بعد أن شيعت ضحاياها …القصرين ترفع الفيتو أمام سياسة الشاهد التقشفية .. بقلم جنات بن عبد الله

كشف حادث المرور الذي عرفته منطقة خمودة من ولاية القصرين الأسبوع الماضي عن واقع ترجمته الأرقام والاحصائيات وتصر الطبقة السياسية على تجاهله والهروب به الى الأمام بإقرار إصلاحات تقشفية كحلول للأزمة المالية التي تمر بها تونس. هذا الحادث رفع من حالة الغضب الشعبي على حكومة الشاهد والطبقة السياسية في البلاد ليعمق الهوة بين الشعب وحكام تونس الجدد الذين أثبتت الأيام جهلهم بواقع البلاد من خلال ما يرددونه في خطبهم السياسية وتصريحاتهم الإعلامية.
عندما تحدث الشاهد عن سياسة التقشف في مجلس نواب الشعب وعزم حكومته التقليص في ميزانية الصحة وغيرها كان هاجسه في تلك اللحظة إرضاء صندوق النقد الدولي والمؤسسات المالية الدولية واللوبيات التي ساعدته على افتكاك السلطة بطريقة “ديمقراطية” من حكومة ضعيفة وفاشلة قدرت الجهات التي تحكم تونس في الخفاء أن عمرها قد انتهى وحان الوقت لحكومة “جديدة” يواصل أعضاؤها من الشباب و«بكل قوة” تدمير ما تبقى في الاقتصاد التونسي باسم التقشف والإصلاحات الهيكلية.
وعندما عاين في زيارته للجهة فجر الخميس الماضي تدني البنية التحتية الصحية وانعدام التجهيزات الصحية في مستشفى يفتقر لمعايير المستشفى الجهوي، وعد الشاهد أهالي الجهة بتدارك الوضع والاستجابة لمطالبهم الداعية الى ضرورة اتخاذ إجراءات عاجلة في المجال الصحي المتردي وتهيئة الطرقات … وعود تندرج في باب المجاملة السياسية والاستهلاك الداخلي لامتصاص الغضب باعتبار أن هذه الوعود تتضارب مع التزام الشاهد بتطبيق سياسة التقشف. فطبيعة سياسة التقشف هي الضغط على ميزانية التنمية المتعلقة بتوفير الاعتمادات اللازمة لتمويل حاجيات كل قطاع بما في ذلك قطاع الصحة من تجهيزات ومعدات وفضاءات …وفي ظرف يتسم بتراجع موارد الدولة وبإقرار قانون مالية تكميلي لسنة 2016 يفترض نسبة نمو قريبة من الصفر فإننا ننتظر الحل المعجزة الذي ستبادر به حكومة الوحدة الوطنية للاستجابة لمطالب أهالي القصرين.
ومن منطلق تجربة الخمس سنوات الأخيرة يكون الشاهد قد التحق بركب رؤساء الحكومات السابقة في تقديم الوعود لأهالي الجهات سرعان ما تتبخر إثر مغادرته لها. وكسابقيه تحول الشاهد الى شاهد عيان فاقد لإرادة التغيير والقطع مع خيارات وسياسات اقتصادية واجتماعية تتناقض مع أولويات هذا البلد. لقد دخل الاقتصاد التونسي مرحلة التقشف في السنوات الأخيرة من عهد محمد مزالي ليتقنن ذلك في إطار برنامج الإصلاح الهيكلي الذي أقره صندوق النقد الدولي والبنك الدولي في سنة 1986 مقابل قروض لتمويل ميزانية الدولة وادراج هذا البرنامج في مخططات التنمية ومنوال التنمية في عهد بن علي في سنة 1987 كما هو الشأن حاليا بعد الثورة، ليعيد التاريخ نفسه ونعود الى مربع المؤشرات الاقتصادية والاجتماعية المتدهورة.
برنامج الإصلاح الهيكلي يقوم على تخلي الدولة على القطاعات الاستراتيجية لفائدة القطاع الخاص في إطار الخصخصة وتقليص ميزانيات القطاعات ذات البعد الاجتماعي مثل الصحة والتعليم والنقل كحل لتقليص عجز ميزانية الدولة الذي سجل في سنة 2010 أدنى مستوى ليبلغ 2.3 بالمائة من الناتج المحلي الإجمالي … مستوى ولئن أبهر المؤسسات المالية الدولية الا أنه كان يخفي وراءه الفقر والتخلف والبطالة والتهميش الجهوي. واقع نجح نظام بن علي في اخفاءه بفضل سياسة إعلامية ممنهجة واحصائيات مدلسة ومؤشرات تقوم على المغالطة. ولئن نأسف لما حدث في منطقة خمودة وما خلفه هذا الحادث من ضحايا خطؤهم تشبثهم بهذه الأرض الطيبة وبجهتهم القصرين، فإننا نأمل أن يقف الشعب التونسي على حقيقة الدمار الذي تخلفه توصيات صندوق النقد الدولي من وراء سياسة التقشف.
واليوم يقف الشاهد في مجلس نواب الشعب ويتوعد بسياسة تقشف جديدة وكأن الثلاثين سنة الماضية من سياسة الأرض المحروقة لم تكن كافية لتهميش الجهات الداخلية واقصاءها من عملية التنمية ومقوماتها الأساسية من طرقات ومدرسة ومعهد ومستشفى ومكتب بريد ومؤسسة قرض وفضاءات تجارية تأوي السوق البلدي والسوق الأسبوعية ومعمل ومصنع وخدمات أخرى… الأكيد أن سياسة التقشف لن تخرج تونس من أزمتها المالية بل ستعمق أزمتها المالية والاقتصادية والاجتماعية.
ان ما نعانيه اليوم من تدهور لكل المؤشرات هو نتاج سياسة التقشف التي جاء بها برنامج الإصلاح الهيكلي في سنة 1986 من جهة، وهو أيضا نتاج سياسة تحرير المبادلات التجارية في إطار ما جاء في اتفاقية الشراكة مع الاتحاد الأوروبي لسنة 1995، وإصرار الشاهد على تبني سياسة التقشف لإخراج تونس من أزمتها المالية عوض مراجعة السياسات والخيارات السابقة التي تم إقرارها، فيه ضرب لأحد مكتسبات دستور سنة 2014 المتمثلة في دسترة الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. فقد ضمن الدستور الجديد هذه الحقوق لكافة الشعب التونسي والمتمثلة في الحق في الصحة (الفصل 38) والحق في التعليم (الفصل 39) والحق في العمل (الفصل 40) والحق في الماء والبيئة السليمة (الفصلان 44 و45)، والانخراط في سياسة التقشف، التي ستأتي على ما تبقى من مؤشرات الحياة البدائية، القصرين خير شاهد على ذلك، هو اعلان صريح من قبل حكومة الوحدة الوطنية لمواصلة سياسة الأرض المحروقة والدمار الشامل التي مهد لها محافظ البنك المركزي التونسي ووزير مالية الحكومة السابقة بما جاء في رسالة النوايا التي بعثا بها الى المديرة العامة لصندوق النقد الدولي بتاريخ 2 ماي 2016 من خلال انهيار قيمة الدينار مقابل الأورو والدولار.
وانطلاقا مما عاشته ولاية القصرين الأسبوع الماضي وما كشف عنه الحادث من تدهور لأبسط مقومات الحياة، تكون هذه الجهة أول من يرفع حق الفيتو أمام سياسة الشاهد التقشفية مطالبة بضمان الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية لأهاليها وذلك في إطار ما نص عليه الدستور.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *