سورية: الثّقب الأسود للربيع العربي وساحة صراع إقليمي وعالمي

نشر من قبل : مركز الدَراسات

الاستراتيجية و الديبلوماسية

 

مقدّمة :

ربّما بدا السؤال عن موقع سوريا من خرائط المكان  تهكّميّا ، أو ربما غير جادّ في ظرف لا يحتمل الهزل . ولكننا لا نسأل عن المكان كرسم جغرافي ، بل نسأل عما بقي من دلالة هذا “الاسم ” “سورية” في خرائط المعنى العربي الحالي. منذ ثلاث عشريات أنجز المفكر العربي الاستثنائي عبد الكبير الخطيبي في كتابه “الاسم العربي الجريح” ما سمّاه “النقد المزدوج” لبنية الوعي العربي الكسيح ( نقد التصور الثقافي العربي التقليدي للجسد ، والثقافة المركزية الأوروبية ) ضمن مقاربة تفكيكية وظف فيها مناهج النقد الحديث. أعاد الخطيبي الاعتبار للجسد كموضوع للّذّة، وللّغة (الخطّ والوشم) كموضوع للدلالة والمعنى. ولكنه لم يكن يتصوّر أبدا أن هذا الاسم/الجسد “الجريح” سينتهي بعد سنوات قليلة إلى جسد شظايا “محتضر”. جسد يتفجّر بسبب فوائض المعنى وزوائده  حمّلته إياها رؤى تاريخية مشوّهة أحدثت فيه انزياحا في طرائق اللّذّة ، من لذّة حسّ واقعي مخصب للحياة، إلى لذّة هجس مرضي مصنّع للموت “الانتحاري” ، وبسبب قهر استعماري لم تتغيّر تبريراته كثيرا منذ زمن الخطيبي حتى اليوم. ما جدّ في سماء المعنى العربي بعد الخطيبي هو أن العرب نجحوا في “طفرة حلم”( الثورات العربية) أن يلامسوا ذرى الحرية بأيديهم ، وتتذوّق أجسادهم الجريحة هواء الكينونة الممتلئة، لولا أن حدث ما حدث….

“سورية”، الاسم العربي “المحتضر”:        

ما يجري في سوريا هو تصعيد تراجيدي لما يعتمل في الجسد العربي كله بعد ثوراته “النوعيّة” . نقول تراجيدي لأن المصير الذي يواجهه الشعب السوري، ومن حوله وقريبا منه الشعوب العربية، لا يختلف كثيرا عن مصير أبطال التراجيديا اليونانية الذين ينزلقون نحو المأساة بعد أن يكونوا قد لامسوا حافة الفرح وتذوّقوا طعم السعادة. غير أننا نعتقد أو نأمل أن تختلف حقائق التاريخ عن “حقائق الأسطورة” ، وإن كانت نهايات أبطال الأساطير مشحونة بالعظمة وطريقا لل”خلود”. تتكثّف في سوريا اليوم كل أنواع الصراعات التي اخترقت تاريخنا القديم والحديث والمعاصر. ويخطئ من يزجّ بأنفه في الساحة السورية بخلفية اتخاذ “موقف ” مما يجري هناك. التاريخ هناك يمور بأمشاج تحوّلات بالغة العمق بما يجعل الحقائق رجراجة ومتحوّلة وزئبقية ، فلا “موقف”(مكان نقف فيه) بإمكانه أن يجلو كل زوايا المشهد. وكل اصطفاف أعمى وراء طرف من أطرافه بخلفية الإيديولوجيا أو المذهب أو العرق  يصبّ موضوعيّا في تأجيج الحريق السوري وتوسيع رقعته والولوغ في  ما بقي من دم “الجسد ” العربي.

الثورات العربية “طفرة حلم” أيقظت كل مشاريع الهيمنة والتدمير:

انطلاق ثورات “الربيع العربي” من تونس بزخم شعبي سلمي كاسح وانتقالها إلى مصر ثم ليبيا ثم اليمن ثم سوريا، وتوقف هذا المد الثوري في سوريا  يؤكد صحة نظرية “أثر الدومينو”. فقد كان على حراس معبد الاستبداد والفساد المحليين والدوليين أن يتحركوا أولا لإيقاف انهيار قطع الدومينو في مرحلة أولى، قبل أن ينتقلوا للعمل على استعادة المساحات التي حررتها الشعوب في الأرض وفي الوعي في مرحلة ثانية. لذلك تمّ إجهاض الثورة المصرية في عملية انقلابية دموية باهضة الثمن ، باهضة إلى الحد الذي قد يزهّد الشعب في فكرتي الحرية والكرامة اللّتين ثار من أجلهما، ولكنها كانت عملية “ضرورية ” في نظرهم بالنظر للموقع الجيوستراتيجي لمصر.  لينطلق بعد ذلك مخطط العمل على إغراق الثورات التونسية والليبية واليمنية في أوضاع فوضى داخلية وعجز ذاتي  بأدوات تختلف من بلد إلى آخر وبالاعتماد على وكلاء متغيّرين. نصيب سورية في خطة وقف انهيار أحجار الدومينو كان “مأساويّا” ( إن بقي للفظ “مأساة” أو “محرقة” من دلالة داخل اللغة. اللغة  بما هي كتابة  أي “خطّ” مرسوم على بياض ورقي أو افتراضي، أو “صورة” رقمية شديدة الصفاء والنقاء تكاد تتحوّل فيها “جمالية الدم” إلى “متعة” بصرية تقارب “شبق” الفرجة والمشاهدة). سوريا اليوم ساحة حرب عالمية متعدّدة الأطراف والرهانات والاستراتيجيات يُستباح فيها الإنسان و الأرض والتاريخ والثقافة  والمعاهدات الدولية والأعراف الأخلاقية والدينية… سوريا الآن تقع خارج حدود “المعنى”، حتى الجنون لا يفي للدلالة على حجم الجحيم السوري. لقد نجح النظام السوري في استدراج الثوار إلى التسلّح بعد خمسة أشهر من المظاهرات السلمية( وهذا ليس موضوعا للمزايدة لأنه أمر موثق بدقة حتى في صحافة النظام لمن أراد التثبت) عندما واجه سلميتهم بالقتل ودسّ في صفوفهم عناصر “شبيحة” تطالب بالتسلّح قبل أن تطلق الرصاص على قوّات الأمن لتوفّر مبرّرا كافيا للقمع الدموي للمظاهرات . ثم خطط النظام السوري المخابراتي لتسليم الثورة إلى أياد سلفية داعشية بإطلاق سراح معتقلي التيارات الجهادية من سجن “صيدنايا”( طبعا أصبح الحديث عن التاريخ الوحشي لهذا السجن وأشباهه من سجون النظام السوري غير ذي موضوع بعد حالة الإبادة والمحو التي يتعرّض لها الشعب السوري بأكمله اليوم) . ثم أعلنت أنظمة وأطراف إقليمية ( إيران وحزب الله, السعودية وقطر والإمارات وتركيا ، إلى جانب الفاعل الحاضر في صمت “إسرائيل”) عن تدخّلها العلني في الشأن السوري ، منها المصلحة المباشرة في الحالة التركية المعنية بالموضوع الكردي شمال سورية، ومنها المصلحة الاستراتيجية الممزوجة بالهوس المذهبي والطائفي (إيران وحزب الله) ومنها البحث عن لعب دور سياسي إقليمي يتجاوز سقف طموحات و قدرات الدولة وتقاليدها السياسية(السعودية وقطر) والذي سيصطبغ هو أيضا بلون المذهب الديني ، دون أن يخلو من رغبة في لعب دور الوكالة عن قوى دولية ستفاجئ وكلاءها بسرعة الاستغناء عن خدماتهم كلما اقتضت أولوياتها الاستراتيجية ذلك. إذ لم يعد خفيّا التمايز الحاصل بين الموقفين الروسي والإيراني إلى درجة الحديث عن إختلاف في رؤية كل منهما لطبيعة الحل في سورية، رغم التقائهما  حول أولوية تثبيت نظام الأسد ميدانيا، وهو هدف لم يعد حكرا عليهما بل أصبحا يشتركان فيه مع الولايات المتحدة وإسرائيل.

لقد شكّلت تقلّبات الموقف الأمريكي في سوريا عاملا رئيسيا في تعفين الوضع ودفعه في اتجاه اللاحلّ.  فبعد مطالبة النظام باحترام ارادة الشعب وعدم الإفراط في استعمال القوة ضد المظاهرات السلمية، انتقلت أمريكا إلى مطالبة الأسد بالتنحي وفرض بعض العقوبات المالية على بعض رموز النظام ، ثم التلويح بالتدخل العسكري لمنع النظام من استعمال السلاح الكيمياوي، ثم المراهنة على الطرف التركي في تسليح المعارضة تسليحا “محسوبا” لا يصل إلى حد تغيير جذري لميزان القوى بما يتيح إسقاط النظام، كل ذلك بموازاة مسار سياسي عبثي فيما يعرف بمؤتمر جينيف .  عبثي لأن ميزان القوى على الأرض اختلّ لصالح النظام بعد تدخّل عسكري روسي مستحيل أن يتمّ لوجستيّا دون علم مسبق من أمريكا، تدخل رفع شعار الأرض المحروقة والتدمير المنهجي للمدن السورية وإخلائها من سكانها ودفعهم للهجرة الجماعية والتوجه لأوروبا (في عملية انتقامية من الموقف الأوروبي في أكرانيا). لينتهي الموقف الأمريكي إلى التنسيق الكلي سياسيا وميدانيا مع روسيا ، فلم تعد تشترط خروجا مسبقا للأسد من المشهد( رغم أن إمكانية الإتفاق مع الروس على خروجه في مرحلة ما من العملية السياسية التفاوضية وارد جدا)، والاهم من هذا هو توحيد شعار الحرب في سورية ليصبح الحرب العالمية على “الإرهاب” لا حماية الشعب السوري ضد همجية ودموية النظام المخابراتي الطائفي. شعار ترفعه امريكا وروسيا وايران واسرائيل رغم تغير مفرداته من ساحة إلى أخرى. تحوّلات الموقف الامريكي أربكت سياسة حليفيها الإقليميين التقليديين السعودية وتركيا اللتين اضطرتا لتكوين أحلاف إقليمية صوريّة (التحالف الإسلامي للحرب على الإرهاب الذي ضمّ نظريا قرابة ثلاثين دولة) لم يتبقّ منه غيرهما تقريبا إلى جانب قطر .تحالف على هشاشته فإنه يشعر السعودية أنها لم تتورط وحدها في الدعم السياسي والمالي والعسكري لقوى الثورة في سوريا وأنها تعوّض عزلتها السياسية والعسكرية في الساحة اليمنية المتفجّرة، ويتيح لتركيا حضورا إقليميا تناور به مع الحليف الأمريكي القديم الذي لم يتورّع عن خذلانها والمجاهرة بدعم حزب “الاتحاد الديمقراطي الكردي” (وهو النسخة السورية من حزب العمال الكردستاني التركي ). وإذا علمنا أن أكراد سوريا يتعاملون مع النظام البعثي بحجة تبادل المعلومات حول التنظيمات الإرهابية، وأن موجة التفجيرات التي تستهدف تركيا بكثافة ودقة لافتة تتوزع مسؤوليتها بين المخابرات السورية وحزب العمال وخلايا داعشية محلية وإقليمية ، فإنه يحق لنا الحديث عن زيف ووقاحة شعار “مقاومة الإرهاب” الذي ترفعه كل من أمريكا وروسيا وإيران وإسرائيل. الموقف الروسي  كان مفاجئا للجميع في حجمه ودمويته وتحدّيه للقانون الدولي وللتوازنات الدولية في المنطقة بما أوشك أن يجرّ العالم إلى حرب شاملة (نذكر أزمة الطائرة الروسية التي أسقطتها تركيا وتهديد روسيا بتأديب تركيا وهي عضو في حلف الناتو…). التدخل الروسي أعاد للأذهان صورة الاستعمار التقليدي بشكل أكثر وحشية وفجاجة ، لكأن روسيا تنتقم لحرمانها من حصتها في “وليمة” “سايكس بيكو” بداية القرن الماضي(1916) . التدخل الروسي المتواصل (رغم التمويه الذي حصل في شهر مارس الفارط حين أعلنت روسيا سحب قواتها من سوريا بعد أن حققت عملية التدخل أهدافها) أعاد الحياة لنظام بشار بعد أن أوشك على السقوط وخسر ثلاثة أرباع مساحة البلاد ، وفجّر صراعات دموية بين فصائل الثورة السورية المسلحة، وحقّق لروسيا عودتها كفاعل أساسي في الساحة الدولية، وهمّش الدور التركي في المنطقة، وبدّد الحلم السعودي بلعب دور إقليمي في المنطقة. وقبل كلّ هذا أجهض ثورة شعبية تنادي بالحرية والكرامة والديمقراطية في بلد ذي تقاليد حضارية عريقة طمسها الاستعمار و الدكتاتورية.

أمّا قوى الثورة المسلّحة التي تخوض معارك “سيزيفية” في الميدان فقد نجح “الوجه الداعشي” القبيح في تشويهها وطمس بطولاتها. لقد أصبحت داعش عنوان الثورة السورية على حساب قوى الإعتدال من تيارات وطنية نجحت في تنظيم المقاومة المسلحة رغم إدراكها لخطورة الخيار العسكري. ورغم أن خيار تسليح الثورة كان اضطراريّا ومحفوفا بمخاطر التوظيف والتوجيه ، فقد نجحت التيارات الوطنية خلال السنة الأولى من الثورة في إدارته بعيدا عن الأجندة الداعشية المشبوهة، قبل أن تجد نفسها في مواجهة مفتوحة مع فسيفساء من التنظيمات “الإرهابية” ذات إمكانيات مالية وعسكرية “غريبة”. (رغم التعتيم الإعلامي الدولي الرهيب على خارطة المعارك في سوريا أن التسهيلات الصهيونية أتاحت للدواعش التمركز في مدن وقرى تحت حمايتها، وأن النظام السوري نفسه انسحب من مواقع عديدة لصالح الدواعش لصدّ تقدّم الفصائل الوطنية..وهذه وقائع قد يفسرها البعض بأسباب تكتيكية، ولكن سهولة اختراق وتوظيف هذه الجماعات الغبية في أحسن الحالات ، والمجرمة في كل الحالات طبعا، لم يعد محل شكّ).

الإرهاب في سوريا : الثقب الأسود وحصاد طروادة : 

واضح أن الساحة السورية أريد لها دوليا وإقليميا وبدوافع متناقضة أحيانا أن تكون الثقب الأسود الذي سيبتلع أحلام الثورة والنهوض الحضاري للشعوب العربية. لذلك تم فتح كل الطرقات المؤدية إلى سوريا وتوفير كل التسهيلات لمساعدة الراغبين في “الجهاد” على الوصول إليها في أحسن الظروف، ليكونوا وقود حرب عبثية تتلطّخ فيها معاني الثورة والدين والحرية والكرامة بدماء الضحايا وأشلاء الاطفال ودموع الامهات بما يحولها من معاني مقدّسة إلى كوابيس مرعبة. لم يعد خفيا اليوم أن أطرافا من داخل بعض أجهزة الأمن العربية والمخابرات الدولية المنتشرة على خريطة العالم  كانت تعمل على تأمين تدفّق المقاتلين إلى سوريا عبر المطارات والموانئ وموجات الهجرة السرية المكلّفة جدا. ولعلّ الناظر اليوم لموجات الهجرة العكسية من سوريا إلى أوروبا يدرك خطورة الشبكات التي تقف وراء تسفير البشر من وإلى سوريا، بما يؤكد وقوف جهات قوية ومنظمة وراء توفير “الجهاديّين” كمادّة اشتعال ضروري للحريق السوري.  لقد أُريد لسورية أن تكون “ثقبا أسود” ومقبرة لمكاسب مسار النهوض العربي الذي كان على وشك الإثمار. فلا ننسى أن درجة الرقي والتقدّم التي بلغتها النخبة السورية كانت تؤهّلها لقيادة تجربة ديمقراطية عربية رائدة. غير أن قدر الجغرافيا وجوارها الصهيوني ، وتوفّرها على قنبلة التديّن الإنحرافي المرضي التدميري جعل سوريا ومن قبلها مصر أرضا مناسبة لاحتراق سنابل الثورة الغضة. ولا شكّ أن بذور التغيير ازدادت خصوبة عن ذي قبل، وأن الرماد سماد، إذ لا يمكن أن يعود الوعي السوري والعربي إلى ما قبل الحريق.

خاتمة :

يتم الآن تحت شعار” مقاومة الإرهاب” استباحة كل المدن السورية في قصف همجي وحشي لا مؤشر لانتهائه قريبا. قصف جوي وبري وبحري تشارك فيه مخابرات الأسد وميليشيات النظام الإيراني وممثله في لبنان والمنطقة حزب الله، والجيش الروسي وقوات أمريكية ومخابرات إسرائيلية لا تخفي وجودها ، وقوات تركية في الشمال الكردي، وتنظيمات متوحشة على الأرض يتم تمويلها وتسليحها من أطراف عدّة. هكذا لعب “الإرهاب ” دور حصان طروادة في الإنقضاض على الثورات العربية الوليدة وتحويلها إلى محارق ، بعد أن نجح في توحيد كل دول العالم على تناقض مصالحها تحت شعار مائع ومخادع وبلا مضمون ومبيح لكل أنواع الجرائم ضد الإنسانية.  “سورية” تتحوّل إلى “اسم عربي جريح” بعبارة الخطيبي، ونازف ،وربما محتضر. لذلك قد يحتاج الجسد العربي قريبا “اسما” جديدا. اسم يدلّ على خرائط وعي جديد يقع خارج المعاني الصّانعة للموت والجريمة. ليس الأمر خيالا محضا لان تحوّلات عميقة تعتمل في قلب المنطقة قد تفاجئ أكبر الفاعلين هناك، فللتاريخ مكره.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *