على وقع مذكرة التفاهم بين تونس والاتحاد الأوروبي – تثبيت “الأليكا” وإقرار الوصاية .. بقلم جنات بن عبد الله

أثارت مذكرة التفاهم التي تم ابرامها بين تونس والاتحاد الأوروبي يوم الأحد 16 جويلية 2023 بقصر قرطاج ردود فعل متناقضة بخصوص ملف الهجرة الذي استحوذ على اهتمامات وسائل الاعلام المحلية والأجنبية منذ اللقاء الأول الذي جمع رئيس الدولة قيس سعيد بالترويكا الأوروبية يوم الأحد 11 جوان 2023 بقصر قرطاج والذي انبثق عنه بيان مشترك تضمن مسألة الشراكة الاستراتيجية الشاملة بين تونس والاتحاد الأوروبي لأول مرة منذ سنة 2019 تاريخ توقف الحديث عن اتفاقية التبادل الحر الشامل والمعمق “الأليكا” الذي رفضته مكونات المجتمع المدني وعدد من الخبراء والمختصين في الشأن الاقتصادي في تونس.
ملف الهجرة كان أحد محاور هذه الشراكة الاستراتيجية الشاملة وشكل النقطة الأخيرة من مذكرة التفاهم الموقع عليها يوم الأحد 16 جويلية 2016 بما يؤكد أن هذا الملف كان طعما لتحويل اهتمام الرأي العام عن طرح تفاصيل وحدود هذه الشراكة الجديدة وقواعدها ومبادئها وهي عناصر لم تتعرض لها مذكرة التفاهم التي جاءت في صيغة يغلب عليها الغموض والمصطلحات المبهمة بل أن هذه الوثيقة أثارت الاستغراب بخصوص المنهجية المتبعة في عرضها للمحاور الخمسة التي تم الإعلان عنها في البيان المشترك ممثلة في استقرار الاقتصاد الكلي، والاقتصاد والتجارة الذي تفرع الى خمسة نقاط وهي الفلاحة والاقتصاد الدائري والانتقال الرقمي والنقل الجوي والاستثمار، والانتقال الرقمي، والتقارب بين الشعوب، والهجرة.
ولعل ما لفت الانتباه في هذه المذكرة الطريقة المتبعة في صياغتها وهي طريقة تخفي استعلاء الجانب الأوروبي، المهندس والمحرر لهذه الوثيقة، في تعامله مع الجانب التونسي الذي تحول من شريك استراتيجي حسب الخطاب الأوروبي المعلن، الى طرف مطالب بالتنفيذ في ظل المرافقة الأوروبية والمساعدة الفنية والمالية المدخل الذي اتبعه الاتحاد الأوروبي، وقبله المجموعة الاقتصادية الأوروبية، لتثبيت قبضة البلدان الاستعمارية على البلدان المستعمرة سابقا وذلك حسب ما جاء بمعاهدة روما لسنة 1957 المؤسسة للمجموعة الاقتصادية الأوروبية “ببند إعلان نية ارتباط البلدان المستقلة المنتمية الى منطقة الفرنك بالمجموعة الاقتصادية الأوروبية” الذي ينص على: أن حكومات كل من مملكة بلجيكا وجمهورية ألمانيا الاتحادية والجمهورية الفرنسية والجمهورية الإيطالية ودوقية لوكسمبورغ الكبرى ومملكة هولندا، مع مراعاة الاتفاقيات والمعاهدات الاقتصادية والمالية والاتفاقيات النقدية المبرمة بين فرنسا والدول المستقلة الأخرى المنتمية الى منطقة الفرنك، حريصة على الحفاظ على التدفقات التجارية التقليدية بين دول المجموعة الاقتصادية الأوروبية وهذه البلدان المستقلة، والمساهمة في تنميتها الاقتصادية والاجتماعية ، يعلنون عن استعدادهم، بمجرد دخول المعاهدة حيز التنفيذ، لاقتراح مفاوضات مع هذه البلدان لإبرام اتفاقيات شراكة.
من هذا المنظور يتضح ان الحديث عن شراكة بين تونس والاتحاد الأوروبي لا يستند الى ظاهرة العولمة ولا الى سنة 1995 وسنة 1969 تاريخ أول اتفاقية تعاون بين تونس والمجموعة الاقتصادية الأوروبية بل هو منصوص عليه في معاهدة روما التي أمنت سيطرة فرنسا وغيرها على البلدان المستعمرة سابقا وذلك من خلال اتفاقيات شراكة تستند الى اتفاقيات سابقة مثل اتفاقيات 3 جوان 1955 بالنسبة لتونس والتي شملت جميع المجالات بما في ذلك الثقافية والتربوية.
في هذه المعاهدة نصت المادتان 131 و136 على انشاء أول صندوق أوروبي للتنمية يقدم المساعدة الفنية والمالية للبلدان الافريقية التي كانت مستعمرة من قبل بلدان المجموعة الاقتصادية. ومنذ انشائه الى سنة 2020 كان تمويل الصندوق يقوم على تبرعات البلدان الأعضاء ليتم دمجه في الميزانية العامة للاتحاد الأوروبي في سنة 2020 بما يعني أن تدخل الصندوق في البلدان الافريقية، على غرار تونس، يخضع الى المعايير المعتمدة لتمويل ميزانيات البلدان الأعضاء في الاتحاد الأوروبي غير أن تونس ليست عضوا بالاتحاد الأوروبي ولكن يبدو أنه ينظر اليها كمقاطعة مثلها مثل بقية البلدان الافريقية التي كانت مستعمرة سابقا، وأن هذا التدخل يندرج ضمن تحقيق أولويات بلدان الاتحاد الأوروبي في تونس والبلدان الافريقية وليس أولويات تونس والبلدان الافريقية باعتبار أن التمويل أوروبي مائة بالمائة.
هذا الصندوق تدخل في تونس ضمن ما يسمى بالية الجوار الأوروبي، التي تضم عديد الاليات مثل الية الدعم المالي الكلي، وذلك من سنة 2014 الى سنة 2020 لتحدث المفوضية الأوروبية في سنة 2018 الية جديدة أطلق عليها “أداة الجوار والتعاون الإنمائي الدولي – أوروبا في العالم” دخلت حيز التنفيذ في سنة 2021 وتغطي الفترة 2021 – 2027 وقد انخرطت هذه الالية ضمن أهداف برنامج الأمم المتحدة الإنمائي ليتم تغيير اسم الصندوق الى الصندوق الأوروبي للتنمية المستدامة.
هذا الصندوق، الصندوق الأوروبي للتنمية المستدامة، سيتولى تمويل المشاريع المنصوص عليها بمذكرة التفاهم الموقعة يوم 16 جويلية 2023 وتحديدا في مجالات التنمية والتنافسية، والقطاع الخاص، وتعصير مسالك التوزيع ومراقبة السوق والنفاذ الى التمويل والمياه والفلاحة والتكنولوجيات النظيفة، والاقتصاد الدائري والطاقات المتجددة…
من هذا المنظور تتضح الرؤية بخصوص ما جاء في الفقرة الأولى من المذكرة والمتعلقة بالمحور الأول حول استقرار الاقتصاد الكلي عندما تم التنصيص على “أن الاتحاد الأوروبي يلتزم بمساعدة تونس وأنه سيدعم ميزانية تونس بمبلغ سيمنح كاملا بعنوان سنة 2023”.
في هذا المستوى رأت بعض الأطراف في هذه الطريقة تدخل في الشأن الداخلي للبلاد وتجاوز للاتحاد الأوروبي لدوره كشريك، كما يدعي، وطرح نفسه كوصي على البلاد وعلى ميزانية الدولة التي تختزل السياسات الاقتصادية والاجتماعية والمالية للبلاد. كما رأت في تحديد موعد تنفيذ “الإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية”، والتي ادعت أن تونس وضعتها، إشارة الى وجود رزنامة ومواعيد وجب احترامها بما يكشف عن وجود تنسيق بين الاتحاد الأوروبي وصندوق النقد الدولي الذي عودنا بتدخله في تونس عبر رزنامة.
ما جاء في المحور الثاني من المذكرة الذي حمل عنوان “الاقتصاد والتجارة” رفع كل الشكوك وكل التباس بخصوص علاقة المذكرة باتفاقية التبادل الحر الشامل والمعمق “الأليكا” التي أمن الحبيب الصيد ويوسف الشاهد إرساء كل مكونات اطارها القانوني والمؤسساتي من سنة 2015 الى سنة 2019 حيث تم استكمال تحرير القطاع الفلاحي وقطاع الخدمات والاستثمار وهي المجالات التي تشملها الشراكة الاستراتيجية الشاملة الجديدة بما يعني أن تونس دخلت اليوم بهذه الشراكة مرحلة ما بعد “الأليكا” وأن التوقيع على هذه المذكرة هو في النهاية توقيع ضمني وتثبيت لنتائج المفاوضات حول “الأليكا”، وأن تونس، أو بالأحرى الاتحاد الأوروبي، خرج، بمقتضى جر تونس الى التوقيع على مذكرة التفاهم، من مرحلة تطويع التشريعات التونسية لخدمة أولوياته، الى مرحلة الاستثمار، أو بالأحرى مرحلة الاستحواذ على البلاد ومقدراتها، وقد وظف الاتحاد الأوروبي حالة عدم الاستقرار السياسي لتمرير هذه الشراكة التي لم نسمع بها قبل اصدار البيان المشترك يوم 11 جوان 2023.
وبعيدا عن تفاصيل بقية محاور المذكرة، يؤسفنا الوقوف على حقائق خطيرة تعمل السلط التونسية والاتحاد الأوروبي بالتعاون مع وسائل اعلام مأجورة، على طمسها وتحويل اهتمام الرأي العام عنها، حقائق تكشف أن هذا الجيل، جيل الستينات يشهد اليوم الفصل قبل الأخير من مخطط افتكاك أو استرجاع القوى الاستعمارية سلطتها على البلاد حسب أجندة سياسية إقليمية وداخلية حبكت خطواتها بكل مكر وخبث.
ولئن يبقى الأمل في القوى الوطنية قائما لدحض هكذا مخطط فان من شأن وعي الشعب التونسي بحقيقة العلاقة بيننا والاتحاد الأوروبي، تسريع قلب المعادلة وموازين القوى في اتجاه تصحيح المسار وإرساء الإصلاحات الوطنية الحقيقية التي تخدم مصلحة المواطن وأولوياتنا الاقتصادية والاجتماعية من خلال القطع مع سياسة التهميش والاقصاء التي مورست على الشعب منذ سبعينات القرن الماضي الى اليوم وجسدتها مخططات التنمية وسياسة المالية العمومية والسياسة النقدية للبنك المركزي.
في هذا السياق، وبالرجوع الى تاريخ قريب وهو سنة 2015 وتحديدا تاريخ انعقاد الجلسة العامة لمجلس نواب الشعب يوم 5 مارس 2015 للمصادقة على اتفاقية قرض من الاتحاد الأوروبي بقيمة 300 مليون أورو، يطلعنا التاريخ على مذكرة تفاهم كانت مصاحبة للاتفاقية تتضمن الشروط المطلوب تنفيذها من قبل الجانب التونسي مقابل تسريح القرض، تتعلق بتمرير مشاريع قوانين قام بإعدادها الاتحاد الأوروبي وتبنتها الحكومات السابقة تشكل اطارا تشريعيا ومؤسساتيا مماثلا لما هو موجود في الفضاء الأوروبي.
تشير وثيقة شرح الأسباب أن هذا الصنف من التمويل يندرج ضمن الية الدعم المالي الكلي الذي ينتمي للآلية الأوروبية للجوار (2014 – 2020) التي تعتبر احدى اليات تنفيذ سياسة الاتحاد الأوروبي في البلدان الافريقية المستعمرة سابقا لتحقيق أولويات دول الاتحاد وتنفيذ سياستها العابرة للحدود. وتنص الفقرة الأولى من هذه المذكرة على: “يشترط ضرورة أن يقترن، سحب القرض، بوجود اصلاح اقتصادي متفق عليه مع صندوق النقد الدولي”.
وتضيف الوثيقة “أن صرف الموارد المرسمة بعنوان هذه الالية، أي الية الدعم المالي الكلي، مشروط بتحقيق تقدم ملحوظ وواضح في مستوى هذا البرنامج الإصلاحي”.
وفيما ربط الجانب الأوروبي تسريح القسط الأول من القرض بإمضاء الجانب التونسي لكل الوثائق التعاقدية، دون ذكرها، ودخولها حيز التنفيذ، مع التشديد على حسن تنفيذ البرنامج المتفق بشأنه مع صندوق النقد الدولي، ارتبطت شروط تسريح القسط الثاني بتحقيق مؤشرات تتعلق بالإصلاحات الجبائية وشبكة الأمان الاجتماعي والقطاع المالي والاحصاء. أما صرف القسط الثالث من القرض فيتوقف على تحقيق مؤشرات بخصوص التصرف في المالية العمومية والقطاع المالي والقطاع التجاري بعلاقة بتمرير قانون حول السلامة الصحية للغذاء والسلامة الصناعية.
تكشف هذه الشروط عن حقيقة الأحزاب السياسية التي حكمت تونس ومثل نوابها الشعب التونسي في مجلس النواب لنقف مرة أخرى عند حقائق مفزعة تعكس ما نعيشه اليوم من فجوة بين الواقع المعاش للمواطن والفاعلين الاقتصاديين من جهة والترسانة القانونية الجديدة التي لا تترجم تطلعات الشعب بل أولويات المشروع الأوروبي في تونس.
ويتكرر المشهد هذه الأيام مع مذكرة تفاهم جديدة تحمل الية جديدة لسياسة الاتحاد الأوروبي وهي أداة الجوار والتعاون الإنمائي الدولي – أوروبا في العالم (2021 – 2027) يعتمد تنفيذها على الصندوق الأوروبي للتنمية المستدامة.
فلا نستغرب اليوم وغدا صمت الحكومات وانعدام حرصها لتوفير الحبوب والزيت والكهرباء والماء…فذلك ليس ضمن أولوياتها. فالمواطن التونسي تحول الى رقم يتم اللجوء اليه عند الانتخابات وخارج هذا الموعد عليه أن يخوض معارك مع الموت والجهل والمرض والجوع.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *