لا يشك أحد في أن بلادنا أثبتت رغم الصعوبات قدرتها لا على مواجهة المخاطر التى تتهددها فقط، بل على التقدم نحو إستكمال الإنتقال الديمقراطي و لو بخطى وئيدة فى أغلب الأحيان.
الكثيرون فوجئوا بنجاح التجربة التونسية في تجاوز ما واجهت من تعقيدات سياسية و أمنية وإجتماعية و بنجاحها في التعاطي مع التحولات الإقليمية و الدولية المتسارعة و لم تنجح بلادنا في تفادي شرور هذه التداعيات فقط بل نجحت في تحويلها إلىداعم ومساند.
وصمود التجربة التونسية حماها من الوقوع فى الهاوية التى لامست أحيانا حافتها في وقت إنهارت فيه كل تجارب الربيع العربي حدث ملفت للنظر و يتطلب تحليلا.
و لسائل أن يتساءل : ما سر هذا الصمود و القدرة على التأقلم مع التطورات و التحولات التي عرفتها البلاد و المنطقة و العالم من حولها؟؟؟
من الثابت أن الأوضاع الأمنية و المالية و الإجتماعية فى بلادنا بعد الثورة لا تقل خطورة و تعقيدا عن أوضاع بقية بلدان الربيعالعربي، بل لعلها أخطرها و أصعبها.
تونس عاشت تجاذبات وصراعات إيديولوجية وسياسية وإجتماعية أعنف مما عرفت بلدان أخرى بسبب تجذر التنوع السياسيوالإيديولوجي في بلادنا وعراقة العمل النقابي، وعلو سقف المطالب الإجتماعية والجهوية.
ثقافة الدولة
تجربتنا لم تنج من الإستهداف من طرف قوى إقليمية ودولية معادية للربيع العربي لأنها لم تكن على قائمة أولوياتها سرا أوعلنا وإنما لأنه لم تكن هناك إمكانات مادية وبشرية مجندة لتدميرها.
وليس غريبا أن يفسر الكثيرون هذا النجاح فى تجاوز المخاطر بتوافق الشيخين أو في ما تم إتخاذه من إجراءات من خياراتسياسية واجتماعية ظرفية أو ما سماه البعض قدرة النخب السياسية والاجتماعية على البحث في اللحظات الحرجة عنالمشتركات بما أنقذ البلاد من الكثير من المطبات.
ومع ذلك فإنه لا أحد ينكر أن لهذه المعطيات وغيرها دورا في النجاح النسبي لبلادنا ونخبها وقادتها السياسيين والإجتماعيينفي تجاوز الكثير من الصعوبات والمهالك ولكن ما ينساه البعض أن لثقافة الدولة في هذه البلاد دورا حاسما ولولا ترسخ تلكالثقافة في كل المواقع والمستويات لكان مصير تونس كبقية بلدان الربيع العربي.
حماية الانتقال الديمقراطي
يهمني شخصيا في هذه اللحظات التاريخية التنبيه لأهمية الدولة المركزية على كثرة عللها وأخطائها وتجاوزاتها وإنحرافاتهافي حماية تجربة الإنتقال الديمقراطي. فلولا الدولة التي يلعنها ويمقتها الكثيرون والتي هي أحد أهم مكاسب الإستقلالولولا ما ترسخ في وجدان التونسيين ومؤسساتهم القضائية والإدارية والأمنية والعسكرية وغيرها من ثقافة الدولة حتى وإنكانت سطحية أحيانا لما استطاعت تجربة الإنتقال الصمود طويلا أمام العواصف.
و سيحتج البعض بأن هذه الدولة كانت ظالمة وأنها كانت أداة في خدمة سلطة مستبدة فاسدة وأنها إضطهدت الكثيرينوإنتهكت حقوقهم وحكمت على قطاعات واسعة وجهات ممتدة من أبناء تونس بالتهميش والدونية وغير ذلك من الحقائقالتي لا جدال فيها ولكن والأهم من كل ذلك أن وجود الكيان المركزي الجامع وترسخ ثقافة الدولة في المؤسسات الخاصةوالعامة ولو بشكل سطحي مثل إحدى ضمانات حماية الكيان الجماعي من التفكك والإنهيار والسقوط في الفوضى المؤذنة لابإجهاض عملية الإنتقال فقط بل بخراب العمران وخراب التجربة والرجوع إلى الوراء وإلى أوضاع ما قبل بناء الدولة.
وعلى التونسيين أن يدركوا أن بناء الدولة الجامعة وإن كانت كليانية مكسب من أهم مكاسب الإستقلال عززها ما تحقق علىأرض الواقع بتواجد الإدارة والقضاء وتونستهما وبناء نواة مؤسسات عسكرية وأمنية وطنية وتحييدها عن الإعتباراتالإيديولوجية والجهوية.
و قد ساهم إعلان النظام الجمهورى وإصدار دستور 1959 ومجلة الأحوال الشخصية وإقرار تعميم التعليم و إجباريته وغيرها منالإجراءات فى ترسيخ ثقافة الدولة بالمجتمع كبديل لثقافة الإنقسام والعروشية و هي ثقافة إزدادت ترسخا وإتساعا بإتساعدائرة المتعلمين والمثقفين.
وكشفت تجارب بقية الدول العربية أن ضعف ثقافة الدولة وسطحيتها لدى كثير من الأشقاء لعب دورا في إنهيار الإنتقالالديمقراطي بهذه الدول.
خطر على الانتقال الديمقراطي
ولا غرابة بعد ذلك أن تفشل كل محاولات المساس من الدولة ومن وحدتها سواء تحت غطاء تكفيرها وإعتبارها بدعة مستوردةوضلالة أو تحت غطاء الدعوة لتسلم الشعب السلطة من خلال محاولات الإستيلاء على مقرات السيادة المحلية والجهوية.
ورغم تنامي ظاهرة تعمد إفشاء أسرار الأمن الوطني والإعتداء على القوات الحاملة للسلاح ومقراتها وتجهيزاتها والمساسبالأمن القومي والنزاعات الفئوية والعروشية والمذهبية وتحريض العسكريين والأمنيين على الخروج عن الشرعية ومحاولاتالمس من ثقة الشعب في الدولة وإرتكاب أفعال وتجاوزات من شأنها أن تمثل تهديدا جديا لوجودها ووحدتها وإضعافا لها مندعاة الإنقلاب والفوضى من أقصى اليمين وأقصى اليسار فإن الدولة الضعيفة العاجزة عن حماية مؤسساتها هي أعجز عنحماية الوطن وأرواح المواطنين وأعراضهم وأموالهم. بما يؤدي إلي إنهيار تجربة الإنتقال الديمقراطي والعودة إلى الحكمالكلياني وتجارب جيراننا أكبر دليل على ذلك.
أعداء تجربة الإنتقال الديمقراطي يعون أن دولة القانون القوية العادلة والخادمة لشعبها هي صمام الأمان في مواجهة مخاطرالإرهاب والفساد وتحديات التنمية. وإستكمال بناء هذه الدولة إستحقاق من إستحقاقات ثورة الحرية والكرامة ومعركة لا تقلأهمية عن معركة التحرر من الإستعمار والإستبداد ونجاحنا في تحقيق هذه المهمة بقدر نجاحنا فى تعبيد الطريق لإيصال بلادناإلى شاطئ الأمان وتحقيق أولوياتها الدستورية والسياسية والإجتماعية والتنموية والإقتصادية.
حماية الثورة والديمقراطية
وملخص القول أن الدولة التى تأسست بعد الإستقلال والتى وظفها النظام الكلياني المستبد ساهمت مع ثقافة الدولة التيترسخت على مدى السنين في مجتمع متعلم وما أنتجته من مؤسسات جمهورية مهما كانت سطحية في حماية الثورة والعمليةالديمقراطية الناشئة فى كل مراحلها في انتخابات 2011 وما بعدها وساهمت بشكل حاسم في حماية استمرار الكيان الجامعووحدته وتقدم مسار الإنتقال الديمقراطي رغم شدة الحرب عليها من طرف الفوضويين الذين لا يؤمنون بالدولة تحت غطاءالدين أو تحت غطاء الثورجية الأممية بدعم إقليمى ودولي معاد لعملية الإنتقال الديمقراطي في بلادنا وغيرها وهو مايدفعني إلى التأكيد على أهمية ومحورية الدولة في عملية الإصلاح والتحديث بشرط تطويرها في إتجاه كيان وطني جامعوخدمة المصلحة العامة على قاعدة الحرية للجميع والمساواة بين الجميع بترك اللون والجنس والدين.
وبسبب ذلك تتأكد أهمية إستكمال بناء المؤسسات الدستورية وتنزيل الباب السابع من الدستور من خلال التعجيل بإجراءالإنتخابات البلدية والجهوية وتحقيق اللامركزية وتركيز المحكمة الدستورية كحلقة داعمة لدولة ديمقراطية حقيقية حديثةحامية لأحكام الدستور ومعبرة عن الإرادة الشعبية الحرة وقادرة على الإستجابة لطموحات أوسع فئة من الشعب.