هل يقدم اتحاد الشغل على إعادة خلط الأوراق؟ .. بقلم جنات بن عبد الله

كشفت المصافحة الأولى لرئيس الحكومة المكلف الشعب التونسي في مجلس نواب الشعب بمناسبة عرض حكومته لكسب الثقة يوم الجمعة 26 أوت 2016 عن الملامح الكبرى لبرنامج حكومته الذي جاء تحت عنوان ” التقشف وتسريح الموظفين…اذا لم ننقذ الاقتصاد”. وقد اكتشف الشعب التونسي الذي تابع أشغال الجلسة العامة حقيقة حكومة الوحدة الوطنية وما يخفيه برنامجها الذي وجده الشاهد جاهزا على مكتب رئاسة الحكومة بالقصبة، من ويلات وتهديد للطبقة الشغيلة خاصة بعد أن عبر الشاهد عن موقفه منها عندما اعتبر أن التونسي “لم يعمل” وأنه يتحمل مسؤولية ما وصل اليه الوضع الاقتصادي في إشارة منه للحراك الاجتماعي والاضرابات. ومن خلال هذا الموقف يكون الشاهد قد اختار الجهة التي سيتعاون معها “لإنقاذ الاقتصاد” وتنفيذ الإصلاحات التي جاءت في برنامجه الجاهز كما صممه صندوق النقد الدولي في مذكرة السياسات الاقتصادية والمالية المرفقة لرسالة النوايا التي بعث بها محافظ البنك المركزي التونسي ووزير المالية بحكومة تصريف الأعمال بتاريخ 2 ماي 2016 والتي تعهدا فيها بتنفيذ توصيات الصندوق “بقوة” مقابل الحصول على القرض. موقف دفع الاتحاد العام التونسي للشغل الى نشر بيان بتاريخ 27 أوت 2016 عبر فيه عن موقفه من برنامج حكومة الوحدة الوطنية مذكرا بأن انخراطه في التركيبة الحكومية جاءت بناء على وثيقة قرطاج.
لقد كان اتحاد الشغل وعبر المحطات التاريخية الصعبة التي مر بها الاقتصاد الوطني الحصن الحامي للطبقة الشغيلة من برامج الإصلاحات الاقتصادية لصندوق النقد الدولي الذي لا يعترف بتضحيات الطبقة الشغيلة بل هو لا يعترف بهذه الطبقة باعتبار أن النظام الاقتصادي الذي يدافع عنه يقوم على رأس المال. كما أنه لا يعترف بأولوية الأبعاد الاجتماعية للسياسات الاقتصادية والمالية حيث يقيم نجاعة الإصلاحات التي يقترحها بقدرتها على احترام المعايير المتفق عليها كما هو الشأن بالنسبة لعجز ميزانية الدولة الذي يجب ألا يتجاوز 3 بالمائة من الناتج المحلي الإجمالي. في حين أن خصوصية المرحلة التي يمر بها اقتصادنا تستوجب، وفي اطار تركيز نظام اقتصاد السوق، إعطاء الأولوية للبعد الاجتماعي بما يساهم في توفير الاستقرار الاجتماعي والتوزيع العادل للثروة واستفادة كل الفئات من النمو ومن الخدمات العمومية في مجالات الصحة والتعليم والنقل…أهداف لا يمكن تحقيقها الا في ظل تدخل الدولة عبر ميزانية الدولة وقانون المالية، عكس ما يدعو اليه صندوق النقد الدولي الذي يوكل تحقيق هذه الأهداف الى قانون السوق والقدرة التنافسية وهيمنة رأس المال الكفيلة وحدها بتحديد الفئات المؤهلة للحصول على ثمار النمو.
لقد انخرط اتحاد الشغل في العملية السياسية على أساس وثيقة قرطاج التي تضمنت المحاور الأساسية الخمسة لبرنامج حكومة الوحدة الوطنية حيث ركزت احدى محاورها على ضرورة العمل خلال المرحلة القادمة على الحفاظ على التوازنات المالية الداخلية والخارجية، محور جوهري ومصيري بالنسبة لصندوق النقد الدولي. وبتوقيعه على وثيقة قرطاج يكون اتحاد الشغل قد أعطى “صكا على بياض” لحكومة الشاهد لتنفيذ هذا المحور الذي سيتم تنفيذه تحت عنوان “الضغط على عجز ميزانية الدولة”. وكما هو معلوم يمر الضغط على عجز ميزانية الدولة بمفهوم صندوق النقد الدولي عبر تقليص ميزانية القطاعات ذات البعد الاجتماعي وهي ميزانيات الصحة والتعليم والنقل…وتقليص كتلة أجور الموظفين من خلال تجميد الانتدابات أو تجميد الأجور أو الاثنين معا كما هو مطروح في برنامج حكومة الوحدة الوطنية حيث سيتم النظر في برنامج تسريح الموظفين أو ما سمي في البرنامج بالخروج الارادي للموظفين ابتداء من سنة 2018 ، الى جانب إعادة توزيع الموظفين على الجهات واقرار اطار تشريعي لذلك في ديسمبر 2016 وتجميد الأجور لمدة ثلاث سنوات حيث سيتم النظر في برنامج تقليص كتلة الأجور الى سنة 2020 في مجلس وزاري سيعقد في شهر سبتمبر المقبل. كما سيتم الضغط على عجز ميزانية الدولة من خلال تقليص الاعتمادات الموجهة الى دعم المواد الأساسية وهي الحبوب التي تستحوذ على 81 بالمائة من اعتمادات دعم المواد الأساسية التي تقدر في ميزانية سنة 2016 ب 1500 مليون دينار، والزيت النباتي الذي يستحوذ على 13 بالمائة من دعم المواد الأساسية والحليب (3 بالمائة)، والعجين والسكر والورق المدرسي (3 بالمائة).
وعندما كشف الشاهد عن طبيعة الإصلاحات المنتظرة فانه لم ينطق عن الهوى وانما ردد ما جاء في توصيات صندوق النقد الدولي وتعهدت به الدولة التونسية في مذكرة السياسات الاقتصادية والمالية المرفقة لرسالة النوايا التي بعث بها محافظ البنك المركزي الى المديرة العامة للصندوق، وبذلك يكون صندوق النقد الدولي قد عاد الى تونس من باب المديونية الخارجية كما كان الشأن في سنة 1986 حيث فرض تطبيق برنامج الإصلاح الهيكلي للاقتصاد التونسي الذي تبناه بن علي في سنة 1987 واعتمده في مخططات التنمية على امتداد حكمه الى ما بعد الثورة. وللتخفيف من ضغط الإصلاحات على الطبقة الشغيلة والذي يتجسد في تراجع جودة الخدمات الصحية وتدني مستوى التعليم وتدهور أسطول النقل بسبب التخلي التدريجي للدولة عن هذه القطاعات لفائدة القطاع الخاص، للتخفيف من ذلك أقر نظام بن علي لشراء السلم الاجتماعية الية المفاوضات الاجتماعية الدورية بين الأطراف الاجتماعيين الثلاث ممثلة في الاتحاد العام التونسي للشغل والاتحاد التونسي للصناعة والتجارة والصناعات التقليدية ووزارة الشؤون الاجتماعية للتفاوض حول الزيادة في أجور العاملين في القطاعين العام والخاص ، فكانت هذه المفاوضات طريقة امتص بها غضب الشعب من جهة، وكسب بها اتحاد الشغل من جهة أخرى لتمرير إصلاحات صندوق النقد الدولي التي تخفي الدمار الشامل على الطبقة الكادحة التي حملها الشاهد مسؤولية تدهور الوضع الاقتصادي. الخطاب الذي توجه به الشاهد الى الشعب التونسي في أول مصافحة له، اعتقدنا في لحظة سهو أنه تم التخلي عنه وأن الطبقة السياسية في تونس قد اتعظت من تجربة بن علي مع صندوق النقد الدولي وتداعيات الإصلاحات التي ولئن حققت هدفها الأساسي والمالي وهو الضغط على عجز ميزانية الدولة الذي بلغ في اخر أيام بن علي 2.3 بالمائة من الناتج المحلي الا أنه لم يجن منه شبابنا والقطاعات الاقتصادية الصناعة والفلاحة والخدمات الا الدمار والتهميش والفقر والبطالة والجهل والتخلف. ليعود الينا صندوق النقد الدولي هذه المرة من باب المديونية وأيضا عبر مؤسسات تستمد شرعيتها من الانتخابات لتتحول هذه المؤسسات من مدافع عن الشعب الى اليد التي تضرب بها الشعب عبر منح الثقة لحكومة مكلفة بتطبيق إصلاحات ظاهرها يرمي الى الحفاظ على التوازنات وباطنها يخفي تفقير الشعب.
لقد كان أمام حكومة الشاهد العمل على الحفاظ على التوازنات المالية من خلال:
أولا، إعادة الاعتبار لمنظومة الإنتاج التي دمرها برنامج الإصلاح الهيكلي واتفاقية الشراكة مع الاتحاد الأوروبي لسنة 1995، والانطلاق من وضع استراتيجيات ثلاث لقطاعات الصناعة والفلاحة والخدمات وتثمين الكفاءات الوطنية بما يستجيب لحاجيات السوق الوطنية ويساهم في ادماج كل فئات الشعب بما فيهم الذين أقصاهم نظام بن علي كخصوم سياسيين والأشخاص ذوي الاعاقة الذين يمثلون 15 بالمائة من الشعب التونسي، في دائرة الإنتاج عوض القول بأن التونسي “لم يعمل”،
ثانيا، فرض اتباع منهجية التصرف في الميزانية حسب الأهداف عند اعداد مشروع ميزانية سنة 2017 والتي تمكن من ضبط الاعتمادات حسب الأهداف المنتظرة وتساعد على مراقبة وترشيد الانفاق العمومي. ونتساءل في هذا المستوى عن الأسباب التي جعلت الحكومات المتعاقبة بعد الثورة لا تعمم هذه المنهجية على كل الوزارات بما يساعد على تقليص امكانيات الفساد وتبذير المال العام في ظل شح موارد الدولة.
ان المستفيد الأول من الإصلاحات الاقتصادية والمالية هي الشركات العالمية التي ستجد مجلة استثمار على مقاصها ومجلة صرف تسمح لها بعدم استرجاع مداخيل صادرات الشركات المصدرة وغير المقيمة، ووثيقة توجيهية سيتم تسويقها في الأيام القليلة القادمة وذلك بفضل صندوق النقد الدولي المدافع عنها وعن مصالحها مقابل مواصلة الدس على حقوق الشعب بسبب خيار اتحاد الشغل التموقع في التركيبة الحكومية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *