المؤتمر الأمريكي للحريات الدينية.. تسييس للدين أم ديننة للسياسة ؟!

نزولاً عند رغبة وزير الخارجية الأمريكي مارك بومبيو في عقد مؤتمر دولي تحت عنوان “الحريات الدينية في العالم”، توجّهت شخصيات رسمية لثمانين دولة حول العالم على مستوى وزير، ومئات منظمات “المجتمع المدني” إلى واشنطن لحضور فعاليات المؤتمر الذي عقد يومي 25 و26 تموز/يوليو لمناقشة سبل الدفاع عن الحريات الدينية في العالم، وبدأ المؤتمر أعماله بتعريف المشاركين على الدور الذي يجب أن يضطلعوا به لـ”حماية الحريات الدينية” وكيفية الحصول على التمويل الأمريكي ونوعية المشاريع التي يمكن أن تموّلها المؤسسات الأمريكية، وجرى الحديث عن مظلومية مسلمي الروهينغا وبعض الأقليات الأخرى في الشرق.

في الحقيقة لقد أذهلني هذا المؤتمر وأهدافه السامية وأبعاده العميقة، خاصة في شرقنا الأوسط، لعدة أسباب:

أولاً: فاقد الشيء لا يعطيه، كيف يمكن لواشنطن أن تدعو لمثل هذا المؤتمر وقد ارتكبت أفظع الجرائم بحق سكان أمريكا الأصليين وقتلت الملايين منهم، ومن ثم استخدمت نفس الأسلوب الإجرامي ولكن بطرق مختلفة وبأساليب أكثر قذارة مع أصحاب البشرة السمراء على أراضيها من خلال ممارسة التمييز العنصري تجاههم وما زالت هذه القضية تجري في عروق المسؤولين الأمريكيين حتى وإن كان خفّ بريقها في الظاهر، لكوننا نرى انتهاكات بحق هؤلاء المواطنين بين الفينة والأخرى، لنصل إلى العصر الحالي وإلى نفس الإدارة الأمريكية التي دعت إلى هذا المؤتمر الموقّر، ففي 27/1/2017 وقّع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب قراراً تنفيذياً يحظر دخول اللاجئين السوريين إلى الأراضي الأمريكية، ويمنع إصدار تأشيرات دخول لمواطني ست دول إسلامية أخرى، وهو ما عدّه حقوقيون تمييزاً ضد المسلمين ومخالفاً للدستور الأمريكي.

وقال ترامب عقب التوقيع، إن القرار يمنع دخول من وصفهم بإرهابيي الإسلام المتطرف، وأضاف “نريد فقط أن نقبل في بلادنا هؤلاء الذين يدعمون بلادنا ويحبون شعبنا بعمق”، فكيف برئيس يمنع أبناء دول بأكملها من دخول بلاده ومن ثم ينظر بالحريات الدينية.

ثانياً: في 12 أكتوبر 2017  كشفت “صحيفة الغارديان” البريطانية في تحقيق موسّع نشره “دانيال غولدن” عن الطرق التي تتبعها وكالة الاستخبارات المركزية “سي آي ايه ، CIA” لتجنيد الأكاديميين “مستغلّة المؤتمرات العلمية لزرع عملائها بهدف إقناع باحثين وعلماء في المجال النووي من كوريا الشمالية وإيران بالعمل لمصلحة الاستخبارات الأمريكية”.

ويتحدث التقرير مطوّلاً عن سياسة الاستخبارات المركزية في تجنيد العملاء والطرق المتبعة لذلك، وما يجري اليوم في مؤتمر الحريات الدينية، لا نستبعد بأن يكون على نفس النهج لتكرار الأسلوب نفسه، فوكالة الاستخبارات المركزية تجنّد العملاء عن طريق وجودها في ورشة العمل للهدف نفسه حتى لو اقتصر الأمر على تبادل الأحاديث السخيفة بحيث سيبادر العميل في المرة الثانية إلى التذكير بالهدف قائلاً على سبيل المثال: هل التقينا سابقاً في اسطنبول؟، بحسب مارك غاليوتي، Mark Galeotti، أستاذ الشؤون الدولية في جامعة نيويورك والمستشار الخاص السابق لوزارة الخارجية البريطانية.

وفي مؤتمر الحريات الدينية كان هدف واشنطن في البداية تعريف المشاركين بالدور الذي يجب أن يضطلعوا به لـ”حماية الحريات الدينية” وكيفية الحصول على التمويل الأمريكي ونوعية المشاريع التي يمكن أن تموّلها المؤسسات الأمريكية.

مشاركة الدول في مؤتمر “الحريّات الدينيّة” الأمريكي هو مساهمة من حيث تدري أو لا تدري، في حملة دعائيّة سياسيّة خبيثة يرعاها اللوبي الصهيوني وفرق المسيحيّة الصهيونيّة ضد الاسلام، ويجب أن نذّكر بأن من يشرف على هذا المؤتمر ودعا إليه هو وزير الخارجية الأمريكية، أي رئيس الاستخبارات الأمريكية حتى الأشهر الماضية، ولا ندري هل يستخدم بومبيو فريقه السابق في الاستخبارات أم فريقه الحالي في الخارجية.

وتفيد كل التقارير إلى أن هذه المؤتمرات تشكّل بيئة خصبة جداً للتجنيد من قبل الاستخبارات الأمريكية، والسؤال هل سيتم تجنيد علماء جدد لزرع الفتنة؟… هناك بعض رجال الدين الذين يقودون محاولات إيجاد الفتنة بين السنة والشيعة يعيشون في أمريكا ويحظون بدعم أمريكي غير مسبوق.

وكما دعمت بريطانيا محمد عبد الوهاب وبنت له امبراطوريته الدينية المتزمتة التي شرّعت القتل وكانت نواة لظهور التطرف في العالم الإسلامي، فلا نستغرب أن تعمد واشنطن إلى اعتماد نفس الأسلوب من جديد، والتقارير التي انتشرت عن تورط أمريكا في دعم “داعش” وغيرها من الجماعات المتطرفة في أفغانستان وسوريا والعراق، تؤكد أن واشنطن تريد اختراق العالم الإسلامي عبر هؤلاء لحرف الدين عن مساره ومن ثم إيصال فكرة للعالم أجمع بالقول: “انظروا هذا هو الإسلام”.

لذلك اليوم يتم التركيز على رجال الدين، لكون واشنطن تعلم جيداً مدى تأثير هؤلاء على الشعوب، خاصةً وأن الشعوب الإسلامية ما زالت بأغلبيتها ملتزمة ولم تنخرط حتى اللحظة بالثقافة الغربية بشكل كبير، علماً أنها أثرت عليها في بعض الجوانب، فالشعوب الشرقية رغم وجود فوضى إلا أنها شعوب ملتزمة، لم ينجح الغرب في نقل تجربته إلى الشرقيين ولاسيّما المسلمين كما كان يريد.

وأحد المسارات الجديدة للتأثير على شعوب المنطقة عبر سوق العلماء إلى ما تهدف أمريكا لضربه عبر الإعلام والسياسية، ناهيك عن استغلالهم لطفرة الجماعات التكفيرية التي صنعوها ودربوها ودعموها.

بطبيعة الحال تطفو العبارات الناعمة على المؤتمر وبيان من قبيل السلام التسامح والرحمة، ولكن تاريخ أمريكا في هذا الخصوص لا يبشر بالخير للحريات الدينية الحقيقية، وما يجري التخطيط له اليوم لن يكون أقل تأثيراً من تسويقها لنشر الديمقراطية في العراق وغيرها من الدول، لذلك لا بدّ من اتخاذ الحيطة والحذر من الغدر الأمريكي.

الوقت 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *