بعد الاستفتاء البريطاني .. لماذا تصر الطبقة السياسية في تونس على ضرب الدستور؟ .. بقلم جنات بن عبد الله

لا يزال الاتحاد الأوروبي تحت وقع الصدمة التي أحدثتها نتائج الاستفتاء الذي كان بطله الشعب البريطاني الذي قرر وبنسبة 51,9 بالمائة الخروج من الاتحاد الأوروبي دون مراعات تكهنات استطلاعات الرأي العام وحدس السياسيين. وقد جاءت هذه النتائج لتعلن أنه في الديمقراطيات الحقيقية يشكل المواطن العادي الذي يحتك يوميا بالمرفق العمومي ويتعامل مع الخدمات العمومية صحية
وغيرها، يشكل رقما صعبا في موازين القوى والمعادلات السياسية.
في هذا الاستفتاء الذي سجل نسبة مشاركة قياسية تجاوزت 72 بالمائة وشكلت فيه الشريحة العمرية فوق الستين عاما الأغلبية، كان للعقل الجماعي الشعبي الكلمة الأخيرة حيث جاء هذا الخيار بناء على تجربة هذه الشريحة التي عاشت مرحلة ما قبل الانضمام ومرحلة ما بعد الانضمام الى الاتحاد الأوروبي وهي مرحلة اتسمت بتطور ظروف الحياة وبالرفاه الاقتصادي الا أنها مرحلة اتسمت أيضا بتغول التكتلات الاقتصادية وسيطرة الشركات العالمية على حساب الدولة الوطنية والسيادة الوطنية.
ورغم تحاليل السياسيين والخبراء المنوهة بمزايا البقاء في الاتحاد الأوروبي ومحذرة من مخاطر الخروج منه وتهديدات عديد الجهات وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية على لسان رئيسها بتراجع مكانة بريطانيا في المباحثات التجارية وغيرها فقد انتصر المواطن العادي المتحرر من طلاميس العولمة التي ادعت بتحسين المقدرة الشرائية وظروف العيش بفضل نمو اقتصادي تؤمنه حرية تنقل رؤوس الأموال والأفراد ورفع الحواجز أمام المبادلات التجارية وذلك في إطار تكتل اقتصادي قوي قادر على مواجهة المنافسة العالمية الشرسة …لتجني شعوب العالم كلها وبدرجة أكبر شعوب البلدان “النامية” لتجني كثيرا من الفقر والبطالة والتهميش والدمار لشبابها الذي اختار الارتماء في قوارب الموت هروبا من الفقر والبطالة والحروب المفتعلة التي تقودها الشركات العالمية وخاصة النفطية منها لامتصاص خيرات وثروات الشعوب باسم مزايا الاستثمار الأجنبي وما يضمنه من نقل للتكنولوجيا لتتحول هذه الشركات الى قوة تفوق قوة الحكومات الوطنية التي تنازلت لها عن صلاحياتها وسيادتها الوطنية.
هذه العوامل، كانت وراء قرار نسبة من البريطانيين بالخروج من الاتحاد، الى جانب طبعا دور الصراعات السياسية ووسائل الاعلام التي أثرت سلبا وايجابا في هذا القرار الذي عبرت عنه الشريحة العمرية ما فوق الستين عاما والتي طالبت بالعودة الى الدولة الوطنية وسيادة قرارها الوطني ورفضت الانسياق وراء مواقف وقرارات المفوضية الأوروبية والمجلس الأوروبي والبرلمان الأوروبي والبنك المركزي الأوروبي التي أخذت مكان الحكومة الوطنية.

تونس وقوى الجذب الى الوراء
في المقابل ورغم الصدمات الإيجابية التي أفرزتها ثورة الكرامة والحرية في تونس سواء على المستوى الوطني أو الإقليمي والعالمي والتي تجسدت في دستور 2014 الذي منح الشعب سلطة قراره، وبعد سنتين ونصف على اعتماده، لم يسجل المواطن التونسي تغييرا في تعاطي أجهزة الدولة من سلطة تشريعية وتنفيذية خاصة، مع متطلبات التنمية الاقتصادية حيث أصرت حكومة الائتلاف على السقوط في أخطاء الماضي والتخلي عن سيادتنا الوطنية لفائدة صندوق النقد الدولي من خلال عديد القوانين الجديدة ومن ضمنها قانون النظام الأساسي للبنك المركزي التونسي المصادق عليه مؤخرا، ولفائدة الاتحاد الأوروبي من خلال قبول الدخول في مفاوضات حول مشروع اتفاق التبادل الحر الشامل والمعمق دون اعلام مجلس نواب الشعب والحصول على تفويض منه واعتماد هذا المشروع في المخطط الخماسي للتنمية للفترة 2016 – 2020 .
لقد كان حري بحكومة تأتي بعد المصادقة على الدستور الجديد القيام بمراجعة وتقييم الخيارات الاقتصادية والاتفاقيات الثنائية ومتعددة الأطراف والاحتكام للشعب الذي عانى في الماضي ودخل اليوم مرحلة اليأس من الخروج من الأزمات.
لقد كشفت تجربة اليونان ومؤخرا التجربة البريطانية أنه في المفاصل التاريخية والملفات الاستراتيجية وقصد التحرر من تأثير الأحزاب واللوبيات الداخلية والخارجية تلجأ الحكومات الى الية الاستفتاء ومنح الشعب حقه في ممارسة سيادته في تقرير مصيره بما يغلق الأبواب أمام الحسابات الضيقة والفئوية ويحمي هذه الحكومات من السقوط في منطق التنازلات على حساب مصالح شعوبها.
وبعيدا عن هواجس الأحلام انتظر الشعب التونسي من الحكومة الحالية التعامل معه كعنصر فاعل ومسؤول والعودة اليه في المسائل المصيرية الا أنه اصطدم بإصرارها على تجاهله وتجاوزه واستغلال السلطة التشريعية ديكورا في مسار الانتقال الديمقراطي، والأمثلة على ذلك كثيرة رغم مقاومة نسبة من قوى المعارضة التي خرجت من الديكور وتبرأت من مثل هذه الممارسات.
من هذه الأمثلة يمكن ذكر المخطط الخماسي للتنمية حيث خرج الأسبوع الماضي وزير التنمية والتعاون الدولي والاستثمار لتسويقه رغم احتجاجات عدد من الخبراء الاقتصاديين وتحذيرهم من المخاطر التي يمثلها على الاستقرار الاقتصادي والمالي والاجتماعي باعتبار أن هذا المخطط قد أعاد انتاج خيارات الماضي الرامية الى خدمة المستثمر الأجنبي والشركات العالمية على حساب أولوياتنا الوطنية ونسيجنا الاقتصادي، ليهرول يوم الجمعة الماضي الى مقر بعثة الاتحاد الأوروبي بتونس وعرضه على السفراء الأوروبيين. سلوك عكس انتظارات وزير التنمية من هذا اللقاء الذي وكأنه يستجدي رضاهم في الوقت الذي كان ينتظر منه الرجوع الى الشعب لإبداء رايه من خلال مجلس نواب الشعب والمجتمع المدني والمنظمات المهنية والنقابية أولا، وثانيا الالتقاء بهم في مقر وزارة التنمية كمقر سيادة.
ان هذه الممارسات وغيرها كثير مثل مبادرة رئيس الجمهورية لتشكيل حكومة وحدة وطنية، تكشف إصرار الطبقة السياسية التونسية على رفض الاليات التي أقرها الدستور الجديد والتي تضمن حق الشعب التونسي في ممارسة سيادته ومن بينها الاستفتاء حيث كنا ننتظر أن يتم اللجوء الى هذه الالية لاتخاذ قرار الدخول في مفاوضات جديدة مع الاتحاد الأوروبي أو تأجيله بما يكشف أن حرصها على التباهي بتجربة الوفاق والتوافق ما هو الا هروب من الالتزام باحترام الدستور وتكريس لمنطق “ذر الرماد على الأعين” بما يفسح المجال واسعا أمام الفساد واغراق البلاد في المجهول.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *