بولندا طفل أوروبا المدلل ينحرف عن الديمقراطية بقلم ريم خليفة

متابعة تسلسل الأحداث في المشهد السياسي الأوروبي بدءا من قضية توافد اللاجئين السوريين واعتداءات باريس وصولا إلى استصدار قرارات برلمانية في بولندا تخضع المؤسسات الإعلامية لمراقبة الحزب تشير إلى تفاقم المشهد الأوروبي بملفات ضخمة تهدد مستقبله وتثير قلق المراقبين خاصة مع ارتفاع أصوات ترى في المؤسسات الديمقراطية الليبرالية وقيمها تهديدا لها.
ولو نظرنا إلى بولندا هذا البلد الذي عارض بشدة موضوع اللاجئين وتواجده على أراضيه هو ذاته البلد الذي قادت غطرسته إلى الانحراف عن بوصلة الديمقراطية وذلك بعد أن اصدر جملة قرارات برلمانية تخضع لمراقبة الإعلام ومؤسساته وهو تحول خطير لبلد من المفترض انه عضو في الاتحاد الأوروبي وان مثل هذا القانون أي قانون الإعلام الجديد يشكل بالفعل تهديدا لحرية التعبير داخل بولندا ويتناقض مع مبادئ الاتحاد الأوروبي التي تدعو إلى احترام حرية التعبير والإعلام الحر وحقوق الإنسان.
وعلى اثر هذا القرار خرجت مظاهرات في 4 يناير / كانون الثاني لعشرون ألف متظاهر في العاصمة البولندية وارسو إضافة إلى مناطق أخرى وذلك احتجاجا على النزعة الشمولية للحزب المحافظ الحاكم الذي اصدر هذا القانون الجديد ومعززين بانتقادات المفوضية الاوروبية لنهج الحكومة الجديد. بينما قدم مدراء قنوات تلفزيونية وإذاعية استقالتهم للتعبير عن عدم رضاهم عن سياسة الحكومة، المعارضة في مجملها تعتبر هذه القرارات التي صوت لها البرلمان خطيرة على مستقبل الديمقراطية في البلاد.
ويبدو ان القانون البولندي كان مؤلمًا ومؤثرا بحسب ما جاء من ردود الفعل الأوروبية والأميركية ولعل أكثرها انتقاد ما كتبته صحيفة نيويورك تايمز اذ وصفت بولندا بالطفل المدلل منذ فترة طويلة بين دول أوروبا الشرقية التي خرجت عن قبضة الكرملين الخانقة بينما هي اليوم جاءت لتتبنى إجراءات ديكتاتورية خاصة بها ( بلا أي تأثير من الديكتاتورية الشيوعية). ورات الصحيفة بان ومع ذلك ينبغي أن يكون واضحًا للحكومة البولندية أن تراجعها عن القيم الأساسية للديمقراطية الليبرالية حماقة تستحق اللوم عليها.و منذ فوزه في الانتخابات القومية أواخر أكتوبر الماضي قام حزب العدالة والقانون – القومي والمعادي للاتحاد الأوروبي – بقيادة رئيس الوزراء السابق ياروسلاف كاتشينسكي بالانتقال سريعًا إلى أجندة أعماله المحافظة؛ اذ قام بتعبئة المحكمة العليا بقضاة تابعين له، وقام بالحدّ من قدرة المحكمة على منع التشريعات وفرض مزيد من سيطرة الحكومة على وسائل الإعلام المملوكة للدولة.
هذا الانحراف في اسلوب وعمل الحكومة البولندية لا يمثل أقل من اعتداء يميني قومي على الإعلام والقضاء في البلاد بينما من المقرر ان تقوم المفوضية الأوروبية بدراسة العقوبات المحتمل فرضها بولندا ولكنها على الأرجح لن تتخذ أي إجراء بسبب المجر والحكومات الأخرى المتعاطفة مع بولندا والتي لن تقوم بالتصويت ضدها، وأيضًا لأنه قد يؤدي لتعميق العداء بين وراسو والاتحاد الأوروبي. هذا التغير المفاجئ من ناحية اليمين والذي يحاكي سياسات صديق كاتشينسكي، رئيس وزراء المجر فيكتور أوربان، أدى إلى تذمر أعضاء الاتحاد الأوروبي من طريقة الدول التابعة للاتحاد السوفيتي سابقًا لدخول الاتحاد والاستفادة من كرمه ثم الانقلاب على مبادئه الأساسية، هذا التغير البولندي قد أدى لمزيد من الإحباط لأن حزب العدالة والقانون قد أحدث بالفعل صدعًا في السلطة بقيادة ياروسلاف كاتشينسكي وتوأمه ليخ كاتشينسكي منذ عشر سنوات اذ تم خلعه بعد عامين من الاضطرابات.
ان سياسات بولندا الحالية عكست الصعوبات الجمة التي تواجهها دول أوروبا الشرقية لاستيعاب اقتصاديات السوق الحرة والحريات الاجتماعية للمجتمعات الغربية التي انفصلوا عنها قسرًا منذ عقود، هذه التحديات قد تفاقمت بسبب شعور دول أوروبا الشرقية بالظلم وأنها أقل تقدمًا وأقل في مستوى المعيشة من جيرانها الغربيين. هذه الشكاوى ليست فريدة من نوعها في أوروبا الشرقية؛ فالديموقراطية الليبرالية ومؤسساتها في كل أوروبا (وإلى حد ما في الولايات المتحدة) يتم تهديدها من المواطنين الخائفين من تدفق أعداد كبيرة من اللاجئين وعدم استقرار الاقتصاد، وحزب العدالة والقانون البولندي هو أحد تلك الحركات الرجعية التي ظهرت في الديمقراطيات الناضجة.
احد الصحافيين الايطاليين علق عما يحدث في بولندا بالقول ” فرض العقوبات على بولندا قد يؤدي إلى نتائج عكسية وقد يسمح بانتشار الأحزاب المشابهة في كل أوروبا، لكن هذا لا يمنع رؤساء الاتحاد الأوروبي من إخبار البولنديين بأن سياسات السيد كاتشينسكي تُعتبر انحرافًا خطيرًا عن الديمقراطية التي تبنتها بولندا منذ 25 عامًا”. وهو ما يعني أن المتشابهين لسياسية بولندا الحالية في أوروبا يعتبرون المؤسسات الديمقراطية الليبرالية تشكل تهديدًا لطريقة حياتهم و أنهم حتى اليوم لم يفهموا أن اتحادًا من قيم وحريات مشتركة ومؤسسات مستقلة لحمايتهم هو أضمن وسيلة للدفاع عنهم ضد الديكتاتورية التي عانوا منها في ظل الشيوعية.
كاتبة وإعلامية بحرينية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *