز وعقود شراكة في بلدان الاتحاد الأوروبي.
اتفاقية الشراكة الشاملة تشمل أيضا تحرير الخدمات المالية بما يعني رفع كل الحواجز أمام انتصاب البنوك الأجنبية في تونس دون أن تكون لبنوكنا التونسية القدرة على الانتصاب في الفضاء الأوروبي ويجعلها فريسة سهلة لدى البنوك الأجنبية.
اننا لسنا ضد اتفاقيات التبادل الحر ولا اتفاقيات الشراكة ولكن ضد غض الطرف عن حقيقة وقدرات الاقتصاد التونسي في مواجهة اقتصاد تكتل يضم 27 بلدا عزز قدراته الإنتاجية بعد الحرب العالمية الثانية في حين تم استدراج الاقتصاد التونسي منذ سبعينات القرن الماضي في مسار الانفتاح في إطار اتفاقيات الشراكة مع الاتحاد الأوروبي قبل تعزيز قدراته الذاتية بما سرع في تدمير إنجازات العشرية الأولى بعد الاستقلال وأغرق البلاد في مديونية مرشحة للتفاقم في صورة توقيع اتفاقية الشراكة الشاملة مع الاتحاد الأوروبي وتنفيذ برنامج الإصلاحات الهيكلية لصندوق النقد الدولي.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *