حميش يكتب: ما لا يُعرف عن صاحب نظرية "صدام الحضارات"

إن الأمريكي صامويل هنتنغتون (متوفى في 2006) المتخصص في الدراسات الجيوستراتيجية، أصدر في 1996 كتاب “صدام الحضارات” الذي نال شهرة واسعة وشغل كثيرا من الباحثين والمثقفين، سيما بعد الضربات الموجعة التي تلقت الولايات المتحدة في 11 شتنبر 2001، فأثار نقاشات شتى من طرف فئات اعتبروا الصدام ذاك واقعا تثبته أحداث جسام ومجرى التاريخ المعاصر، فيما ذهب آخرون إلى إنكاره، مشفوعا بالدعوات إلى تحالف الحضارات وسن ثقافة الحوار بينها.

وفي وطيس تلك النقاشات ضاعت خيوط وتفاصيل مهمة، إذ لم يُلتفت إليها أو لم تُدرج في الحسبان والتحليل، ومنها نقده لإسرائيل وازدواجية المعايير الغربية ولفكر فوكوياما، ومنها أيضا ممارسته لشيء من النقد الذاتي، وهذه العناصر هي التي نود إبرازها في السطور التالية:

 

بعد سقوط جدار برلين وتصدع الاتحاد السوفياتي ونهاية حرب الخليج الثانية (1989-1991)، تسنى للولايات المتحدة، التي صارت وقتها القوة العظمى الوحيدة، أن تدعو إلى نظام عالمي جديد، حيث ترجع لها فيه فعلا وشرعا مقاليد القيادة (leadership) واليد العليا (ascendancy). وقبل تلك الأحداث الجسام ببضع سنوات، كان أن لخص كاتب الدولة الأسبق في الخارجية جورج شولتز في تصريح (أبريل 1986) الوضع الجديد بكلمات تقول الشيء الكثير عن روح السياسة الخارجية الأمريكية وعقيدة من سيسمون “المحافظون الجدد”: «إن كلمة تفاوض ليست سوى المرادف الملطف euphemism للاستسلام إذا لم يبرز ظل القوة على الطاولة…»؛ ثم يقدح في من ينادون بالاحتكام إلى الآليات والهيئات الدولية، فيقول «إن وساطة أطراف ثالثة ومنظمة الأمم المتحدة ومحكمة لاهاي تكون مجرد وسائل طوباوية وقانونية صورية في حالة جهل عنصر القوة في المعادلة»(14).

وهكذا يؤكد رجل الدولة هذا في العهد الريغاني بصراحة وحزم ما سبق أن سجله على نحو نقدي منذ 1978 ف.ج. كييرنان: «إن أمريكا تعشق فكرة أن ما تريده مطابق بالذات لما يريده الجنس البشري»، وذلك، كما جاء من بعد على لساني كاتبة الدولة في الخارجية السابقة مادلين أولبرايت والرئيس جورج والكر بوش، لأن «الولايات الأمريكية المتحدة خيرة» The United States is good.

إن إرادة الهيمنة والقوة، من حيث طبيعتها، لا تتردد أبدا في الأخذ بكل الوسائل من أجل سيرها واكتمالها. فبصفاتها الماكيافيلية المتقلبة و”السينيكية” نراها لا تنظِّر سياستها الخارجية وتمارسها إلا في ظل مصالحها الجيوستراتيجية والاقتصادية في العالم. وهذه السياسة التي هي خصيصة القوى العظمى، أقر بوجودها حتى الشهير صامويل هنتنغتون، ولو مكرها: «إن ادعاءات العالمية، كما يكتب، لا تمنع من الوقوع في النفاق والخطاب المزدوج والاستثناءات. وهكذا تدافع [البلدان الغربية] عن الديمقراطية لكن ليس حينما تأتي بالأصوليين الإسلاميين إلى الحكم؛ تحرم انتشار السلاح النووي على إيران والعراق وليس على إسرائيل؛ تعتبر حقوق الإنسان مشكلا في الصين وليس في العربية السعودية؛ ترد العدوان عن الكويت الغني بالنفط وتتلكأ في حالة هجومات [الصرب] على البوسنيين الذين ليس لهم نفط، الخ».

إن مثل هذه المواقف الإزدواجية، وغيرها كثير، لتعبر عن أحد الثوابت الراسخة في سياسة أمريكا الخارجية، بل عن عنصر مستدام، كأنما هو منطبع في تراثها الجيني، يتظاهر ويعمل في الأجهزة المسؤولة، جمهورية كانت أم ديمقراطية، فلا غرو أن تستقوي بها إسرائيل المسلحة بـ 150 رأس نووي تهدد به كلَّ بلدان المنطقة، ولا عجب أن تتخذ تحت المظلة الأمريكية الدائمة سلوك الغطرسة والاستهتار في تعاملها مع السلطة الفلسطينية بالضفة الغربية، وفي سعيها المستميت إلى إخضاع قطاع غزة للحصار المقرون من فترة إلى أخرى بحروب عليها قاسيةٍ مدمرة، لن تكون آخرها عملية الحاجز الواقي صيف 2014.

إن اعتراف هنتنغتون ذاك الصريح والجريئ لم يُلتفت إليه عربيا، حسب علمنا، كما الحال إلى دعوته لتركيا إلى: «أن تتخلص من أتاتورك [أي اللائكية] بأكثر حزما من تخلص روسيا من لينين»، وكذلك ما كتبه عن اليهودية: «إن علماء الحضارات لا يصنفون اليهودية كحضارة متميزة، بل كديانة فقط انصهر أتباعها كمواطنين في المجتمعات الإسلامية والمسيحية والغربية عموماً.

هذا وإن إنشاء دولة إسرائيل لم يغير من وضع اليهودية في العمق شيئا». أما الجدير بالتسجيل أيضا فهو، كما سنرى، حكمه الصائب على كتاب نهاية التاريخ والإنسان الخاتم لفرانسيس فوكوياما، القائل ببوار الأنموذج الفوكويامي، ثم تحليه بتواضع محمود إذ يقرُّ أن أنموذجه هو ما زال صالحا لزماننا، لكنه «قد يعرف المآل نفسه».

لاحاجة بنا هنا إلى استعراض سيل الانتقادات التي ساهم فيها مثقفون عرب لأطروحة هنتنغتون تخصيصا، إذ استفرغ أكثرهم جهودا في ذمها بل نفيها جملةً وتفصيلا وبكثير من السطحية والسذاجة. وحسبنا هنا أن نلحظ طابعها الماكرو-تاريخي (على طريقة شبنغلر وتوينبي لكن من دون توفره على موسوعيتهما)، ثم كيف أن صاحب صدام الحضارات في متم مسوحه الإيديولوجية كشف عن ورقته الأخيرة وناصية مؤلفه في جملة لا لبس فيها، تبدو مشيرة إلى ركن ركين في تفكيره وبيتِ القصيد في مبحثه؛ فبعد أن شخص أهم المخاطر التي تتهدد سيادة الحضارة الغربية وحكمها (وأعتاها “الصحوة الإسلامية” ودينامية آسيا الاقتصادية)، سطر أن الغرب بمقدوره أن يتغلب عليها «إذا ما عرف نهضة وعاكس التيار وألغى وهن تأثيره في عالم الأعمال، وأثبت موقعه كزعيم تتبعه وتقلده الحضارات الأخرى».

ولا عجب أن يصدر هنتنغتون أحكامه التعميمية الجزافية في حق الإسلام وحضارته، هو القليل البضاعة المعرفية في الإسلاميات، والمعول فيها إجمالا على مرجعه الأبرز، المستشرق الشهير بدراساته (المجادل في معظمها) للتاريخ الإسلامي، وكذلك بنزوعه الصهيوني المعلن، وبعدائه الشرس لإدوارد سعيد، ألا وهو برنارد لويس الذي كتب في 1990 دراسة عنوانها الرئيسي “جذور السعر الإسلامي”، وكان له فيها السبق إلى إيراد مفهوم “صدام الحضارات”، فسجل من باب التنبيه والتحذير: «يلزم أن يكون واضحا منذ الآن أننا نواجه حالة ذهنية وحركة تتجاوزان المشاكل والسياسات والحكومات التي تجسدها. فالأمر ليس أقل من كونه صدام حضارات. إنه ربما رد الفعل اللاعقلاني، ولكنه قديم قدم خصم مناوئ لإرثنا اليهودي-المسيحي [كذا!] ولما نحن عليه اليوم[…] إنه من الأهمية البالغة أن لا نسقط، من جهتنا، في ردة فعل تكون هي أيضا لاعقلانية وقديمة ضد هذا الخصيم». إنها كلمات راجمة، مشحونة بتصور حربوي للتاريخ، لا تبشر بأي خير لإعادة تأسيس ثقافة السلام، تكون مخلَّصة أخيرا من سيكولوجيا الغل والضغينة، ومن أي ذاكرة أحادية البعد، مسكوكة بصراعات الماضي وحروبه.

وللتذكير فإن لويس ظل يعارض قيام الدولة الفلسطينية، وأيد غزو الجيش الإسرائيلي للبنان في 1982، وكان مستشار نيتانياهو أثناء عمله كسفير في هيئة الأمم المتحدة، وأصبح غداة 11 ديسمبر 2001 الأب الروحي للمحافظين الجدد في البيت الأبيض والبنتاغون ومرشد الرئيس جورج والكر بوش في الشؤون العربية الإسلامية، نصيحتُه إليه كانت: «عليك [مع المسلمين] بالردع وإلا فانسحب» (get through or get out)؛ ويحث المسلمين على الكف عن التمادي في تأثيم الغرب ومعاداته.

أما قارؤه والمتأثر به هنتنغتون –للتذكير أيضا- فإنه عُرف كخبير سابق في شؤون قمع التمردات أثناء حرب فيتنام تحت ولاية جيمي كارتر، وكمدير سابق لمعهد م. أولين للدراسات الإستراتيجية لجامعة هارفد يونفرستي. وللحديث صلة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *