تسعون يوما قبل الحسم الانتخابي: مشهد ضبابي مربك .. بقلم ابراهيم جدلة

ونحن في بداية شهر جويلية لم يعد يفصلنا تقريبا عن الانتخابات المقبلة سوى 90 يوما. تُقذّم فيه الترشّحات وتُقام فيها الحملات الانتخابيّة وتُتَوّج بمنح الثقة الشعبيّة للأجدر أو للأثرى أو لأصحاب الوعود الكاذبة، أو كما جرت العادة للذين يقنعون الأغلبيّة بأنّهم الأذكى والأنظف يدا، والأكثر نضاليّة…وووو….

وفي الوقت الذي ازداد فيه قلق الجميع حول إمكانيّة تأجيل الانتخابات من عدمها، يبدو أنّ المشهد السياسي العام ولأوّل مرّة يتّسم بالغموض التام، ولا أحد يعرف ماذا يريد، ولا أحد يعرف ما هو المصير، ولا أحد قادر على الإقناع، ولا أحد متيقّن مُسْبقا بأنّه سينال ثقة النّاخبين. كلّ هذا يفسّر إلى حدّ بعيد، لماذا يدخل الجميع إلى فترة حاسمة من الحملة الانتخابيّة مع غياب كلّي للبرامج الحقيقيّة والفعليّة، ويفسّر غياب حوار سياسي عميق بين الفاعلين السّياسيين والذي اقتصر على صراعات هامشيّة بين الشقوق، حول شرعيّة هذا أو ذاك، أو صراعات حول أسماء وقائمات، وحتّى الحملة الانتخابيّة غير المعلنة والسابقة لأوانها، التي تقوم بها الحكومة أو من يمثّلها، لم ولن تؤت أُكلها وانعكاساتها السلبيّة تفوق بكثير إيجابياتها المنتظرة.

في هذا الإطار نتساءل بكل هدوء عن أسباب هذه الأزمة ، كيف وصلنا إلى هذا الوضع، وهل من أمل لإصلاحه؟

نبدأ بالفاعلين السياسيين ونتساءل هل هناك أحزاب سياسيّة فعليّة في تونس، وما هو وزنها الجماهيري؟ وما هي برامجها؟ ومن هي قياداتها؟ ورغم ما يتندّر به البعض من وجود 200 حزب، كلنا يعرف أنّ ذلك على الورق فقط وعدد التجمّعات السّياسيّة حاليّا لا يتجاوز 10 في أسعد الحالات. هذه التجمّعات أو الجماعات يمكن تصنيفها إلى مجموعات عقائديّة، ومجموعات مصلحيّة، وزعامات أو حالات مَرَضيّة…

• يمكن القول أنّ المجموعات العقائديّة، بقدر ما أن حضورها قديم فهي وحدها التي يمكن أن نطلق عليها اسم حزب، بحكم تنظيمها وانتشارها وبرامجها وفي هذه الخانة يمكن أن نضع أحزاب الجبهة والنهضة وربما التيار الديموقراطي، والمسار والحزب الجمهوري والحزب الدستوري الحر. لهذه الأحزاب حظوظ في البقاء والانتشار وربما النجاح.

 

** وتتمثل المجموعات المصلحيّة في التنظيمات التي نشأت في فترة ما بعد 2011، والتي لا تجمع بينها إيديولوجيا ولا مبادىء ولا برامج واضحة، وهي مجرّد هرم مبني على المصالح والمنافع والغنائم، وفي هذه الخانة نضع: النداء بمشتقاته وشقوقه، وآخرها مجموعة ” تحيا تونس ” و” قلب تونس ” و ” أمل تونس ” … هذه المجموعات المتكوّنة أساسا من المتسلّقين وصائدي المناصب، والتي لا ماضي سياسي لها، لن يكون لها مستقبل لأنها وحتى في حالة النجاح تتدحرج بسرعة نحو التآكل من أجل الغنيمة، ومن أجل تخصيص طاقة كبيرة في إضعاف الدولة وهياكلها، وخدمة مراكز نفوذ مصلحيّة معيّنة. لهذه المجموعات خاصّية واضحة وهي عدم فهم الواقع الشعبي والمحلّي وعدم الإنصات للآخر، لذلك فرغم درس ألمانيا، ورغم هزيمة الانتخابات البلديّة، مازالت هذه الأصوات الناعقة تعتقد أنها ستكون المنقذة للبلاد والعباد، ولم تفهم أو ليس لها القدرة على استيعاب أنها انتهت، ولم تفهم أنّها لم تكن سوى مرحلة صغيرة بين قوسين تميّزت بضبابيّة المسعى والأهداف والفكر. انغلق القوسان ولن يكون لها مستقبل أبدا. مازالت هذه المجموعات تعتقد أنها قادرة على استغلال المخزون الانتخابي الدستوري الذي لسوء حظهم انضوى بنسبة كبيرة في حزب عبير موسي، وحتى من بقي بعيدا يسعى حاليّا إلى التقدم في شكل قائمات مستقلة…

 

*** الأحزاب الجهويّة والتكنوقراطيّة: وهي تتمثل في حزبي آفاق والبديل، وكلاهما لا يتجاوز إشعاعه الجهة التي ينتمي إليها، وفي الوقت الذي نلاحظ فيه تراجع آفاق بنسبة كبيرة تبشّر باندثاره فإن البديل مازال أكثر حضورا دون أن يكون له عمق شعبي، وبرامجه مجرد دروس ونظريات عاجزة عن التعبير عن الواقع والطموحات التي يستحقها هذا الشعب.

 

**** الحالات المرضيّة: في كل مناسبة انتخابيّة، تظهر على الساحة سواء على المستوى الوطني أو على المستوى الجهوي، في الرئاسيات أو البرلمانيات أو المحلّيات، زعامات لا ماض سياسي لها، ولا قدرة فكريّة أو كفاءة تميّزها، كل ما يحرّكها في الكثير من الأحيان أنها تملك ثروة معتبرة، وأنها تملّكت الدّور والسيارات وأشياء أخرى وتشعر بنوع من القلق لأنه لا ينقصها أي شيء، فأصبحت تفكر في الشيء الوحيد الذي ينقصها وهو ” التسلّط ” او ” التحكّم ” فلما لا تتقدّم لرئاسة تونس أو للوجاهة في جهة من الجهات. هؤلاء المعاقين فكريّا لم يفكّروا في ما سينفع تونس من استثمارات أو برامج نافعة أو حتى في تنمية ثرواتهم الخاصة بل ركّزوا كل اهتماماتهم على الحصول على ” كارت فيزيت ” تمكنهم من الوجاهة ومن خرق القانون.

***** المستقلّون: قبل الحديث عن المستقلّين، لا بدّ من التأكيد أن الديموقراطيّة لا تُبنى إلاّ بالأحزاب والأحزاب فقط، والإستقلاليّة لا تعني شيئا لأنّنا في نهاية كل عهدة سنكون عاجزين على تقييم أداء “الفرد ” ” المستقل “، وحتى في حالة الفشل الذريع لن تكون لنا القدرة على معاقبة هذا الفرد ” انتخابيّا “، عكس الأحزاب التي يمكن أن تستفيد من الأداء الطيب، ويمكن تدفع ثمن التهاون أو ضعف الأداء… لقد نجح المستقلون في الانتخابات البلديّة التي تعتمد على علاقات الجوار والقرب من مشاغل المواطن اليوميّة، لكنهم لن ينجحوا ولا فائدة من دخولهم غمار الانتخابات النيابيّة والرئاسيّة. ليس للمستقلّين برنامج واضح، ويعتمد خطابهم على استغلال غضب الناخب من تردّي أداء الأحزاب، والبعض منهم وطنيون، ويغارون على المصلحة العامة، لكن الكثير منهم سواء من الزعامات القديمة أو من الفقاقيع الجديدة، تحرّكهم قناعة أنهم الأكفأ والأفضل ، ولما لا يجرّبون حظهم في ” السياسة ” فليس لهم ما يخسرونه. ولكي لا نقول أنهم حالات مرضية نجزم أن ترشحهم يُخفي نرجسيّة قويّة وربما الإحساس بالتهميش من بعض العائلات السياسيّة. قد نستثني من هذه الحالات المأزومة بعض التجمعات المستقلة مثل: قادرون ومواطنون وخاصة المجموعة الأولى التي تعمل على تحالف واسع للقوى الديموقراطيّة، والمجموعة الثانية التي تسعى إلى انتشار وطني وهو ما يؤهّلها لكي تتحوّل لاحقا إلى حزب.

 

***** الجبهات والتحالفات: إلى حدّ الآن لا يمكن الحديث سوى عن الجبهة الشعبيّة، التي نجحت نسبيّا في آخر انتخابات لكن يبدو أنّها عاجزة عن توسيع قواعدها وتطوير برامجها، وما الأزمة الأخيرة إلاّ مؤشّر جدّي لتراجع ممكن. أمّا التحالف الثاني الذي لا يزال في بداياته فهو ” الإتحاد الديموقراطي الاجتماعي ” الذي يضمّ : الحزب الجمهوري، وحزب المسار ، وحزب تونس إلى الأمام، وقادرون، والعديد من الشخصيات المستقلّة، لا نشكّ في أنّ هذا التوجه التوحيدي جيّد ويبشّر بتوحيد جزء من اليسار المعتدل، لكن لا نستبعد ظهور بعض العراقيل التي يستوجب تجاوزها بسرعة خاصة في ما يهم التنسيقيات الجهويّة والقائمات الانتخابية التي لا يجب أن تكون سببا في تفجير هذا المولود الجديد والجدّي…

مشهد سياسي غير واضح 

انطلاقا من هذه المعطيات وتذبذب نتائج الأحزاب في الانتخابات البلديّة الأخيرة وخاصة التسجيلات الجديدة التي تجاوزت مليون ونصف المليون ناخب، يصعب التكهّن بما ستؤول إليه قبة المجلس بعد استحقاق أكتوبر 2019.

ويمكن التنبّؤ بأن النهضة ستحافظ على أسبقيتها بعدد ضئيل من الناخبين لن يتجاوز 600 ألف، وستكون المفاجأة في وجود حزبين في المرتبة الثانية وهما : الحزب الدستوري الحر والتيار الديموقراطي. وبعدهما يمكن للإتحاد الديموقراطي الاجتماعي إذا عمل على ربح الوقت الضائع أن يكون في المرتبة الرابعة…وأهم شيء سيكون اندثار النداءات بما في ذلك هزيمة شنعاء لتحيا تونس.

هذه مجرّد آراء شخصيّة تحتمل الخطأ كما الصواب، وربما هي ارتسامات وأحكام قابلة للنقاش. ستغضب البعض وسترضي البعض، لكن أهم شيء هو طرح هذه الأفكار للنقاش وإصلاح ما يمكن إصلاحه، والعمل الجدي على بناء جبهة ديموقراطيّة واسعة يكون عمادها الاتحاد الديموقراطي الاجتماعي.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *