خيارات متناقضة: كيف سيُدير أردوغان علاقته مع رجال الأعمال عقب المحاولة الانقلابية؟

تطرح محاولة الانقلاب العسكري الأخيرة للإطاحة بنظام الرئيس التركي رجب طيب أردوغان مخاوف كثيرة حول أداء الاقتصاد التركي في المستقبل القريب. وبرغم فشل الانقلاب، ففي ضوء خطة أردوغان لتطهير مؤسسات الدولة ومواجهة جماعة فتح الله جولن، يتركز الهاجس الرئيسي حاليًّا لدى كثير من الأوساط الاقتصادية حول تأثير التحولات السياسية المقبلة على تأسيس علاقة جديدة بين النظام من جهة ورجال الأعمال من جهة أخرى.

وتُشير التصورات الأولية حول العلاقة بين الطرفين إلى بروز اتجاهات ثلاثة رئيسية: أوَلها، تضييق الخناق على رجال الأعمال التابعين لجماعة فتح الله جولن. وثانيها، تحجيم دور ونفوذ رجال الأعمال المحسوبين على التيار العلماني. وثالثها، تعزيز نفوذ رجال الأعمال المقربين من النظام داخل الاقتصاد. هذه الاتجاهات الثلاثة ترسم معًا صورة أوسع لسلطوية النظام السياسي، تقوم على زيادة المكاسب الاقتصادية والمالية للمقربين منه على حساب باقي التيارات الأخرى، وهو ما قد يهز الثقة في مناخ الأعمال والاستثمار بتركيا في المستقبل القريب.

توتر مسبق

ظلت جمعيات رجال الأعمال التركية بمختلف تياراتها السياسية داعمة للسياسات الاقتصادية لحكومة حزب العدالة والتنمية التي تقوم على تحرير الاقتصاد، وتعزيز دور الرأسماليين داخل الاقتصاد، ومع ذلك اشتدت حدة التوتر بين الحكومة التركية وبعض فئات رجال الأعمال منذ عام 2013 على خلفية العوامل الآتية:

1- منظمة إرهابية: في غضون مايو الماضي، صنفت الحكومية التركية رسميًّا جماعة فتح الله جولن (حركة خدمة) كمنظمة إرهابية، وذلك بعد موافقة مجلس الأمن القومي التركي في الشهر نفسه. وقد بدأ التوتر بين الجماعة والحكومة على خلفية اتهام النظام للأولى بالضلوع في تحريك قضايا فساد مالي وإداري في المناقصات العامة، واتهم بها رجال أعمال ووزراء تابعون للنظام في عام 2013.

ومن ثم في إطار تصنيفها كمنظمة إرهابية، أصبح بإمكان نظام أردوغان تصفية أو تجميد أصول الشركات والمؤسسات التابعة للجماعة بشكل مباشر، أو الشركات الأخرى المتورطة في تمويلها، حيث يجيز قانون حظر تمويل الإرهاب 6415 لعام 2013، تجميد أصول الأفراد أو الدول المتورطة بتمويل الإرهاب، والذي يعاقب المجرم أيضًا بالسجن لمدة تتراوح بين 5 إلى 10 أعوام، مع فرض غرامات مادية على الأقل 100 ألف ليرة تركية.

2- اعتقالات: بدأت الحكومة التركية في اتخاذ إجراءات فعلية بمحاصرة رجال الأعمال المقربين من جماعة جولن منذ فترة، ففي غضون مايو 2016 اعتقلت قوات الأمن التركية رضا نور ميرال، رئيس الرابطة التركية لرجال الأعمال والصناعة (توسكون) التي تمثل 55 ألف رجل أعمال تركي. وكذلك في مارس من العام الجاري، ألقت قوات الأمن التركية القبض على 4 رجال أعمال من بينهم الرئيس التنفيذي لشركة بويداق القابضة، ممدوح بويداق، بتهمة تمويل حركة “الخدمة”. كما تم اعتقال 80 من رجال الأعمال يُعتقد أنهم تابعون للجماعة في مايو 2015.

3- مصادرة الأصول: وفي مستوى آخر لمحاصرة الجماعة اقتصاديًّا، قامت السلطات التركية بنقل الصلاحيات الخاصة بإدارة بنك آسيا، الذي يُعتقد بملكيته لرجال أعمال مقربين من جولن، إلى صندوق تأمين الودائع التركية في مايو 2015، كما أُعفى من مميزات ضريبية، وقامت شركات شبه حكومية بسحب أرصدتها من البنك. وعلى المستوى نفسه، عينت محكمة الصلح والجزاء التركية وصيًّا على مجموعة شركات “كايناك” التي يُعتقد ملكيتها لرجال أعمال مقربين من جولن.

تطورات مستقبلية

أبدت الأوساط السياسية كافةً رفضها لمحاولة الانقلاب العسكري الذي قاده مجموعة من الضباط بالجيش التركي يومى الجمعة والسبت الماضيين، وبالمثل اتفق مجتمع الأعمال التركي على رفض الانقلاب وتأييد النظام الراهن، كما أدان الانقلاب جمعية رجال الأعمال والصناعيين المستقلين “الموسياد”، ورابطة ملاك ومستثمري الفنادق السياحية، وغيرها من اتحادات الأعمال. ومن دون شك فإن هذا التأييد الذي يأتي في لحظة سياسية فارقة يمهد لعلاقة أكثر إيجابية وأقل توترًا بين الأوساط السياسية والاقتصادية من ناحية والنظام من ناحيةٍ أخرى، وبرغم ذلك يبدو أن تطورات الموقف السياسي ستفرض أسسًا جديدة للعلاقة مع رجال الأعمال على النحو الآتي:

سيناريوهات علاقة النظام التركي برجال الأعمال إبان يوليو 2016

1- مخاوف اقتصادية: رغم أن المحاولة الفاشلة لانقلاب العسكريين لم تستغرق سوى ساعات قليلة، بيد أنها في العموم تثير قلقًا لدى المستثمرين بالداخل والخارج من احتمالية عدم استقرار البلاد في المستقبل القريب، إما جراء سلطوية الدولة، أو بسبب الصراع الخفي والمستمر مع المؤسسة العسكرية، وهو ما من شأنه أن يؤثر على الأداء الاقتصادي سلبًا. فضلا عن ذلك، من الوارد جدًّا أن يتباطأ الأداء الاقتصادي في ضوء التطورات الأخيرة بسبب تراجع السياحة والطيران المحتمل وغيرها من القطاعات الأخرى على الأقل في العامين الجاري والمقبل. ومن ثم، قد يتراجع معدل نمو الاقتصاد التركي إلى ما دون تقديرات البنك الدولي السابقة، والتي تشير إلى نموه 3.5% بنهاية 2016، وهو ما سيضر كثيرًا من انتعاش الأعمال.

2- محاصرة الأنشطة: في ضوء اتهام أردوغان المباشر لجماعة جولن بالمشاركة في الانقلاب، فمن الوارد للغاية أن تتبع الإدارة التركية سياسات أكثر جرأة في التعامل مع رجال الأعمال المحسوبين على جولن. وفي هذا السياق، قررت السلطات التركية إبان فشل الانقلاب مباشرة، في 18 يوليو 2016، إيقاف عمل مصرف “آسيا ” لعلاقته بجولن. وليس مستبعدًا في ضوء ذلك أن تتوسع السلطات التركية في وقف أنشطة شركات أخرى أو اعتقال رجال أعمال آخرين. وكما يتوقع، فإن النظام السياسي الراهن ربما يُقدِم في هذا الإطار على تعديل البنية التشريعية لمكافحة تمويل الجماعات الإرهابية لتغليظ عقوبات تمويل جماعة جولن، ومعاقبة رجال الأعمال المناوئين له. ولكن مما تجدر الإشارة إليه هنا أن من الصعوبة محاصرة كافة أنشطة الجماعة أو المحسوبين عليها في القريب العاجل؛ حيث تمتد إلى 6500 شركة بحسب مجلس مراقبة المؤسسات التابع لرئاسة الجمهورية التركية، ويُعتقد أنها تُدير أصولا تتراوح بين 25 مليار دولار و50 مليار دولار.

3- استبدال النفوذ: عمليًّا، لا يمكن لنظام أردوغان تجاهل نفوذ جمعيات رجال الأعمال التركية بمختلف توجهاتها السياسية نظرًا لنفوذها الاقتصادي بالداخل أو اتصالاتها وانتشارها دوليًّا. وقد يرى النظام السياسي الراهن أيضًا أن سياسة تضييق الخناق على رجال الأعمال من شأنها عرقلة المسيرة التنموية لتركيا، وخفض ثقة الاستثمار في الاقتصاد التركي. في المقابل، قد يُبدي رجال الأعمال بمختلف تياراتهم مرونة واهتمامًا أكبر بمساندة النظام القائم في خططه الاقتصادية والتنموية تفاديًا لمحاولات الإقصاء أو العزل.

عند هذا الحد يبدو الوضع متوازنًا بين الطرفين. لكن من المؤكد أن الإجراءات السياسية التي أُعلنت من قبل أردوغان المتمثلة في تطهير مؤسسات الدولة ومواجهة جماعة جولن تعزز من سلطوية النظام القائم، وهى -في الوقت نفسه- ترجح من قيام النظام بتقديم مزيدٍ من التسهيلات غير المباشرة لرجال الأعمال المقربين منه عبر منحهم أولوية في المناقصات العامة والمشروعات الحكومية وكذلك عقود الاستثمارات، وذلك على حساب الفئات الأخرى، مما يزيد من مكاسب الفئة الأولى على حساب الآخرين. ولو تحقق ذلك، فسيؤدي من دون شك إلى خفض الثقة في مناخ الاستثمار وممارسة الأعمال بتركيا، وهروب رءوس الأموال إلى خارج تركيا تدريجيًّا.

وختامًا، يُمكن القول إن العلاقة بين أردوغان ورجال الأعمال ستتشكل على أسس جديدة سيكون أردوغان ونظامه السياسي الرابح الرئيسي فيها، وبالتالي ستخضع مكاسب رجال الأعمال لخيارات سياسية وليست اقتصادية فقط.

 

المصدر : المركز الإقليمي للدراسات الإستراتيجية – Rcss

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *