على خلفية شهادتي جيلبار نقاش وحمادي غرس … ضرورة إعادة النظر في مشروع قانون المالية لسنة 2017 .. بقلم جنات بن عبد الله

تونس – مغرب نيوز
أثارت جلسات الاستماع العلنية التي نظمتها هيئة الحقيقة والكرامة يومي 17 و18 نوفمبر الجاري لتقديم شهادة ضحايا الانتهاكات الجسيمة والممنهجة خلال الفترة الممتدة من غرة جويلية 1955 الى 31 ديسمبر 2013 نقاط استفهام حول مصداقية التاريخ التونسي وحقيقة الأنظمة السياسية التي حكمت البلاد.
شهادات الضحايا تناولت اليات استبداد الأنظمة السابقة في مستوى المنظومة الأمنية والسياسات الاقتصادية والاجتماعية التي تم اعتمادها في إطار منوال التنمية والتي استمرت الى ما بعد الثورة ونجد اثارها في القوانين التي صادق عليها مجلس نواب الشعب ومشروعي ميزانية الدولة وقانون المالية لسنة 2017.
ان ما نعيشه اليوم من ضرب لحقوق التونسيين في حياة كريمة وفي الشغل والصحة والتعليم وتنمية جهوية عادلة هو استمرار للاتفاقيات الست للاستقلال الذاتي المبرمة بين الدولة الفرنسية والايالة التونسية في 3 جوان 1955 والتي كانت موضوع شهادة المناضل اليوسفي حمادي غرس. ومن مقومات هذه الاتفاقيات الست بما في ذلك الاتفاقية الاقتصادية، ضرب السيادة الوطنية في مجالات الصناعة والمناجم والتنقيب عن النفط وذلك بمقتضى المادتين 33 و34 من اتفاقية الاستقلال الذاتي المؤرخة في 3 جوان 1955 حيث تنص المادة 33 على: ” تلتزم الحكومة التونسية بأن تفضل، عند تساوي الشروط، بين المشاريع الفرنسية أو التونسية، أو المشاريع المؤسسة لهذا الغرض باتفاق الحكومتين للتحصيل على رخص التفتيش والاستثمار، وعلى اللزم، وتحتفظ الحكومة التونسية بحقها في المساهمة في رأس مال هذه المشاريع”. ويقصد بذلك أن رخص التنقيب عن النفط واستغلال المناجم لا يمنح لأي مستثمر الا بموافقة الحكومة الفرنسية وأن الدولة التونسية لا يمكنها أن تكون شريكا أصليا في هذه المشاريع باعتبارها مالكة الثروة، بل يسمح لها فقط المساهمة في رأس مال هذه المشاريع.
أما المادة 34 فتنص على ” أن اجال اللزم والاتفاقيات ورخص التفتيش والاستثمار التي هي مبرمة أو ممنوحة لا يمكن للسلطة العامة أن تغيرها الا بموافقة المستلزم أو المتعاقد أو الممنوحة له”، أي أنه لا يمكن لدولة الاستقلال التراجع أو الغاء هذه اللزم على غرار لزمة الملح المبرمة في أكتوبر 1949. لقد فرط بورقيبة في حقوق التونسيين في ثروتهم وسيادتهم الوطنية من خلال:
– أولا عدم نشر بروتوكول الاستقلال ل 20 مارس 1956 بالرائد الرسمي للجمهورية التونسية،
– وثانيا عدم ابرام أي اتفاق بين الدولة الفرنسية والدولة التونسية يلغي أو يعدل اتفاقيات الاستقلال الذاتي ويعيد سيادتنا الوطنية على ثرواتنا الطبيعية بما جعل اتفاقيات 3 جوان 1955 سارية المفعول بين تونس وفرنسا الى حد الان باعتبار أن بروتكول الاستقلال نص في الفقرة “ب” منه على “أن أحكام اتفاقيات 3 جوان 1955 التي قد تكون متعارضة مع وضع تونس الجديد وهي دولة مستقلة ذات سيادة سيقع تعديلها أو الغاؤها”.
ورغم تعرض الدستور الجديد الصادر في 26 جانفي 2014 وتحديدا في الفصل 13 على استعادة الشعب التونسي لسيادته على ثرواته الطبيعية فان الحكومات التي جاءت بعد صدوره تجاهلت هذا الفصل وواصلت العمل بنفس السياسات في وقت عجزت فيه عن توفير تمويل لميزانية الدولة وهرولت الى الاقتراض من صندوق النقد الدولي مقابل شروط مجحفة وخطيرة تهدف الى تقويض الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي.
في ذات السياق ركز الأستاذ جيلبار نقاش شهادته على السياسة الفلاحية والجلاء الزراعي ومدى الهيمنة الفرنسية على هذا القطاع الذي لا يزال تحت السيطرة الفرنسية، وقانون الاستثمار الذي صادق عليه مجلس نواب الشعب مؤخرا خير دليل على تواجد المستعمر الفرنسي في الإدارة التونسية لخدمة وحماية المصالح الفرنسية في تونس. لقد انتظر التونسيون كثيرا لاسترجاع والتمتع بحقوقهم الاقتصادية والاجتماعية بما في ذلك الحق في الشغل والصحة والتعليم وتنمية جهوية عادلة، الا أن كل الميزانيات التي تمت المصادقة عليها بما في ذلك قوانين المالية بعد الثورة ومشروعي ميزانية الدولة وقانون المالية لسنة 2017 كرست كلها ضرب هذه الحقوق وتحويل ميزانية الدولة من الية لتكريس هذه الحقوق الى الية لمزيد تفقير الشعب والسقوط في التداين الخارجي.
سياسة نقدية معادية للتنمية
في ذات السياق لا بد من الإشارة الى دور البنك المركزي والسياسة النقدية في تمويل ميزانية الدولة والحفاظ على التوازنات المالية الداخلية والخارجية في اتجاه تقليص التوجه الى الاقتراض الخارجي. لقد صادق مجلس نواب الشعب على قانون النظام الأساسي للبنك المركزي في أفريل 2016، وهو قانون كرس “استقلالية” البنك المركزي تجاه السلطة التنفيذية وفتح المجال أمام السلطة النقدية للتخلي عن حماية العملة الوطنية ضاربا بذلك سيادتنا النقدية كأحد مقومات السيادة الوطنية، جريمة نقدية أولى تقف وراء تدهور المقدرة الشرائية للمواطن ودخول الاقتصاد الوطني في مرحلة انكماش اقتصادي فمالي تصر حكومة الشاهد على تجاهله وتجاهل تداعياته على مشروع قانون المالية لسنة 2017 .
أما الجريمة النقدية الثانية التي جاء بها النظام الأساسي الجديد للبنك المركزي وصادق عليها نواب الشعب فتتعلق بمنع السياسة النقدية من تمويل عجز ميزانية الدولة بما يقلص اللجوء الى الاقتراض الخارجي. فقد نصت الفقرة الرابعة من الفصل 25 منه على أنه ” لا يمكن للبنك المركزي أن يمنح لفائدة الخزينة العامة للدولة تسهيلات في شكل كشوفات أو قروض أو أن يقتني بصفة مباشرة سندات تصدرها الدولة”، توجه يتناقض تماما مع النظام الأساسي السابق والذي سمح لتونس الاستفادة من الية السياسة النقدية لتمويل جزء من عجز ميزانية الدولة بما وفر هامش تحرك للنظام السابق للسيطرة على قراراته وتقليص ضغوط صندوق النقد الدولي عليه.
لقد استفاد الاقتصاد الأمريكي والاقتصاد الأوروبي من تدخل السياسة النقدية لتمويل عجز الميزانية وتحقيق النمو الاقتصادي والخروج من الأزمة المالية لسنة 2008 ، ولو لفترة، توجه كان بإمكان تونس اتباعه لولا مصادقة مجلس نواب الشعب على مشروع قانون النظام الأساسي للبنك المركزي الذي يعرف الجميع الظروف التي تمت المصادقة عليه. فمن خلال هذه الالية يمكن للدولة اصدار رقاع خزينة حسب معايير متفق عليها لتغطية حاجياتها لتمويل جزء من عجز الميزانية. في المقابل يمكن للبنوك تداول هذه الرقاع في السوق النقدية بفضل تدخل البنك المركزي وضخ مزيد من السيولة النقدية لفائدة البنوك لشراء رقاع الخزينة من الدولة التي توجه هذه الأموال لتمويل جزء من حاجياتها المالية ويقلص توجهها الى السوق المالية العالمية أو الاقتراض من المؤسسات المالية الدولية مقابل شروط مجحفة تصل الى حد التدخل في سياساتنا الاقتصادية والاجتماعية وزعزعة استقرارنا الاقتصادي والاجتماعي.
لقد دخل مجلس نواب الشعب بمصادقته على مشروع قانون النظام الأساسي للبنك المركزي في تناقض مع المصلحة العليا للبلاد ووضع البلاد أمام خيار وحيد وخطير وهو خيار التبعية لصندوق النقد الدولي. من هذا المنطلق نعتقد أنه من حق الشعب التونسي اليوم، وبناء على ما جاء في شهادات ضحايا الاستبداد، مساءلة مجلس نواب الشعب ومطالبته بتعديل وإصلاح ما أقدم عليه من تفريط لسيادتنا الوطنية وضرب ما جاء في الدستور الجديد أو حل نفسه وفتح المجال أمام انتخابات تشريعية سابقة لأوانها تقوم على مراجعة الاتفاقيات الدولية والثنائية أو الغاءها بما يسمح بتحقيق استحقاقات الثورة التونسية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *