تونس من أزمة إلى أخرى.. الحل اقتصادي أم سياسي؟ بقلم كمال بن يونس

◄ النابلي يعرض مشروعه «للإنقاذ الوطني» بحضور الغنوشي والشابي وحمه الهمامي ومرزوق

كان عشرات الخبراء والسياسيين من مختلف الألوان السياسية بمناسبة الملتقى الذي نظمته جمعية الاقتصاديين التونسيين بالأمس في أحد فنادق العاصمة لمناقشة «المشروع المستقبلي» الاقتصادي السياسي الذي قدمه الأستاذ مصطفى كمال النابلي محافظ البنك المركزي السابق ووزير التخطيط مطلع التسعينات.

الحدث واكبه قادة أبرز الأطياف السياسية مثل السادة راشد الغنوشي وأحمد نجيب الشابي ومحسن مرزوق وحمه الهمامي وعبد الجليل البدوي والمنجي الرحوي ..وكان السؤال المركزي: كيف يمكن إنقاذ تونس من أزماتها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية الحالية ؟

ولئن كان اللقاء الحواري فرصة لتقديم تقييمات جريئة للمستجدات الاقتصادية والسياسية في البلاد فإن السؤال الكبير الذي يطرح في البلاد بعد هذا الحوار المفتوح هو نفسه المطروح منذ الاحتجاجات الشبابية العنيفة التي شهدتها البلاد الشهر الماضي خاصة في الجهات والفئات المهمشة: هل يمكن إنقاذ الأوضاع في بلد يتخبط منذ أعوام بين الأزمات؟

المداخلة المنهجية التي قدمها محافظ البنك المركزي السابق والمشاركون في الحوار من ممثلي التيارات الإسلامية والليبرالية واليسارية تراوحت بين السياسي والاقتصادي من جهة وبين العرض العلمي للمؤشرات التنموية ومحاولة تقديم «تصور ومقترحات للإنقاذ» من جهة ثانية.

 دوران في حلقة مفرغة ؟

الأستاذ أحمد نجيب الشابي الزعيم السابق للمعارضة القانونية وزعيم الحزب الجمهوري تفاعل وعدد من المتدخلين في الحوار العام مع الأستاذ مصطفى كمال النابلي بينهم الوزير السابق في حكومتي الترويكا رضا السعيدي والبرلماني المنجي الرحوي..

لكنهم أوحوا خلال الحوار العام أن النخب التونسية بصدد «الدوران في حلقة مفرغة»..أو بين مربع أركانه غير متناسقة..» مع تعاقب محاولات إعادة إنتاج القديم»؟؟

هذه النقاشات بحضور زعيمي النهضة والجبهة الشعبية ووزراء ومسؤولين بارزين في عهد بن علي ثم بعد جانفي 2011 تكشف اقتناعا جماعيا بعمق الأزمات الاقتصادية والاجتماعية والأمنية والسياسية التي تواجه البلاد وتهدد مصيرها ومصير ملايين من الشباب والأطفال..

ولئن حرصت مداخلات النابلي وأنصاره ـ وبينهم خبراء جمعية الاقتصاديين التونسيين ورئيسها محمد الهدار ـ على تجاوز مرحلة «التشخيص» إلى مرحلة تقديم «تصور للإنقاذ» فان بعض السياسيين والخبراء الذين تناولوا الكلمة ـ مثل عبد الجليل البدوي واحمد نجيب الشابي ورضا السعيدي ـ تحدثوا عن واقع تونس والتحديات التي تواجهها من موقع آخر: موقع من لا يؤمن بكون «الإنقاذ» سوف يأتي من رموز «المنظومة القديمة» والأطراف التي ساهمت في صنع توجهات الدولة والبلاد خلال العقدين الماضيين ؟؟

التشخيص .. والحلول

على هذا الصعيد تبرز التناقضات في تشخيص أزمات تونس وأسبابها العميقة والآنية ثم في تقديم تصور للتجاوز أو للإنقاذ..

النابلي نجح في تبسيط مشروعه للمستقبل و»للإنقاذ الوطني» وربط بين التحديات الاجتماعية وبينها تحسين أوضاع العمال وترفيع إنتاجيتهم وبين تطوير الاستثمار وفرص التوظيف الايجابي لرأس المال الوطني..

وسار في نفس المسار محمد الهدار وخبراء جمعية الاقتصاديين التونسيين وبعض المتدخلين الليبراليين وأعضاء البرلمان والتجمعيين واليساريين..

لكن «المشروع المستقبلي للإنقاذ» الذي دافع عنه النابلي وأنصاره قوبل بدعوات إلى «التجديد» و»تقديم حلول للتحديات الحالية والقادمة» والى «التحرر من شعارات تنال إجماعا منذ عهد بن علي لكنها غير واقعية «..مثلما جاء على لسان الأستاذ احمد نجيب الشابي.

التوافق..ومرحلة «الترويكا» ؟

لكن هل يمكن لتونس أن تخرج من أزماتها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية المتراكمة منذ أعوام دون الانطلاق من «المكاسب» التي تحققت في الماضي ؟

هنا أيضا تتباين التقييمات والتقديرات..

وإذا كان مصطفى كمال النابلي حاول التحرر من صفاته الرسمية السابقة وطنيا ودوليا وأن يستحث الجميع للتفكير في خطة مستقبلية للإنقاذ، فان صمت زعيمي الجبهة الشعبية حمة الهمامي وحركة النهضة راشد الغنوشي وعدد من نواب حزب النداء و«الرباعي الحاكم» لم يمنع الوزير السابق رضا السعيدي من توجيه رسائل سياسية إلى النابلي وأنصاره فحواها «التنويه بتجارب التوافق السياسي والمجتمعي» المعتمدة في تونس منذ 2011 ..بما في ذلك من خلال تجربتي الترويكا والائتلاف الرباعي الحالي والوثيقة التوجيهية لحكومة الحبيب الصيد.

اليسار واليمين الجديدان

ومثلما يعكسه المشهد السياسي الوطني حيث تتباين التقديرات والمواقف من «الوثيقة التوجيهية» الاقتصادية للحكومة الجديدة فان مواقف بعض الأطراف اليسارية والنقابية تؤكد على أن «التوافق السياسي» الذي تحقق بصيغ مختلفة في تونس منذ هيئة الأستاذ عياض بن عاشور في 2011، لا يعني احتمال التوصل إلى «توافق حول الخيارات الاقتصادية والاجتماعية» على حد تعبير الخبير الاقتصادي الاجتماعي والمستشار لدى الاتحاد العام التونسي للشغل ومؤسسة سيريس عبد الجليل البدوي.

في المقابل ذهب النائب عن الجبهة الشعبية المنجي الرحوي إلى أبعد من ذلك إذ اعتبر أن «اليسار لم يعد دوما يسارا» وأن اليمين أصبحت مواقفه متغيرة .. بما يوحي فعلا بواحد من مظاهر «حالة عدم الاستقرار» في خيارات النخب والسياسيين والخبراء الاقتصاديين والاجتماعيين في بلد يشهد أزمات داخلية وخارجية متعددة المصادر والألوان..

أجواء حملات انتخابية ؟

وبصرف النظر عن تباين المواقف أمس من «مبادرة» محافظ البنك المركزي السابق ـ التي واكبها كذلك قياديون من حزب الرئيس السابق المنصف المرزوقي ومن أحزاب صغيرة في الحكم والمعارضة ـ فان ما يلاحظ هو أن «أجواء حملات انتخابية سابقة لأوانها» برزت أمس في الفندق الذي استضاف الملتقى الكبير الاقتصادي الاستشرافي بحضور النابلي وأنصاره وبعضهم من رموز حملته الانتخابية الرئاسية في 2014 مثل الأستاذين الطاهر بوسمة وماهر حنين وثلة من السفراء القدامى وكوادر الدولة السابقين وممثلي القطاع الخاص.

وتتزامن هذه المبادرة مع خطوات مماثلةّ تدعو للإنقاذ الوطني» صدرت عن رئيس الحكومة السابق المهدي جمعة وعن سياسيين بارزين مثل السادة كمال مرجان زعيم حزب المبادرة والوزير السابق المنذر الزنايدي.. فضلا عن مبادرات الحزب الجمهوري بزعامة السيدة مية الجريبي ومقترحات بعض الأحزاب الوسطية..

إلا أن السؤال الكبير يظل مرة أخرى: هل أن إخراج تونس منأزماتها يتطلب حلولا سياسية أم اقتصادية اجتماعية؟

التحليلات المطولة التي قدمها أعضاء جمعية الاقتصاديين التونسيين ثم السادة مصطفى كمال النابلي واحمد نجيب الشابي وعبد الجليل البدوي ورضا السعيدي والمنجي الرحوي تكشف أمرين: أولهما أن النخب السياسية لا تزال تحت ضغط الرسائل التي وجهتها احتجاجات شهر جانفي الماضي والثانية هي اقتناع اغلب الأطراف بكون «البلاد تحتاج فعلا إلى إجراءات طوارئ» والى «خطوات عاجلة للإنقاذ» تتجاوز الحلول الترقيعية والوعود السياسية التي تقدمها الحكومات المتعاقبة منذ جانفي 2011 والتي لا يجد أغلبها طريقا إلى التنفيذ بما يزيد من معاناة أبناء الجهات المهمشة والشباب..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *