تساؤلات ليبية حائرة.. في زمن ليفي والناتو بقلم إبريني خليفة إبريني

إن النخبة الليبية المتمرسة في العمل السياسي – و بكل ما أوتيت من مهارات إعلامية و أدبية رفيعة – لابد و أنها مطالبة اليوم بأن تجيب عن جملة تساؤلات تشغل بال المواطن الليبي الحائر البسيط ، إنها النخبة التي ظلت لزمن طويل تتحسر على انحسار الثقافة الغربية في البلاد .. تشربت تلك النخبة ثقافة المدنية الغربية الحديثة ، و وجدت فيها لذة الحياة المعاصرة بما فيها من عدل و حريات عامة و شخصية ، و أيقنت ببوار الثقافة الشرقية – ثقافة الهوية المناوئة – و اعتبرتها خبالاً ، و ضرباً من التيه المتزايد في دروب التخلف الاجتماعي المعتمة ، و أن تلك الثقافة المحلية ليست إلا ماءً ثقيلاً يروي نبتة التخلف المغروسة فينا من جذورنا الأولى .
نسأل نحن جيل الثقافة المحلية و الموروث الاجتماعي المتخلف ؛ نسأل تلك النخبة المتنورة و التي انحازت بثقلها للتدخل الغربي في ليبيا و تباكت عليه و نريدها أن تجيبنا : لم قاتل عمر المختار و رفض أن يبني جاهاً أو يلم ثراءً ؟ و لم ترك خليفة بن عسكر أهله الأثرياء و ذهب إلى صقيع الجبال يقارع الإيطاليين ، و رضي بالموت شنقاً بحبال الغزاة ؟ لم عاد أحمد الشريف من مهجره القاصي – حيث كان يحظى بالوقار و التبجيل – و أجهد نفسه و الإيطاليين كل هذا الإجهاد ؟ لم توافق رجال أبو مطاري على ربط أرجلهم في مواجهة جنازير المدرعات الإيطالية ؟ لم تجشم صفي الدين و الأطيوش عناء المسير على الإبل و الخيل العجاف إلى القرضابية في (بوهادي) حيث كان مياني في انتظارهما يشون ذخيرته و يشحذ أسلحته الإيطالية الفتاكة ؟ لم استمات قضوار السهولي – حتى النهاية – في قارة عافية و قاتل بالسلاح و السلاح الأبيض بعيداً عن تراب ورفلة ؟ لم قدم الساعدي الطبولي روحه و نجوعه رخيصة على تراب تاقرفت ؟ لم تجهز عبد العاطي الجرم و ترك ديار أهله في الحسون ليموت دفاعاً عن قصر حمد في مصراتة ؟ لم لقن غومة المحمودي دروسه القاسية للإنكشارية الأتراك ، و ما راعه إعداماتهم المنتشرة للناس بالـ(خازوق) ؟ لم فضل عبد النبي بالخير الموت عطشاً في مجاهل الصحراء الجزائرية على مبايعة الحكم الإيطالي للبلاد غداة انكسار المقاومة و توقف الجهاد ، لم خرج المجاهدون من الوسطى لمؤازرة عبد الله البوسيفي في محروقة ؟ و لم استماتوا في قلعة مرزق لينتهي بهم الأمر بالهجرة وعلى مضض إلى صحراء تشاد؟
و إذا توسعنا سنسأل : لم قدم الشعب الجزائري مليون شهيد ، ورفض المدنية الفرنسية التي جيء بها على طبق من ذهب إلى دياره ؟ و لم ثار الإيرانيون بصدور عارية على الشاه صديق أمريكا المدلل ؟ لم اصطفت الهند يوماً ما خلف غاندي – الذي لم يكن يملك ثمن عشائه – لإخراج الإنجليز من ترابها ؟ لم تأسس الجيش الجمهوري و قدم قرابيٍن من دماء شبابه الزكية في إيرلندا الشمالية ؟ لم كل هذه الدماء على جبال الأكراد خلف حزب العمل و تصلب أوجلان ؟ لم تحمل مانديلا كل هذا العناء لتقويض دولة البيض الصناعية المعاصرة في بلاده ؟ لم قاتل الفيتناميون كل هذا القتال و رفضوا الغذاء و الدواء و المدارس الأمريكية و استبدلوها بـ(النابالم) و حرق القرى و الغابات ؟ لم صدت شعوب فرنسا و بريطانيا و روسيا الزحف الألماني و قدمت ملايين الشهداء كي لا تكون جزءاً من ألمانيا المعاصرة آنذاك ؟ لم ثار الشعب الأمريكي على بريطانيا العظمى ، و بحث عن الاستقلال رغم التوافق الثقافي بين الشعبين ؟ لم خاض جيفارا كل هذه الحروب الدامية في أمريكا اللاتينية و لم يبق على شبابه الوسيم و حبه لكرة القدم ؟ لم أستشهد القسام على تراب فلسطين ؟ و لم ناضل أبو رقيبة و محمد الخامس كل هذا النضال ، و فضلوا عواصمهم البسيطة عن الشانزليزيه ؟ و لم عادت هونغ كونج من لندن – العدالة الاجتماعية – إلى أحضان بكين الاشتراكية القاسية ؟ لم قاتل السنديانيون و الكوبيون و الفرابندومارتي و بصقوا على حكومات اليانكي و الكاوبوي المُنصبة في بلدانهم الفقيرة ؟ لم أمم المصريون قناة السويس و عبروها لتدمير خط برليف ؟ لم ثارت شعوب إفريقيا ببؤسها العميق على من جاءوها بالمدنية و العدل و القانون ، و مصانع البيرة و موسيقى الجاز ؟ لم أنجز محمد الماغوط كل أعماله و مسرحياته الرائعة ، و علمنا منها عشق الأوطان و لم يستعيض عن كل ذلك بالأدب العالمي ومسرحيات شكسبير ؟ لم تركتمونا نتفاعل بالدموع مع قصائد الشابي ، و مع ما أنتج مصطفى العقاد في أعماله الكبيرة و أنتم في مواقع الفعل و التأثير ؟ لم تركتموهما يستفردان بعقولنا الصغيرة و يغرسان فيها عشق الشرق و الهوية ؟ لم تخليتم عنا و تركتمونا فريسة غضة بريئة لإدارة المناهج التربوية و لعشرات السنين تضخ فينا رثاء شوقي لعمر المختار و ما جادت به قريحة أحمد رفيق المهدوي و ما سطر الباروني في حب الأرض و الإنسان ؟ لم تركتمونا نُمضي صبانا الجميل في حفظ قصيدة النسر لأبي ريشة تغذي فينا روح الأنفة و التحدي و الإباء ؟ لم تركتمونا نترك اللعب بدراجاتنا الهوائية المتهالكة و نحفظ عن ظهر قلب : رضينا بحتف النفوس رضينا .. و لم نرض أن يعرف الضيم فينا ؟
لم تركتمونا نترك مقاعد الدراسة مرات عديدة و نذهب – رغم البرد و الهجير – في حملات التشجير نغرس الأشجار في سفوح الرجمة و الكوف و هضاب النقازة و القاربولي ؛ و أنتم تعلمون بأنها ستعود أراض قبلية و ستزال بأيدي الجشع حين يأتي صديقكم ليفي بالربيع المشئوم ؟ لم تركتمونا نردد في بلاهة : بلادي بلادي لكِ حبي و فؤادي و أنتم تنتظرون هدم مدارسنا و تجهزون لحرائق البترول و المطارات و الجامعات ؟ لم تركتمونا نرسم و نعيد خرائط الوطن في دروس الجغرافيا و أنتم تعلمون بأنها ستخضع للتقسيم يوم يأذن الغرب بتعدد الرايات في ربوعه من برقة الجميلة إلى مدن و قرى الأمازيغ و دولة الخلافة في الوسطى و الأحلام العرقية (المرعية) في الجنوب ؟ لم تركتمونا نقرأ أدب طه حسين و المنفلوطي و نتشرب تعاليم الإمام مالك و أنتم تعلمون عن يقين أن أدب البيرتو مورافيا و أغاثا كريستي يخرجنا من دوائر الكبت الاجتماعي و يعلمنا ثقافة الإنسان المعاصرة ؟ لم تركتمونا نستمتع بـ(اللاقبي) و المثرودة و (خبزة) الجمر و البسيسة و الزميتة و أنتم مطلعون على عذوبة الهنكن و الريال سالوت و نشوة الميرقوانا و ما تفجره من الإبداع و الطاقات الكامنة فينا ؟ لم تركتمونا للكشك و الكسكة و المالوف و المزمار و الطبل و الطبيلة و لقصائد ارحومة بن مصطفى ؛ و بخلتم علينا بأغاني فيروز و بالمعزوفات العالمية و بحياة الليل و رقص الـ(فلامنقو) و السامبا البرازيلية ؟ لم ذهبتم بأموالكم الطائلة – الحلال منها و الحرام – للـ(بيركاردان) و للـ(كريستيان ديور) ؛ و تركتمونا للـ(سواك) و الملابس العربية و محلات التفصيل و الخياطة في أزقة الحارات ؟ لم تركتمونا لأهل بسطاء زرعوا فينا عشق أودية الرمال و النخيل و الشماري و البطوم و سهول الزيتون ، و ذهبتم بأموالنا تصطافون في مربية و جبال الألب و على جليد اسكندنافية ، و شواطئ الكاريبي و جزر الفلبين الدافئة ؟ لم تركتمونا نحتفل بذكرى هزيمة فيلادلفيا على شواطئ درنة ، و نتغنى في مهرجاناتنا المدرسية في أطراف الوطن ؛ “ترابك طُهر من صلى .. و ماؤك من دمي أغلى” ، و أنتم تنوون استقدام (الرافال) و (الأباتشي) ، و العجم و كل العرب الأفغان يقتلعون المقابر و يحرقون رفات الأجداد ؟ لم تركتمونا للأصالة و البساطة و اليوم جئتم تطلبون منا قبول الفوضى الخلاقة ، و فيلسوفها الناجي من محارق النازية ، و من قناصة الثورة الجزائرية في باتنة و مستغانم و على جبال الأوراس ؟ .. لم ذهبتم تستجيرون من بساطتنا برمضاء العمالة و التبعية والاستعباد ؟ لم مزقتم الشعب الليبي ؛ و ذهبتم تقدمون الوطن كله ثمناً للتغيير؟!!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *