المشهد السياسي في تونس.. النداء لن يموت.. والنهضة بين خياري التونسة والعولمة .. بقلم كمال بن يونس

تعاقبت في الأيام والأسابيع القلية الماضية التعليقات والتصريحات التي تحذر من «موت حزب نداء تونس» أو تتوقع «نهايته» ..

وصدرت مثل هذه التعليقات والتصريحات عن سياسيين من رموز اليسار الاشتراكي والنقابي الذين ساهموا في تأسيسه مثل السادة بوجمعة الرميلي والأزهر العكرمي ومنذر بالحاج علي وبشرى بالحاج احميدة ومصطفى بن أحمد..

في نفس الوقت ينظر كثير من المراقبين بقدر كبير من «الحذر» للتطورات الداخلية في حركة النهضة عشية تنظيم مؤتمرها الوطني العاشر، الذي يكاد يرتقي إلى مرتبة «المؤتمر التأسيسي الجديد» لأنه من المقرر أن يبت في خيارات فكرية وسياسية وحزبية مصيرية حتى تتأقلم الحركة مع دستور2014 ومع «المنطق السياسي الجديد» الذي انخرطت فيه منذ منعرج لقاء زعيمها راشد الغنوشي بزعيم نداء تونس الباجي قائد السبسي في أوت 2013.

فإلى أين يسير الحزبان الكبيران في البلاد؟

وهل يمكن أن يضمنا حدا أدنى من «التوازن» في المشهد السياسي الجديد الذي يتخوف كثيرون من تعمق مظاهر الخلل فيه؟

الإشارات الحمراء بالنسبة لحزب النداء الفائز بالمرتبة الأولى في انتخابات 2014 البرلمانية والرئاسية بدأت مباشرة بعد الانتخابات لما بدأت مرحلة «الصراع على الكراسي».

وقد تطرق الزعيم المؤسس للحزب شخصيا الباجي قائد السبسي لهذه الحقيقة مبكرا فأعلن في كلمة توجه بها إلى الشعب منذ مطلع 2015عن قناعته بكون الخلافات بين «الندائيين» بعد الانتخابات ليست ناجمة عن اختلافات في المواقف والبرامج بل عن «طموحات شخصية» لتولي مناصب في الدولة.

لكن الإشارات الحمراء تكثفت في الأسبوعين الماضيين بعد أن تعاقبت الانسحابات والاستقالات لتشمل «المقربين» وبينهم الأستاذ رضا بالحاج الوزير مدير الديوان الرئاسي السابق رئيس الهيئة السياسية والمدير التنفيذي السابق الذي كان يعد «أمين سر سي الباجي» في الحكم ثم في الحزب منذ أكثر من 5 أعوام ونصف.

النداء انتهى”؟

رد الفعل على مسلسل صراعات الكراسي والاستقالات والانشقاقات كان إعلان أعضاء سابقين في الهيئة التأسيسية والمكتب التنفيذي عن كون «النداء انتهى» أو «مات»؟

وجاءت هذه التصريحات بعد اشهر من الانتقادات التي كانت توجه من قبل «المتفائيلن» لشخصيات متهمة بـ»المبالغة في انتقاد سي الباجي والمقربين من سي حافظ « ــ مثل ألفة يوسف ورجاء بن سلامة وعبد العزيز المزوغي والطاهر بن حسين أو الأزهر العكرمي

وقد سارع بعض المتشائمين بمستقبل النداء بتأسيس «البديل» مثل حزب مشروع تونس الذي يتزعمه الأمين العام السابق محسن مرزوق. واختار آخرون «بدائل» أخرى.. من بينها محاولات التأثير في توجهات الأعمال التحضيرية للمؤتمر الأول الذي من المقرر أن يعقدفي الصائفة القادمة ويراهنون على كونه سوف «يصحح» غلطات المؤتمر التأسيسي الذي عقد في سوسة في موفى جانفي الماضي.

حزب بورقيبة وبن علي

لكن كل المؤشرات الحالية لا توحي بتحقيق «المنشقين» و»المنسحبين» تقدما ميدانيا يذكر في التأسيس إلى بديل شعبي عن «حزب سي الباجي» الذي نجح خلال الأعوام الماضية في أن يصبح الحزب الأول في البلاد وأن يزيح حركة النهضة وحلفائها في «الترويكا» عن الحكم مرتين: الأولى في موفى 2013 «تحت ضغط الشارع» والثانية في موفى 2014 عبر صناديق الاقتراع.

فهل يمكن أن يموت حزب نجح في أن يرث مئات الآلاف من الدستوريين والتجمعيين والسياسيين وكوادر الدولة والمتحزبين الذين انتموا خلال العقود الماضية إلى حزب الرئيسين بورقيبة وبن علي؟

علم الاجتماع السياسي يعتبر هذه الفرضية «مستحيلة» كليا.

ومهما كانت «الصبغة الكاريزماتية» للرئيس الباجي قائد السبسي منذ عودته للمشهد السياسي في فيفري 2013 فإن قوة حزبه مرتبطة كذلك بكونه نجح في إعادة استقطاب الدستوريين والتجمعيين ومن أن يكون «الوريث الشرعي» لتراث بورقيبة وبن علي ومؤسسات الدولة والحزب الحاكم السابق.

لكل هذه الأسباب «لا يمكن لهذا الحزب أن يموت» مثلما يقول رجال أعمال مقربون من الرئيس الباجي قائد السبسي منذ عقود مثل السيد رؤوف الخماسي ـ القيادي في النداء ـ أو نجله حافظ قائد السبسي والإعلامي نبيل القروي صاحب قناة نسمة..

هؤلاء أدركوا مبكرا الصبغة الظرفية لـ»تحالف سي الباجي مع رموز من اليسار الطلابي واليسار النقابي بزعامة الطيب البكوش ومصطفى بن أحمد وعبد المجيد الصحراوي أو مع قيادات من» الاتحاد من أجل تونس «مثل أحمد نجيب الشابي والمرحوم عبد الرزاق الهمامي وسمير الطيب..

التوازن بين النهضة والنداء؟

في هذا السياق هل يمكن الحديث فعلا عن «خلل استراتيجي» في التوازن بين النداء الذي يعاني من التشرذم والاستقالات وحركة النهضة التي تستعد لعقد مؤتمرها العاشر بعد أن أصبحت «الحزب الأول» في البرلمان من حيث عدد النواب؟

القراءات التبسيطية توحي بذلك داخل الندائيين والنهضويين وخارجهم..

لكن الحقيقة مغايرة تماما.

صحيح أن كتلة «النواب الندائيين» تطورت من 86 إلى حوالي 50 نائبا تشقهم تناقضات بالجملة..

وصحيح أن كتلة «الحرة» المتحالفة مع حزب السيد محسن مرزوق ـ «مشروع تونس»ـ تعاني بدورها من ظاهرة الاستقالات والتردد والحيرة ولن تتطور بسهولة إلى «حزب قادر على تجميع البورقيبيين والحداثيين والتجمعيين” .

لكن الثابت أيضا هو أن نواب النهضة وحلفائها أقل بكثير من نصف النواب في البرلمان..إذا لم يتحالفوا مع «الدساترة».

والثابت كذلك هو أن «التناقضات الثانوية» بين «الحداثيين والدساترة واليساريين «قد تجمد إذا شعروا أن قيادات التيار الإسلامي في البرلمان والبلاد حاولت أنتجرهم مجددا إلى «ثنائية الإسلاميين والعلمانيين”..

المراجعات الفكرية والسياسية

هنا تبرز أهمية المؤتمر الوطني العاشر الذي تعقده حركة النهضة هذه الأيام «بعد عامين كاملين من الحوار بين آلاف المناضلين حول المراجعات الفكرية والسياسية» على حد تعبير السيد رضا إدريس نائب رئيس لجنة «الوثيقة المضمونية للمؤتمر» والقيادي في النهضة وفي حركة الاتجاه الإسلامي منذ عقود.

وبصرف النظر عن أهمية عناصر التجديد والتغيير في مشاريع اللوائح الاقتصادية والفكرية السياسية كما قدمها الثنائي عبد الرؤوف النجار ورضا إدريس والمناصرون لهما، فان السؤال الأهم الذي ستكون الإجابة عنه حاسمة بالنسبة للنهضة ومستقبل علاقاتها بالدستوريين والتجمعيين والنخب اليسارية في البلاد هو: هل سيؤكد المؤتمر «تونسة الحركة نهائيا» أم سيبقي على ترددها بين ارثها «الاخواني السلفي» و»الخميني الثوري»؟

وهل ينتصر تيار «القراءة التونسية المغاربية العقلانية الأندلسية للإسلام» الوفية لمدرسة الطاهر حداد والطاهر بن عاشور ومن قبلهما ابن رشد وابن خلدون والشاطبي، أم «ترضخ» لضغط التيارات «السلفية الوهابية» والغلاة والمتشددين الذين استقطبوا قطاعات واسعة من الشباب «الثائر» والفقراء والمهمشين ثقافيا واجتماعيا؟

إسلام تونسي عقلاني” أم “إخوان”؟

رئيس الحكومة السابق والأمين العام لحركة النهضة علي العريض ونائبه رئيس كتلة الحركة في البرلمان المحامي الحقوقي نور الدين البحيري أوردا في تصريحات لـ»الصباح» أن «حركة الاتجاه الإسلامي ثم حركة النهضة حسمتا منذ أواخر السبعينات ومطلع الثمانينات في الهوية التونسية للحركة «وتميزتا عن «مدرسة الإخوان المسلمين والتيارات الوهابية والسلفية المتشددة المشرقية.

وسار في نفس المنحى المحامي عبد الفتاح مورو «زعيم التيار الإسلامي المتصالح مع تونس منذ البداية» الذي يذكربكونه كان منذ أيام طفولته ومراهقته «الابن الروحي للشيخ الفاضل بن عاشور» و»الإسلام الزيتوني المستنير“.

لكن بعيدا عن كل هذه التصريحات ستحسم معركة أنصار تطوير «النهضة» إلى «حزب وطني حداثي جامع لكل التونسيين» حسب وضوح موقف المؤتمر والقيادة التي سوف يفرزها من «التونسة» ومن «القطيعة مع الفكر السلفي العقيم“.

كما سوف يحسم مصير «حزب النداء» بدرجة انخراط مناضليه الليبراليين والدستوريين والتجمعيين بوضوح في مسار «تصحيحي» و»نقد ذاتي» لأداء حزبهم وحكوماته خلال العقود الست الماضية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *