الزلزال وفرصة النظم العربية لكسر الحصار على سورية .. بقلم توفيق المديني

 

مجلة البلاد اللبنانية:تصدر أسبوعيًا عن تجمع العلماء المسلمين في لبنان، العددرقم 375، تاريخ الجمعة 10فبراير 2023
توفيق المديني
الزلزال الذي ضرب جنوب تركيا وشمال سورية فجر الإثنين الماضي كان مدمرًا وفظيعًا،إذ أن إِنَّ حجم الدمار الذي تسببت به هزتان أرضيتان بدرجة 7.8 و 7.5 على مقياس ريختر في 6 شباط/فبراير غير معروفة بعد. وأعداد الضحايا تتزايد في كل يوم (وصلت إلى أكثر من 20 ألفا في تركيا وسوريا)، وانهارت حوالي 6.000 بناية مثل تلك البنايات في أضنة نتيجة الهزة، حسب أوغين أحمد إرشان، خبير الزلازل والذي يعتقد أن حوالي 180.000 شخص علقوا بين الأنقاض. 17500قتيل وعشرات آلاف الجرحى، اعتمادًا على بيانات رسمية في سوريا وتركيا، إضافة لأرقام منظمات دولية في الشمال السوري.
وكان فؤاد أوقطاي نائب الرئيس التركي، أعلن يوم الإربعاء الماضي،عن آخر إحصائية لأعداد الوفيات في تركيا إلى 6234 قتيلا و37011 جريحًا ،أمَّا عدد المباني التي تدمرت بفعل الزلزال فقد بلغ 5 آلاف و775، وتمَّ إنقاذ حوالي 8 آلاف شخص من تحت الأنقاض.وارتفعت حصيلة ضحايا الزلزال في شمال غربي سورية إلى أكثر من 2000حالة وفاة وأكثر من 2600 مصاب في حصيلة غير نهائية.والعدد مرشح للارتفاع بشكل كبير بسبب وجود مئات العوائل تحت الأنقاض، وفرق الإنقاذ تواصل عمليات البحث والإنقاذ وسط ظروف صعبة جداً بعد مرور أكثر من 50 ساعة على الزلزال.
وصول طائرات المساعدات العربية والإيرانية إلى سورية
فظاعة الزلزال ، و الكارثة الإنسانية التي خلقها في سورية، أعاد إحياء جذوة القيم والإنسانية في ضمائر بعض الدول العربية التي هرعت لتقديم المساعدات إلى سورية ، عبر تسيير الطائرات المُحمّلة بفرق الإنقاذ والأغذية والمعونات الطبيّة لكي تتدفق إلى مطاري دمشق وحلب وتكسر الحصار الغربي الجائر، لا سيما الحصار الأمريكي عبر قانون “قيصر” ، من العواصم العربيّة والإسلاميّة والعالميّة الشّريفة، من الجزائر، من لبنان، من تونس، من العراق، من إيران.
وها هو الرئيس المِصري يُهاتف نظيره السوري للاطمئنان والتّعزية، وللمرّة الأولى بعد قطيعة استمرّت 11 عامًا، وها هو الرئيس الجزائري يُصرُ على أن تكون طائرات مُساعداته التي تحمل ما يزيد عن ما يقرب من مئتيّ طن الأولى التي تهبط في مطارات دمشق وحلب وحمص وعلى متنها أكثر من مئة من رجال الإنقاذ، والشّيء نفسه يُقال عن سلطنة عُمان، وعن الأردن حيث بادر السّلطان هيثم بن طارق وعاهل الأردن الملك عبد الله الثاني بالاتّصال بالرئيس السوري الذي لم يَستجدِ المُساعدات رُغم آلام وعُمق جُرح المأساة.
ووصلت طائرتان عراقيتان إلى دمشق تحمل كل واحدة منهما 70 طناً من المواد الغذائية والبطانيات والإمدادات الطبية، من بين أشياء أخرى، بحسب وكالة الأنباء السورية سانا . وقال مسؤول حكومي عراقي بارز في بغداد، يوم الإربعاء الماضي لصحيفة “العربي الجديد”، إن مجلس الوزراء قرر تمديد إرسال المساعدات وطواقم الإنقاذ إلى كل من سورية وتركيا، مشيرا إلى تكليف سلاح الجو العراقي بمهام نقل المساعدات الغذائية واللوجستية جوا للبلدين.
يأتي ذلك مع بدء عدد من المحافظات والمدن العراقية، أبرزها الفلوجة وبغداد والموصل وسامراء والبصرة حملات شعبية لجمع مساعدات عينية مثل الملابس والأغطية الشتوية والمعلبات الغذائية بغية إرسالها إلى سورية وتركيا لمساعدة المنكوبين، ويشرف على الحملات ناشطون مدنيون عراقيون.
وقال مسؤول عراقي في بغداد، إن صهاريج الوقود المحملة بالبنزين ووقود التدفئة انطلقت فعليا إلى سورية برا وبكمية تبلغ مليون لتر إلى جانب مواد غذائية مختلفة.كما فتحت بغداد ممرا جويا مخصصا للمساعدات الإنسانية وسترسل الوقود الأربعاء، بحسب مسؤول في الخارجية العراقية.
أعلنت المملكة العربية السعودية التي لا تقيم علاقات مع النظام في دمشق منذ 2012، “تسيير جسر جوي وتقديم مساعدات صحية وإيوائية وغذائية ولوجستية لتخفيف آثار الزلزال على الشعبين السوري والتركي”.
زلزال حصار الإمبريالية الأمريكية على الشعب السوري
في الوقت الذي تتسابق فيه الدول الإستعمارية الغربية (أمريكا وبعض الدول الأوروبية) لإرسال مساعدات عسكرية ومالية و تكنولوجية لأوكرانيا من أجل مواجهة روسيا ،و إبقاء نيران الحرب مشتعلة في هذا البلد لاستنزاف الجيش الروسي ، تحرص الإمبريالية الأمريكية التي تتحدث دائما عن حقوق الإنسان، ودفاعهاعن قيم الليبرالية، و النزعة الإنسانية، على إحكام الحصار على الشعب السوري عبر التطبيق الصارم لقانون “قيصر” ومنع الدواء والغذاء والوقود عنه بشتى الوسائل،في ظل الكارثة المحدقة التي حلَّت بسورية، و الناجمة عن الزلزال المدمر .
وها هي أمريكا المدافعة عن حقوق الإنسان، وقيم الليبرالية، والنزعات الإنسانية، حسب خطابها السياسي والإعلامي، لم تحرك ساكنًا إزاء الشعب السوري، بل إنَّ الإمبريالية الأمريكية لا تزال تطبق الحصار عليه بصرامة، وتحتل 25% من أراضي الجمهورية العربية السورية في المنطقة الشرقية، وتسرق النفط و الغاز و القمح السوري ـوتمنع الدواء عن الشعب السوري.
إذا كانت الليبرالية الكلاسيكية الغربية هي بمنزلة إيديولجية الامبراطورية البريطانية منذ هزيمة نابليون بونابرت في معركة واترلو 1815و لغاية انهيار النظام العالمي البريطاني عقب الحرب العالمية الثانية في عام 1945، فإنَّ التوتاليتارية الليبرالية الجديدة هي إيديولجية الامبراطورية الأمريكية ، أو النظام العالمي الليبرالي الأمريكي أحادي القطبية الذي تشكل منذ نهاية الحرب الباردة في تشرين الثاني /نوفمبر 1989 التي توافقت مع انهيار جدار برلين ،وبعد انتهاء مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية في كانون الأول / ديسمبر 1991 التي توافقت مع زوال الاتحاد السوفياتي و حرب الخليج الثانية ، حيث بلغت الولايات المتحدة الأمريكية قممًا في السيطرة العسكرية و الاقتصادية و السياسية لطالما كانت غير قابلة للتخيل ، الأمر الذي جعل الولايات المتحدة تطمح وحدها إلى تحديد قواعد الحياة الدولية من خلال تبوئها مركز قيادة النظام الدولي الجديد أحادي القطبية .
وافتتحت حرب الخليج الثانية 1991، و حرب احتلال العراق 2003، مرحلة جديدة في تاريخ العلاقات الدولية ، لجهة قيام نظام توتاليتاري جديد بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية . فباسم التدخل الإنساني الذي بات يعتبر الأرفع أخلاقيا ،لم تتردد الإمبراطورية الأمريكية في الاعتداء على ركيزتين أساسيتين في السياسة الدولية ،وهما سيادة الدول و أنظمة الأمم المتحدة .
وهذا النظام التوتاليتاري الذي يحكم سيطرته على العالم برمته ،هو نظام ترعاه و تقوده الولايات المتحدة الأمريكية في الدرجة الأولى ، بوصفه نظامًا يعبر في الواقع عن الرأسمالية العسكرية المالية المتعددة الجنسيات ، التي تمتد شبكة مؤامراتها و تواطؤها لتستهدف معظم حكومات العالم ، و هي الشبكة التي تحتكر الوسائل التكنولوجية ، و الاقتصادية ، و التجارية لإحكام سيطرتها على العالم .
ومنذ بداية ما يسمى ب”الربيع العربي” رأت كل من الولايات المتحدة الأمريكية ومعها إسرائيل فرصتهما التاريخية لكي تخوضان الحرب الكونية على سورية من خلال تقديم الدعم الكامل للحركات الإرهابية و التكفيرية، وتجنيد الأنظمة الخليجية وتركيا لخدمة أهداف هذه الحرب، و المتمثلة في إسقاط الدولة الوطنية السورية، وتقسيم سورية إلى دويلات طائفية ومذهبية وعرقية،و إعادة رسم خريطة الوطن العربي ،و صياغة علاقات جديدة مع أنظمة المنطقة.
ورغم فشل هذا المخطط الأمريكي-الصهيوني، فإنَّ الإمبريالية الأمريكية لجأت إلى تطبيق قانون قيصر على الشعب السوري، حيث أنَّ ضحايا زلزل الحصار الأمريكي الأعمى على الشعب السوري، وقانون قيصر ،وجرائم سرقات الثروات السورية من نفط وغاز وقمح وقطن وفوسفات ، لا تقل عن عدد ضحايا زلزال الإرهاب التكفيري الذي ضرب سوريا منذ 12 عاما، ومازالت ارتداداته تتوالى حتى اليوم، لا يمكن قياسهم بضحايا زلزال لواء إسكندرون وجنوب تركيا وشمال سورية ، فعدد ضحايا الزلزال التكفيري الارهابي، بلغ الملايين بين قتيل وجريح ومشرد ولاجىء، إضافة إلى تدمير مدن باكملها.وشكلت الحركات الإرهابية و التكفيرية جيشًا عالميًا من المرتزقة في خدمة الجيب الإمبريالي الأمريكي-الصهيوني .
خاتمة: مع تفاقم النزعة العدوانية الصهيونية إلى حدها الأقصى ، خاصة بعد أن اعتلى سدة الحكم في الكيان الصهيوني مجموعة من أكثر الصهاينة إرهابًا و تطرفًا وفاشيةً بقيادة بنيامين نتنياهو،وفي ظل أزمة السياسة الأمريكية في منطقة الشرق الأوسط، آن الأوان للدول العربية الحليفة لواشنطن أن تكسر الحصار الأمريكي المفروض على سورية، خاصة أنَّ إدارة بايدن لا تزال ترفض التطبيع بين الدول العربية و الدولة السورية، ما لم تأخذ القيادة السورية خطواتٍ في مسار الحل السياسي القائم على قرارات مجلس الأمن، خصوصا القرار رقم 2254.
تقتضي سياسة الإلتزام بممارسة السيادة الوطنية لدى الأنظمة العربية على اختلاف مسمياتها، عدم الخضوع للعقوبات الأمريكية المفروضة نظريًا على النظام السوري، لكنَّها في الواقع هي مفروضة على الشعب السوري،وأبرز العقبات التي تقف في وجه كسر الحصار الأمريكي من جانب الدول العربية،هو التزامها بتطبيق قانون قيصر لعام 2019، الذي وُضع حيز التنفيذ في 17 حزيران/ يونيو 2020، وينص على معاقبة كل من يقدّم الدعم العسكري والمالي والتقني للنظام السوري، أشخاصًا أو دولًا أو شركات.
إنَّ أمراض الإمبريالية الأمريكية ،أو الفاشية الجديدة،أمراض أمريكية بامتياز ، نشير في هذا الصدد إلى ظاهرات أساسية :
1-انتهاك القانون الدولي بشكل فاضح و سافر ، و تهميش الأمم المتحدة ، و تحديد الولايات المتحدة وحدها معايير الحياة السياسية الدولية باسم ” تفوق أخلاقي ” مزعوم ،و من أجل فرض قانون الإمبراطورية الأمريكية الفاشي على الشعب السوري ، الذي يخدم أهدافها و مصالحها الإستراتيجية ، متجاهلة بصورة متعمدة أنَّ العالم هذا الذي نعيش فيه شبع من حكم الإمبراطوريات الإستعمارية التعسفية ، فضلاً عن بروز أقطاب دولية كبيرة مثل الصين وروسيا و الهند وجنوب إفريقيا، والبرازيل ، أصبحت تنادي ببناء نظام عالمي جديد يحترم القانون الدولي ، وعدم انتهاك سيادة الدول .
2-الصهيونية في الإدارة الأمريكية : تواجهنا الصهيونية اليهودية و الصهيونية المسيحية بالتلازم ، و الدعم المطلق الذي تقدمه الولايات المتحدة لدولة الكيان الصهيوني و هو ليس دعما لدولة أجنبية ، بل هو دعم لدولة لا تعدو كونها مظهرًا من مظاهر الفاشية الأمريكية ، و قاعدة عسكرية استيطانية للإمبريالية الأمريكية في قلب الوطن العربي.
3-العدوانية السافرة ، و استخدام القوة العسكرية وسيلة لدفع شبح الأزمة الداخلية التي تنذر بنهاية النظام العالمي الليبرالي الأمريكي ، بعد مسلسل الأزمات التي تعاني منها الرأسمالية الليبرالية المعولمة، و إخفاقات النظام الرأسمالي الأمريكي منذ أزمة عام 2008-2009،وجائحة كورونا (كوفيد 19)، والحرب الروسية الأوكرانية ، إِذْ كان ينظرُ إليه بعضهم باعتباره ” النموذج ” الذي يجب أن يحتذى به في البلدان التي تأخذ بنظام ” اقتصاد السوق “.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *