دمر شبابنا ونهب أموالنا وثرواتنا…. الاستثمار الأجنبي المباشر في الميزان.. بقلم جنات بن عبد الله

كشفت الندوات الثلاث التي احتضنتها مؤسسة التميمي للبحث العلمي والمعلومات في الأسابيع الأخيرة حقيقة الوضع الاقتصادي والمالي في تونس والمتناقض تماما مع ما تروج له الجهات الرسمية من حكومة وبنك مركزي خاصة فيما يتعلق بعجز الميزان التجاري وعجز ميزان المدفوعات وحجم الاحتياطي من العملة الأجنبية.
الخبراء الثلاثة ركزوا في قراءتهم للميزان التجاري على ضرورة وأهمية التفريق بين النظام العام الذي تخضع له الشركات المصدرة المقيمة والنظام غير المقيم الذي تخضع له الشركات غير المقيمة والمصدرة، حيث اتضح أن الجهات المسؤولة عن احتساب الميزان التجاري وميزان المدفوعات تتعمد عند احتساب الصادرات الدمج بين النظام العام الذي يشمل الشركات المصدرة المقيمة والخاضعة لقانون الصرف بمعنى أنها مطالبة باسترجاع مداخيل صادراتها، ونظام الشركات غير المقيمة والمصدرة كليا وهي الشركات التي يمسك 66 بالمائة من رأس مالها، كحد أدنى، غير مقيمين وبالعملة الأجنبية، وهذه الشركات لا تخضع لقانون الصرف بمعنى أنها غير مطالبة باسترجاع مداخيل صادراتها.
فمنذ سبعينات القرن الماضي وخاصة مع قانون أفريل 1972 المتعلق بالاستثمار الأجنبي المباشر اعتمد منوال التنمية الذي جاء بعد العشر سنوات الأولى بعد الاستقلال، وهي سنوات قامت على التخطيط الاستراتيجي للتنمية، على دور الاستثمار الأجنبي المباشر كما روج له النظام السياسي آنذاك على أنه سيساهم في النهوض بالتصدير وخلق مواطن شغل ونقل التكنولوجيا من خلال بناء نسيج صناعي تونسي قادر على خلق ديناميكية صناعية وتحقيق نمو اقتصادي يسمح باستيعاب الكفاءات التونسية المتخرجة من الجامعات والمعاهد العليا. ومنذ ذلك التاريخ حظي الاستثمار الأجنبي المباشر بامتيازات جبائية ومالية هامة روج لها في الخارج من أجل استقطابه لينتصب في إطار ما سمي بالشركات غير المقيمة والمصدرة كليا.
في المقابل تخضع الشركات المقيمة والمصدرة لنظام جبائي ومالي مختلف وبعيد عن الامتيازات التي تتمتع بها الشركات غير المقيمة والمصدرة كليا الى جانب شركات النفط الخاضعة لمجلة المحروقات والتي تتمتع هي أيضا بامتيازات هامة على حساب الشركات الوطنية.
ولمزيد تشجيع الشركات غير المقيمة والمصدرة كليا للانتصاب في تونس منحتها السلطة النقدية الممثلة في البنك المركزي التونسي امتيازا يتمثل في عدم اخضاعها لمجلة الصرف وعدم مطالبتها باسترجاع مداخيل صادراتها فضلا عن إعطائها حرية تحويل أرباحها السنوية.
المعاملة التفاضلية التي تتمتع بها الاستثمارات الأجنبية المباشرة لا تقتصر على بلادنا باعتبارها تندرج في إطار النظام الاقتصادي العالمي الذي يحكمه صندوق النقد الدولي والبنك الدولي والمنظمة العالمية للتجارة والرامي الى توفير كل شروط الحماية اللازمة لتنقل رأس المال الذي يعبر عنه بالاستثمار الأجنبي بكل حرية وفي كل شبر من الكرة الأرضية في إطار ما يسمى أيضا بالعولمة المالية والاقتصادية.
سياسة تحرير الاستثمار التي وضعتها مؤسسات “بريتون وودز” التي تمثل الشركات العالمية واللوبيات العالمية في مجال المال والأعمال تقوم على خلفية استعمارية تتيح لهذه الشركات العالمية النفاذ والانتصاب في البلدان “النامية” لنهب ثرواتها الطبيعية واستغلال كفاءاتها البشرية بأجور ضعيفة والتمتع بامتيازات جبائية ومالية من ميزانية الدولة التي تؤمن مواردها من جيب المواطن في صيغة اداءات مباشرة وغير مباشرة وذلك في اطار قوانين ومجلات وطنية على غرار مجلة المحروقات ومجلة الاستثمار تستمد نصوصها وتشريعاتها من أحكام اتفاقيات المنظمة العالمية للتجارة ومن توجهات وبرامج صندوق النقد والبنك الدوليين التي تقوم على أسس المدرسة الليبرالية.
البنك الدولي قدر قيمة الامتيازات التي تمنحها تونس للشركات غير المقيمة والمصدرة كليا، وهي شركات يمثل فيها رأس المال الأجنبي أكثر من 66 بالمائة بالعملة الأجنبية، في تقرير له صادر في سنة 2014 تناول فيه تحليل الوضع الاقتصادي في تونس بعد الثورة وجاء تحت عنوان “الثورة غير المكتملة”، في حدود 1 مليار دولار سنويا على امتداد أكثر من 30 سنة مقابل اعفاء هذه الشركات من الضرائب والسماح لها بالتهرب من القيام بالتزاماتها تجاه صناديق الضمان الاجتماعي التي تعاني اليوم عجزا هيكليا يعود جزء منه الى تهرب هذه الشركات التي تشغل أكبر نسبة من اليد العاملة المتوفرة في سوق الشغل التونسية.
وفي الوقت الذي لا تزال الحكومات تنوه بدور الاستثمار الأجنبي المباشر في تنمية الصادرات وخلق مواطن شغل ونقل التكنولوجيا، كشف الخبراء الثلاثة في مؤسسة التميمي للبحث العلمي والمعلومات زيف هذه الأهداف والشعارات التي كشفها تفاقم عجز الميزان التجاري وتفاقم عجز ميزان المدفوعات وتفاقم العجز الجاري الذي تطور من 4.8 بالمائة من الناتج المحلي الاجمالي في سنة 2010 الى 8.9 بالمائة من الناتج المحلي الاجمالي في سنة 2016 وعكسها أيضا ارتفاع نسبة البطالة وارتفاع نسبة الفقر وتفاقم تدهور التنمية في الجهات، لتكشف الأرقام الرسمية، البعيدة عن الحقيقة، أنه لم يكن هناك تصدير ولا خلق مواطن شغل ولا نقل تكنولوجيا بل أن هذه الأرقام الرسمية والى فيفري 2017 تاريخ صدور تقريري البنك المركزي في صيغة جديدة تعتمد طريقة الاحتساب التي دعا اليها الخبراء الثلاثة والتي تفرق بين مساهمة شركات النظام العام وشركات النظام غير المقيم بعد الاتهام الذي توجهوا به الى البنك المركزي في سنة 2015 من خلال عديد المقالات والحوارات الصحفية مفاده أن طريقة احتساب عجز الميزان التجاري وعجز ميزان المدفوعات فيها “مغالطات ترتقي الى مستوى التدليس”.
لقد تمتعت الشركات غير المقيمة والمصدرة وعلى امتداد أكثر من ثلاثين سنة بكل الامتيازات على حساب المواطن التونسي، وعلى حساب المرفق العمومي الذي تآكل، وهو في طريقه للاندثار بسبب ما يسمى بالخصخصة التي يحاولون الترويج لمزاياها في حين أنها عملية تفريط في ممتلكات الشعب التونسي وتفريط في سيادته وارتهان للمستثمر الأجنبي الذي يعمل اليوم على الاستيلاء على البنوك العمومية الثلاثة للسيطرة المطلقة على مصادر تمويل “الاقتصاد الوطني”، وعلى حساب امال وأحلام شباب تونس الذي ضحت المجموعة الوطنية من أجل تعليمه لتتقاذفه أمواج البحر الأبيض المتوسط ومخالب المخدرات والانحراف والبطالة والفقر والتهميش.
لقد كرس منوال التنمية الذي وضعته الأنظمة السابقة وبقيت حكومات ما بعد الثورة المؤقتة منها والمنتخبة وفية له لسياسة التفقير والتهجير القسري والبطالة القسرية والانحراف القسري من خلال تطبيق سياسة تحرير المبادلات التجارية وتحرير الاستثمار دون مراعاة متطلبات السوق التونسية وأولويات التنمية بما سمح للمستثمر الأجنبي بالتمتع بكل الامتيازات وبتهريب القيمة المضافة وتهريب الأموال بعنوان عدم اخضاع الشركات غير المقيمة والمصدرة لقانون الصرف.
لقد كشف البنك المركزي في تقريره الأخير الصادر في شهر فيفري حول “تطور الوضع الاقتصادي والنقدي في تونس والافاق على المدى المتوسط”، عن تراجع احتياطي تونس من العملة الأجنبية وخاصة من الدولار الذي بلغ أدنى مستوى له منذ سنة 2006 الى سنة 2016 وحاول تقديم تفسير لهذا التراجع بطريقة تعتمد “تعويم الحقائق” من خلال تعريفه للشركات غير المقيمة والمصدرة على أنها غير مطالبة باسترجاع مداخيل صادراتها، في حين أن الشركات المقيمة والمصدرة هي المطالبة باسترجاع مداخيل صادراتها للاستنتاج بأن مداخيل الشركات المقيمة والمصدرة لها تأثير مباشر على مستوى الاحتياطي من العملة الأجنبية لتونس.
كما كشف في التقرير بأن تراجع الاحتياطي من العملة سيقود الى مزيد الضغط على سعر صرف الدينار التونسي بما يرشح بمزيد تراجع قيمته أمام الدولار والأورو في الأيام القادمة.
لقد حاول البنك المركزي التونسي من خلال ما جاء في تقريره الأول وتقريره الصادر في 15 فيفري 2017 حول “تحليل المبادلات التجارية لتونس في سنة 2016” استباق الوضع باعتماد طريقة التنصل من مسؤوليته الأساسية المتمثلة في الحفاظ على قيمة العملة الوطنية وحماية سيادتنا النقدية، سيادة فرط فيها في شهر ماي 2016 عندما تخلى بمقتضى نظامه الأساسي الجديد الذي صادق عليه مجلس نواب الشعب في نفس الفترة عن حماية الدينار وتركه يخضع لقانون العرض والطلب في السوق النقدية، للإعلان بصوت عال ومن وراء ستار بأنه:
– وحسب المؤشرات الرسمية، دخل الاقتصاد التونسي مرحلة المجهول،
– وحسب المؤشرات الحقيقية، فرط حكام تونس الجدد في السيادة الوطنية بمقتضى قوانين مصادق عليها من قبل مجلس نواب الشعب.
حرر يوم 25 فيفري 2017
ملاحظة
الخبراء الثلاثة هم: السيدة جنات بن عبد الله إعلامية وكاتبة وباحثة في الاقتصاد، السيد جمال الدين العويديدي صناعي وخبير اقتصادي والسيد أحمد بن مصطفي ديبلوماسي سابق وخبير في العلاقات الاقتصادية الدولية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *