الى وزيري المالية والصناعة .. ما الفرق بين بيع البلاد واتفاقيات لزمات انتاج الكهرباء؟ .. بقلم جنات بن عبد الله


اعتبر وزير المالية والاقتصاد ودعم الاستثمار عليالكعلي اتهام الحكومة ببيع البلاد كلام غير مسؤول ولا يشرف صاحبه وذلك بإحدى القنوات التلفزية الخاصة بتاريخ 12 جوان 2021 موضحا في ذات السياق مزايا امتلاك المستثمر الأجنبي للعقار في تونس واصفا هذه العملية بالاستثمار.
من جهة أخرى رحب النواب أعضاء لجنة الصناعة والطاقة بمجلس نواب الشعب المجتمعة بتاريخ 9 جوان 2021 للنظر في مشاريع قوانين تتعلق بالموافقة على اتفاقيات لزمات انتاج الكهرباء،رحبوا بهذه المشاريع واعتبروا أنه سيكون لها تأثير إيجابي على الميزان الطاقي لما توفره من فرص جديدة للاستثمار.
في ذات السياق لاحظ وزير الطاقة والمناجم بالنيابة محمد بوسعيد أن الإطار التشريعي للزمات انتاج الكهرباء من الطاقات المتجددة أسس مبدأ تكافؤ الفرص والشفافية لاختيار المستثمرين، ليؤكد أحد إطارات وزارته أن النظام القانوني للزمات انتاج الكهرباء من الطاقات المتجددة يمثل الضمانة الأساسية لحقوق الدولة التونسية في علاقتها بالمستثمرين.
تصريحات وزيرا المالية والطاقة، وفي هذه الظروف الصعبة التي تمر بها البلاد، تعكس الآمال الواهية التي تعلقها الحكومة على الاستثمارات الأجنبية وقدرتها على انتعاش الاقتصاد التونسي وتعبئة الاحتياطي من العملة الصعبة.
ما يقلق في هذه التصريحات، وفي الخطاب السياسي بصفة عامة، أنه في الوقت الذي يتم فيه الاعتراف بصعوبة وضع ترويه المؤشرات المالية والاقتصادية والاجتماعية ويؤشر لاندلاع حراك اجتماعي قريب غير مسبوق، يتم الترويج للاستثمار الأجنبي كمنقذ لهذا الاقتصاد المريض في تجاهل صارخ لمحركات نمو ثلاث من استهلاك، واستثمار وطني يقوم على تحفيز القطاعات المنتجة، وتصدير، محركاتتم تدميرها بسياسة نقدية متشددة وسياسة صرف قضت على قيمة الدينار وسياسة مالية عمومية تخلت فيها الدولة عن دورها التنموي والاقتصادي والاجتماعي.
خطورة هذه التصريحات وهذا التبشير بالاستثمار الأجنبي المباشر لا يمكن فك شفرتهوادراكه والوقوف على تداعياته، الا في إطار القوانين الجديدة التي صادق عليها مجلس نواب الشعب منذ سنة 2015 الى اليوم والتي تستند الى برنامج الإصلاحات الهيكلية لصندوق النقد الدولي ومقتضيات اتفاقية التبادل الحر الشامل والمعمق “الأليكا” مع الاتحاد الأوروبي والتي ترمي كلها الى تحرير الاقتصاد والمبادلات التجارية والاستثمار والتي تترجم الى الغاء دور الدولة التنموي عبر القطاع العمومي والشركات العمومية مثل الشركة التونسية للكهرباء والغاز، والشركة التونسية لاستغلال وتوزيع المياه، وشركة الخطوط التونسية، والدواوين… من ديوان الحبوب وديوان الزيت، والبنوك العمومية الثلاث، والمدرسة العمومية والجامعة العمومية …لفائدة القطاع الخاص وتحديدا الشركات الاجنبية ورأس المال العالمي من خلال التفويت فيها تحت غطاء إعادة الهيكلة ورفع الاحتكارحسب مقتضيات قانون المنافسة وقانون الاستثمار وقانون تحسين مناخ الاستثمار وقانون الشراكة بين القطاع العام والقطاع الخاص… والقائمة تطول لتشمل في المرحلة الأخيرة التي نعيش تفاصيلها اليوم، وفي انتظار موافقة صندوق النقد الدولي على قرض جديد، قانون اصدار مجلة المياه وتحرير المعاملات المالية مع الخارج.
اننا نقف اليوم عند حقائق مفزعة مهدت لها الحكومات المتعاقبة بعد الثورة التي ارتمت كلها في أحضان صندوق النقد الدولي والاتحاد الأوروبي لإرساء منوال تنمية يعمق الاعتماد على الاستثمار الأجنبي والشركات الأجنبية على حساب دور الدولة والقطاع الخاص الوطني عبر تعميق مسار تحرير الاقتصاد والمبادلات التجارية والاستثمار وتمرير مشاريع قوانين في ظل تعتيم اعلامي مبرمج وتضليل للراي العام التونسيممنهج والترويج لها من زاوية أقلمة القوانين الوطنية مع المعايير الأوروبية والعالمية في حين أنها تقوم على ضمان مصالح الشركات العالمية التي وضعت هذه القوانين على مقاسها في ضرب صارخ لكل مقومات السيادة الوطنية ونفي تام لها لتحويل السلطة الى السوق وقوانين السوق التي وضعتها هذه الشركات.
وزير الطاقة والمناجم بالنيابة محمد بوسعيد وفي لقاءه بلجنة الصناعة والطاقة طمأن الحضور عن نظام اللزمات في بلادنافي إشارة الى القانون عدد 23 لسنة 2008 والمؤرخ في 1 أفريل 2008 والمتعلق بنظام اللزمات والذي بمقتضاه تفوض مؤسسة عمومية الى شخص عمومي أو خاص ولمدة محددة التصرف في مرفق عمومي أو استعمال أو استغلال أملاك أو معدات عمومية وذلك بمقابل يستخلصه لفائدته من المستعملين، مؤكدا أن هذا النظام يمثلالركيزة الأساسية لنجاح البرنامج الوطني لإنتاج الكهرباء من الطاقات المتجددة.
أحد إطارات وزارته طمأن هو أيضا السادة النواب عن هذا القانون الذي يمثل، حسب قوله، الضمانة الأساسية لحقوق الدولة التونسية في علاقتها مع المستثمرين.
تطمينات بالجملة تصدر عن وزارة الطاقة والمناجم للحصول على موافقة المجلس على اتفاقيات لزمات انتاج الكهرباء من الطاقات المتجددة في غياب دراسات تقيم تداعيات تحرير قطاع الكهرباء، عبر اتفاقيات اللزمات، على الاقتصاد التونسي والقدرة التنافسية للقطاعات المنتجة وعلى المقدرة الشرائية للمواطن.
فقد كنا ننتظر من السادة النواب مطالبة وزارة الصناعة والطاقة ووزارة التجارة وتنمية الصادرات بتقديم دراسات حول تقييم اتفاقية الشراكة لسنة 1995 وتداعيات اتفاقية التبادل الحر الشامل والمعمق بعيدا عن الشعارات السياسية والمغالطات التي عودتنا بها الحكومات من خلال دراسات لا تأخذ بعين الاعتبار الإصلاحات الهيكلية الجارية والتي ترجمت الى قوانين تمت المصادقة عليها للترويجلتوصيات خارج سياق التاريخ والجغرافيا.
قطاع الكهرباء في تونس هو أحد القطاعات المستهدفة بما يسمى بالإصلاحات الهيكلية وباتفاقية التبادل الحر الشامل والمعمق حيث ترمي هذه الإصلاحات، حسب أنصارها، الى تصحيح تموقع الشركة التونسية للكهرباء والغاز واخراجها من القطاع العمومي الى القطاع الخاص، الذي يقدمه أنصار النيو ليبرالية، على أنه الاقدر على التسيير والتصرف مقارنة بسوء الحوكمة والفساد التي أصبحت من ميزات القطاع العمومي، كما يتم الترويج له.
انه لا يمكن الوقوف عند تداعيات اتفاقيات لزمات انتاج الكهرباء من الطاقات المتجددة في غياب دراسات علمية تنطلق مما جاء في مقترحات الاتحاد الأوروبيباتفاقية التبادل الحر الشامل والمعمق في باب رفع الاحتكار في قطاع الكهرباء، مقترحات ترجمت الى قوانين صادقت عليها السلطة التشريعية المنتخبة.
ان الهرولة اليوم الى توقيع اتفاقية التبادل الحر الشامل والمعمق يدفعنا الى التساؤل عن وطنية الحكومات التي تفاوضت مع الطرف الأوروبي، وتلك التي حولت المقترحات الى مشاريع قوانين، وتلك التي مررت مشاريع القوانين، وتلك التي ستوقع على الاتفاقية.
مقترحات الجانب الأوروبي جاءت واضحة ولا غبار عليها ولا تتطلب فك شفرتها ولا تفسير من قبل أهل الاختصاص، وهي في تقاطع وتناغم مع برنامج الإصلاحات الهيكلية لصندوق النقد الدولي وتتلخص في كلمة “سر” واحدة وهي رفع احتكار الدولة التونسية كما جاء بالفصلين 8 و9 من مقترح النص المتعلق ب «المنافسة والاحكام الاقتصادية الأخرى” الذي يشكل الإطار العام لتوجهات الدولة فيما يتعلق بالمؤسسات العمومية.
هذا المقترح ينص على: “أن جميع احتكارات الدولة التونسية ذات الصبغة التجارية ستزول بحلول نهاية السنة الخامسة التي تلي ابرام الاتفاقية. كما ستخضع المؤسسات العمومية التي تتمتع بحقوق خاصة أو حصرية لشروط السوق في نهاية السنة الخامسة التي تلي ابرام الاتفاقية وذلك لغرض تحرير المبادلات بين الاتحاد الأوروبي وتونس”.
انتاج الكهرباء من الطاقات المتجددة شكل موضوع الفصل 4 من مشروع مقترح النص الأوروبي الخاص ب «الأحكام المتعلقة بالتجارة في الطاقة والمواد الأولية” في باب “احتكار التصدير والتوريد” الذي نص على “ألا يبقي أي من الأطراف على أي مؤسسة مختصة بالاستيراد أو التصدير”، بما يعني الغاء احتكار الشركة التونسية للكهرباء والغاز لتوريد وتصدير الكهرباء مما يفترض أيضا الغاء احتكار “الستاغ” لإنتاج الكهرباء من الطاقات المتجددة وتزويد السوق المحلية بما يفتح المجال أمام الشركات الأجنبية للقيام بهذه العمليات في سوقنا التونسية.
لم تتوقف المقترحات الأوروبية عند هذا الحد لتشمل الغاء الرقابة على الأسعار في السوق الداخلية
(الفصل 5 من الاتفاقية) بما يعطي مطلق الحرية للشركات الأجنبية لتحديد السعر الذي يؤمن لها مصالحها دون اعتبار مستوى العيش في البلاد وأولوياتنا التنموية والاجتماعية،ومنح الشركات الأجنبية (الفصل 12)حق استعمال شبكات النقل الموجودة في الأراضي التونسية وحق استغلال البنية التحتية على أن تتحمل “الستاغ” لوحدها تكلفة صيانة الشبكات.
ما يعمق استغرابنا في هذا المجال غياب أي توضيح من السلط التونسية تجاه ما جاء في مشروع النص المتعلق ب «التجارة في الخدمات والاستثمار والتجارة الالكترونية” الذي يمنع الطرف التونسي من فرض نقل التكنولوجيا على الشركات الأجنبية الى تونس أو تحديد مستوى انتاج الكهرباء وأيضا عدم التدخل في تحديد حجم المعاملات على الأراضي التونسية أو فرض نسبة معينة من المكون المحلي على الشركات الأجنبية أو انتداب عدد محدد من الكفاءات التونسية أو ضبط حجم الصادرات من الكهرباء الذي ينتج في أراضينا وبطاقتنا الشمسية، شروط أو هي املاءات نقف أمامها عاجزين عن التعبير لنتساءل عن حقيقة تنازل السلط التونسية عن حقوقها الطبيعية في انتاج الكهرباء من الطاقات المتجددة… تساؤل يجد الإجابة في مشاريع القوانين التي ترجمت المقترحات الأوروبية وحولتها الى سيف مسلط على السيادة الوطنية بعد أن صادقت عليها السلطة التشريعية بأغلبية مريحة.
القانون عدد 12 لسنة 2015 مؤرخ في 11 ماي 2015 يتعلق بإنتاج الكهرباء من الطاقات المتجددة، هو أحد القوانين التي ترجمت مقترحات الطرف الأوروبي في باب رفع احتكار الدولة لإنتاج الكهرباء من الطاقات المتجددة بهدف التصدير وبهدف ضبط النظام القانوني المنطبق على المنشآت والتجهيزات والعقارات والمعدات الضرورية لتأمين عملية انتاج الكهرباء من الطاقات المتجددة (الفصل 1). كما نص الفصل 24 منه على أن مشاريع انتاج الكهرباء من الطاقات المتجددة بهدف تصديرها تنجز في إطار عقود لزمات يتم المصادقة عليها بمقتضى قانون حسب الفصل 25.
ولئن اهتم القانون الجديد بعملية تصدير الكهرباء من الطاقات المتجددة من قبل الشركات الأجنبية وبضمان حق استعمالها للبنية التحتية وشبكة نقل الكهرباء الوطنية فذلك على أساس أن الغاء احتكار انتاج الكهرباء من قبل الشركة التونسية للكهرباء والغاز قد جاء بمقتضى القانون عدد 27 لسنة 1996 المؤرخ في 1 أفريل 1996 يتعلق بإتمام المرسوم عدد 8 اسنة 1962 المؤرخ في 3 أفريل 1962 والمتعلق ببعث وتنظيم الشركة التونسية للكهرباء والغاز والذي بمقتضاه تمت إضافة فقرة ثانية للفصل 3 تنص على:” غير أنه يمكن للدولة أن تقوم بإسناد لزمات لإنتاج الكهرباء الى الخواص وتضبط شروط وإجراءات منح اللزمة بأمر”.
رفع احتكار الدولة عن جميع الأنشطة الاقتصادية تم تثبيته أيضا بالقانون عدد 36 لسنة 2015 مؤرخ في 15 سبتمبر 2015 يتعلق بإعادة تنظيم المنافسة والأسعار، حيث نص الفصل 1 منه على أن هذا القانون يهدف الى ضبط الأحكام المتعلقة بحرية الأسعار…وضبط الالتزامات الرامية الى ضمان شفافية الأسعار والقضاء على الممارسات الاحتكارية.
ويعتبر الفصل 5 منه أن تدخل الدولة لتحديد أو مراقبة الإنتاج أو التسويق أو الاستثمار هي ممارسات تخل بالمنافسة.
هذا التوجه نحو الغاء احتكار الدولة في جميع المجالات بما في ذلك انتاج الكهرباء من الطاقات المتجددة تعزز بإصدار الأمر الحكومي عدد 1123 لسنة 2016 مؤرخ في 24 أوت 2016 يتعلق بضبط شروط وإجراءات انجاز مشاريع انتاج وبيع الكهرباء من الطاقات المتجددة، وإصدار القانون عدد 71 لسنة 2016 مؤرخ في 30 سبتمبر 2016 يتعلق بقانون الاستثمار، والقانون عدد 47 لسنة 2019 مؤرخ في 29 ماي 2019 يتعلق بتحسين مناخ الاستثمار وكلها قوانين جاءت لحماية مصالح الشركات الأجنبية في جميع المجالات بما في ذلك الطاقة.
وفي الوقت الذي يعاني ميزان الطاقة في تونس من عجز عمق تبعيتنا الى الخارج ولجوئنا الى الاقتراض الخارجي تتوجه الحكومة الى البرلمان للحصول على الموافقة على اتفاقيات لزمات انتاج الكهرباء من شمسنا وعلى أراضينا… لنتساءل في الأخير عن الفرق بين اتفاقية بيع البلاد واتفاقية اللزمة؟

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *