شهادة وفاة تكلف تونسيا عشرات آلاف الدينارات بخير بقلم نادية تركي

القضاء التونسي

كنت من موقعي أتابع أخبار بلادي وأنظر إلى تونس بكثير من الألم، وغياب الأمل ..وعلى وشك اليأس ،خاصة من أداء المؤسسات الحكومية التي فقدت هيبتها في السنوات الأخيرة، إضافة إلى افتقادها للكفاءة اللازمة التي يستحقها شعب يتمتع بالعلم والثقافة والانفتاح على العالم.

كنت أنظر إلى المنظومة التعليمة فأحبط، لأن “ما نضعه في رؤوس أبنائنا اليوم، هو مستقبل أمتنا”.

وأنظر إلى اقتصادنا فأحزن لأننا اعتمدنا ولسنوات على قطاع واحد، وانهار فعلا، ولا أمل في عودته مع الظروف الدولية والإقليمية الراهنة.

ولأن القضاء مقياس تحضر الأمم، ولأني قرأت وسمعت الكثير عن ممارسات في المنظومة القضائية كنت على وشك الاقتناع بأن القضاء في تونس قد لبس هو أيضا عباءة الفساد ولن يخرج منها…

لكن خاب اعتقادي والحمد لله بفضل قاض نزيه، أمين على مهنته وأخلاقها السامية أعاد لي الأمل في بلادي، وبأن الشرفاء مازالوا يعملون في تونس، وحريصين على تحقيق العدالة.

بعد اجتماع مع صديقة محامية، كانت تستعد لدخول جلسة للدفاع عن موكلها الذي اتهمته “قاضية” في ولاية المهدية بالتطاول عليها، وتهمته قانونيا “هضم جانب موظف عدلي”.

شدتني القضية، فقررت حضور الجلسة للاستماع، وخاصة انتظار نتيجة المحاكمة التي يقف فيها مواطن تونسي من المقيمين في الخارج، أمام قاضية تونسية.

“المتهم” يعيش خارج تونس منذ 20 عاما، هو أكبر إخوانه، مسؤول عن إعالة عائلته منذ مغادرته أرض الوطن.

رجل أعمال صاحب مؤسسة محترمة يشهد الأجانب بنزاهته وأمانته وكفاءته.

توفي والده بعد تباطئ الإسعاف ، وإهمال طبي كما تعودنا عليه في مستشفياتنا مؤخرا.

كان “المتهم” بعد وفاة والده في حالة نفسية سيئة جدا، لاقتناعه بالتقصير الذي أدى إلى وفاة والده، ولتعلقه الشديد به. والأهم من ذلك أن القهر يدمي قلبه لأن عائلته ووالده كان خسر ثروته وأعماله بسبب التآمر والمماطلة من الإدارات وأساليب عملها..

أعود للحادثة ، يومها توجه “المتهم” إلى محكمة المهدية لاستصدار شهادة وفاة والده، ولم تكن المرة الأولى، ففي كل مرة كان يقصد المحكمة كانوا يطالبوه بوثيقة جديدة ، عوض اطلاعه على كل الوثائق المطلوبة منذ زيارته الأولى.

فقد السيد أعصابه لإحساسه بأن التماطل طال والده حتى بعد وفاته، وقام بتمزيق ما أحضره من وثائق خاصة به كانت عبارة عن مضامين لأسرته.

فسارعت كاتبة من المحكمة إلى الاستنجاد بقاضية، والتي خرجت وبدأت التحدث إليه بترفع، سألها الرجل” من انت”، فرأت القاضية أن في ذلك إهانة لها، رغم أنها لم تكن ترتدي زي عملها، ولم تكن في جلسة. فطالبت أعوان الأمن بإيقافه فورا، وتم ذلك فعلا، وبدأت قضية ضد “المتهم” الذي حوكم فيها ابتدائيا بسنة سجن غيابيا، ثم ستة أشهر ، مما اضطر “المتهم” إلى ترك أعماله في بريطانيا عشرات المرات للتردد على تونس ومتابعة إجراءات القضية والمحامين، وكلفته النفقات حوالي عشرات آلاف الدينارات .

كما دفعت القضية المحامية الأولى التي كانت تدافع عنه للتنازل عنها لتعرضها لمضايقات ، لأن الموضوع يخص الوقوف في وجه قاضية.

كانت المرة الأولى التي أجلس فيها في قاعة محكمة، أتطلع إلى ما حولي، ومن حولي محاولة فهم أسلوب المحاكمة في جلسات إصدار الأحكام.

رأيت في محكمة الاستئناف في ولاية المنستير عشرات المحامين ، بين شبان يتقدون حماسا واندفعا تنطق به عيونهم، وحركاتهم ,وشيوخ يقفون على خط التقاعد منهم من ينطق وجهه بالحكمة التي تعلمها في سنوات عمره، وآخرون يتحركون ببطئ يعكس ضجرهم من هذه المهنة التي فقدت الكثير من احترامها ، بعد كشف الفساد الذي نخرها لعشرات السنين.

جلست خلف صديقتي المحامية، أنظر إلى ما حولي، وأستمع إلى طبيعة القضايا ، والتي كانت من حسن حظي يومها متنوعة، فلم أشعر بالملل..

بين المتاجرة بالمجوهرات المسروقة، إلى اللحوم الفاسدة، ثم قضايا تخريب في مقهى، وسكر في أماكن مشبوهة،وغيرها..

إلى أن وصلت إلى القضية التي ترافع فيها صديقتي، فجأة عم الصمت أجواء القاعة، لأن الموضوع يخص قاضية، ولأن القضية حول حجة وفاة، من حق كل مواطن تونسي أن يحصل عليها ، وعلى الحكومة فعلا أن تضع خطة تسهل على المواطنين ذلك.

بدأت الجلسة باستنطاق “المتهم” الذي أجاب على أسئلة القاضي ، بأنه لم يتوقع يوما أن يقف في محكمة، وبأنه لم يتهجم يوما في حياته على شخص أثناء أداء واجبه، لكن المماطلة وأسلوب الموظفات في الإدارة استفزته لتمزيق وثائق تخصه.

وأن القاضية حتى عندما تدخلت لم تحاول الاجتهاد لاحتضان الموقف، بل سارعت بايقافه.

المحامية بدأت بعدها مرافعتها، وأثبتت غياب العناصر المادية للقضية حسب الفصول القانونية.

ولم يغب عنها التعريج على حالة المتهم النفسية، والظروف التي أدت إلى وفاة والده، وفي سردها لهذه الظروف، سردت أعيننا دموعا صادقة، وحتى المحامين الذين حضروا تأثروا للموضوع.

لكن الذي أثر أكثر هو حكم القاضي الذي أثار التصفيق في القاعة بعد احتباس أنفاس تواصل طول المرافعة في هذه القضية.

قمة النزاهة والشرف أن يحكم قاض في تونس بعدم سماع الدعوى لصالح مواطن تونسي أمام قاضية.

تونس مازالت بخير..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *