بعد انهيار الدينار: تونس تعيش لحظات التحول الى الانتقال الاستعماري .. بقلم جنات بن عبد الله

شكل الحديث الذي أدلى به رئيس الجمهورية للتلفزة الوطنية بتاريخ 2 جوان 2016 تمهيدا سياسيا للإعلان الرسمي عن افلاس البلاد. فلأول مرة يتوسع رئيس الجمهورية في تحليل الوضع الاقتصادي ويقدم اقتراحات رغم اعترافه في عديد المناسبات بعدم فهمه للشأن الاقتصادي. التقييم الذي عرضه رئيس الجمهورية الى جانب المقترحات جاءت متطابقة مع تقييم ومقترحات صندوق النقد الدولي بعد موافقته على تقديم قرض لتونس مدته أربع سنوات بقيمة 5.8 مليار دينار حيث تعرض هذا التقرير الى تقييم الوضع الاقتصادي الذي دمرته حسب تحليله الهجمات الإرهابية والتوترات الاجتماعية والتوترات الأمنية الناتجة عن الصراع مع السلفيين ليطالب، أي الصندوق، بتغيير منوال التنمية الحالي بعد أن تعمق حسب تحليله عجز ميزانية الدولة وارتفعت الاختلالات المالية الخارجية الى مستويات قياسية ليقر في الأخير بأن الدينار التونسي مبالغ في تقييمه وبالتالي لا بد من تعديل سعر الصرف في اتجاه تخفيض قيمته.
في نفس السياق وبتاريخ 3 جوان 2016 يدلي رئيس مجلس نواب الشعب محمد الناصر بحديث للتلفزة الوطنية يتعرض فيه الى نفس التبريرات التي تدفع الى تشكيل حكومة وحدة وطنية بعد سنة ونصف عن الانتخابات التشريعية والرئاسية وهذا اعتراف رسمي بالتنكر لخيارات الشعب التونسي.
من جهة أخرى وبتاريخ 2 ماي 2016 يبعث محافظ البنك التونسي الشاذلي العياري ووزير المالية سليم شاكر برسالة نوايا الى صندوق النقد الدولي يعترفان فيها بأن قيمة الدينار مبالغ فيها وأن تونس انخرطت فعليا في إصلاحات اقتصادية ومالية وهي تنتظر افراج الصندوق عن القسط الأول من القرض لتونس. ومباشرة بعد هذه الرسالة وبالتحديد يوم 18 ماي 2016 يسجل الدينار التونسي أكبر انخفاض له في ظرف 24 ساعة لينهار بنسبة 3 بالمائة مقابل الأورو ليبلغ 2.300 دينار ويتواصل الانهيار الى موفي شهر ماي الى مستوى 2.400 دينار تحت أنظار البنك المركزي الذي تخلى عن حمايته للعملة الوطنية رمز سيادتنا النقدية وذلك بمقتضى تعهده بذلك تجاه صندوق النقد الدولي الذي دعا الى ” زيادة مرونة سعر صرف الدينار لتحسين القدرة التنافسية الخارجية وإعادة بناء الاحتياطيات الأجنبية”.
خروج رئيس الجمهورية ورئيس مجلس نواب الشعب للراي العام التونسي في هذا التوقيت وفي هذه الظروف التي يغرق فيها المواطن التونسي مع أبنائه في الامتحانات والاستعداد لشهر رمضان يخفي وراءه حقائق بدأ الاعداد النفسي لها لترويض الرأي العام على قبولها تدريجيا. هذه الحقائق يمكن قراءتها من خلال انهيار الدينار التونسي الذي يعلن عن انهيار الاقتصاد التونسي وعجز الحكومة عن الحفاظ على التوازنات المالية الداخلية والخارجية، وعجز البنك المركزي عن الحفاظ على استقرار العملة الوطنية. فانهيار سيادتنا النقدية هي مقدمة لانهيار سيادتنا الاقتصادية والمالية وإقرار بعجزنا عن احترام التزاماتنا في المستقبل القريب بتسديد ديوننا الخارجية. فهذا الانهيار يؤدي مباشرة الى ارتفاع حجم تسديد الدين الخارجي في وقت سجلت فيه الصادرات التونسية تراجعا قياسيا الى جانب تراجع مداخيل السياحة مقابل تنامي واردات السيارات والمواد الكمالية بما عمق عجز ميزان المدفوعات وقلص من احتياطنا من العملة الأجنبية.
قانون المالية لسنة 2016 ورغم اعتماده لنسبة نمو إيجابية للناتج المحلي الإجمالي لسنة 2016، وهو أمر بعيد عن الواقع بالنظر الى طبيعة تطور المؤشرات، أقر الخروج الى السوق العالمية بضمان أمريكي بما يمكن تونس من الحصول على التمويل بنسبة فائدة ضعيف نسبيا الى جانب التعويل على قرض صندوق النقد الدولي مقابل القيام بإصلاحات اقتصادية ومالية. وبعد التحفظ الذي عبرت عنه الولايات المتحدة الأمريكية بخصوص ابرام اتفاقية ضمان قرض كموقف من الحكومة التونسية على تأخرها في تطبيق الإصلاحات، أعلنت بتاريخ 3 جوان 2016 عن تراجعها عن هذا التحفظ وذلك بعد مصادقة مجلس نواب الشعب على القانون الأساسي للبنك المركزي وما يتضمنه من إجراءات ترمي الى انتزاع استقلاليته والمصادقة على قانون البنوك واستكمال مجلة الاستثمارات. في هذا البلاغ الصادر عن الخارجية الأمريكية بتاريخ 3 جوان 2016 أعلنت الولايات المتحدة عن توقيعها مع تونس على اتفاقية ضمان قرض من شأنها السماح لتونس الوصول الى تمويلات بأسعار معقولة من الأسواق المالية العالمية تصل قيمتها الى 500 مليون دولار أمريكي.
وبإفراج صندوق النقد الدولي والولايات المتحدة الأمريكية عن القرض والضمان واستكمال الاتحاد الأوروبي سياسة الاختراق لسيادتنا من خلال مشروع اتفاق التبادل الحر الشامل والمعمق الذي شرعت الحكومة الحالية في تطبيقه قبل الانتهاء من المفاوضات التي دخلتها دون تفويض من مجلس نواب الشعب، بهذا يكون المشهد قد اكتمل في اتجاه دخول تونس مرحلة الانتقال الاستعماري بتاريخ 3 جوان 2016 وذلك بعد 61 سنة عن ابرامها للاتفاقيات الست للاستقلال الذاتي بين الدولة الفرنسية والايالة التونسية بتاريخ 3 جوان 1955 التي ضبطت حدود تحرك الدولة التونسية في جميع المجالات الاقتصادية والمالية والثقافية …وفي هذا السياق تنص الاتفاقية الاقتصادية مثلا وهي احدى الاتفاقيات الست على “التزام الدولة التونسية بعدم تأميم الشركات الأجنبية مطلقا: خاصة النفط والمحروقات والمناجم” ، علما وأن اتفاقية الملح والعقود النفطية هي نموذج لهذا الالتزام. كما أن برتوكول الاستقلال التام بتاريخ 20 مارس 1956 لم يلغ ولم يعدل اتفاقيات الاستقلال الذاتي بما يجعلها سارية المفعول الى اليوم.
اننا نعيش هذه الأيام لحظات تاريخية مفصلية في تاريخ تونس الحديث هي لحظات التحول من الانتقال الديمقراطي الى الانتقال الاستعماري، سيناريو صممت تفاصيله في ظل الشفافية المطلقة وعلى مرأى ومسمع الجميع عكس ما حدث مع اتفاقية “سايكس-بيكو” في سنة 1916 والمباحثات السرية بين فرنسا والمملكة المتحدة بمصادقة الإمبراطورية الروسية لاقتسام ما يعرف بالإمبراطورية العثمانية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *