الديمقراطية عند مالك بن نبي من الاستنساخ الآلي إلى تحقيق الشروط الموضوعية

كان بن نبي واضحا في تحليله لموضوع الديمقراطية في الإسلام، فلم يتعامل مع الصيغة المركبة باعتبارها مسلمة، على الرغم مما فيها من إغراء وبريق قد يحمل المدافع عن الإسلام على تبنيها، خصوصا إذا ما نظرنا إلى الظروف التي كان يتحدث فيها بن نبي والتي اتسمت أساسا بتشبث المصلحين في العالم الإسلامي بكل ما من شأنه أن يدفع عن الإسلام دينا وحضارة، شبهات التخلف والانغلاق والماضوية، التي كان يروج لها المستشرقون والمفتونون من أبناء المسلمين، ويدعمها – بغير قصد – تزمت بعض علماء الدين وتحجر أفكارهم وبعدهم عن واقع الناس.
فكان بإمكان بن نبي أن ينطلق من الأمر باعتباره مسلمة، فلا يبحث عن جواب لسؤال: (هل في الإسلام ديمقراطية؟)؛ لأنه بذلك يضع الإسلام في قفص الاتهام كما يضعه خصومه، وإنما وبدافع من الذود عنه سيبحث عن جواب لسؤال: (هل لكم أن تصفوا لنا الديمقراطية في الإسلام؟)… كان بإمكان بن نبي أن يفعل ذلك.. ولكنه آثر أن يكون (محايدا) وأن يبدأ في تحليل المسألة من حيث يجب البدء، أعني تحديد حقيقة الرابطة بين المفهومين (الإسلام – الديمقراطية)، وهذا لا يتأتى إلاَّ بتحديد كل مفهوم على حدة، قبل الحديث عنهما بشكل صيغة مركبة.
يقول: «إن مشـكلة الربط بين هذين المصطلحين هي في نظري المشكلة الأساسية في الموضوع، يجب أولا أن نميز بينهما وأن نعطي كليهما ما تستحق شخصيته من التعريف، حتى نتبين في ضوء هذا التعريف أي قرابة توجد بين المصطلحين… وعليه في خطوتنا الأولى أن نوضح وأن نعرف مصطلحاتنا: ما هو الإسلام؟ وما هي الديمقراطية؟»
وكأني به بهذا قد انتهج طريق (ابن رشد) حينما بحث قضية الصلة بين الحكمة والشريعة، فحلل مضمون الحكمة وحدد مفهومها، ثم حاكم ذلك إلى ما دعت إليه الشريعة، فتوصل إلى (فصل المقال وتقرير ما بين الشريعة والحكمة من الاتصال).
فبدأ بن نبي تحليله للمصطلحين (الديمقراطية – الإسلام) ولكنه في البداية نبه على أمرين أساسين:
– الأول: أن الوقوف عند المعنى اللغوي للمصطلحين من شأنه أن يدفعنا إلى القول بانتفاء أية صلة زمانية أو مكانية بينهما، فالديمقراطية كمصطلح نشأت في بيئة محددة وزمان محدد لا صلة لهما بالبيئة والزمان اللذين نشأ فيهما مصطلح الإسلام، وعليه «ربما أمكن القول مجازفة، نظرا لهذا التباعد من حيث التاريخ والجغرافية، بأن ليس هناك (ديمقراطية في الإسلام)» (ص 135).
– الثاني: أن المصطلح عبر تاريخه يكتسب معاني ويتلبس بتصورات مختلفة، فلا يمكن أن نغفل هذا الأمر عند إرادة المقارنة أو التحليل، بل علينا أن نحدد المعنى الذي نريده، وهذا بالضبط ما حدث لكل من (الديمقراطية) و(الإسلام).
فما العمـل إذن أمام هذين الأمرين؟… يجيب بن نبي: بأنه علينا القيام بخطوتين:
1- تجاوز المعنى اللغوي للمصطلح محل الدراسة.
2- تحديد مفهومه قبل ربطه بأي مفهوم آخر (فالديمقراطية نحددها في ذاتها دون ربطها بالإسلام ولا أن نجعله مقياسا لها).
وبتطبيق هذين المحددين، يخلص بن نبي إلى أننا حينما نتعامل مع المصطلحين في أبسط صورهما المفهومية نجد أن:
-الديمقراطية: هي سلطة الشعب أو بتعبير تحليلي موجز (سلطة الإنسان).
– الإسـلام: هو الخضوع لله – تعالى – أو بتعبير تحليلي موجز (خضوع الإنسان).
«فهل يوجد وجه مقارنة بينهما بعد هذا التبسيط؟ أي وجه مقارنة بين مفهوم سياسي يفيد مجمله تقرير (سلطة الإنسان) في نظام اجتماعي معـين، وبين مفهوم ميتافيزيقي يفيد مجمله تقرير (خضوع الإنسان) إلى سلطة الله في هذا النظام أو غيره.
هـكذا ينتهي الأمر فيمـا يبـدو إلى مناقضة أو ما يشبه المناقضة» (ص 136).
فهذا التبسيط للمفهومين والذي يرتكز أساسا على الجوانب اللغوية، يزيد من أثر المقارنة بينهما صعوبة… والصعوبة – كما يقرر بن نبي -«ليست نتيجة الواقع الذي يدل عليه كلا المصطلحين، بل إنها تنتج من كيفية تعبيرنا عن هذا الواقع»
وهذه ملاحظـة في غـاية الأهمية، ذلك أننا حينما نأخذ مصطلحا أو مفهوما ونغفل عن ظروف نشأته الزمانية والمكانية، نكون في الحقيقة قد ابتعدنا عن جوهر ذلك المفهوم، وعرضنا أحد تجلياته في الواقع في لحظة زمانية وحدود مكانية معينة، بمعنى أننا لن نعبر عن المفهوم كما هو في شكله المجرد الذي قد يصلح لكل زمان ولكل بيئة، وإنما سنأخذ أحد نماذجه التطبيقية في زمان وبيئة محددين… وهذا ما حدث -مثلا- للأحزاب اليسارية حينما أخذت التجربة السوفياتية كنموذج أرادت استنساخه، فباءت بالفشل؛ لأنهـا لم تتعامل مع النظرية الاشـتراكية أو الماركسية، وإنما تعاملت مع إحدى تجلياتها وتطبيقاتها في واقع يختلف عن واقع الشعوب العربية، وهو ما يحدث أيضا لدعاة الحداثة في سعيهم في نقل الصورة الحداثية للمجتمع الغربي ومحاولة تطبيقها على المجتمع العربي، فلا غرابة بعد ذلك أن تبوء تلكم التجـارب والمحـاولات بالفشل، لأنها لم تتعامل مع المفاهيم وإنما تعاملت مع (تعبيرات) عن تلك المفاهيم.
فبن نبي وهو يتحدث عن الديمقراطية في بداية الستينيات، نبه إلى هذا الأمر، وهو أننا لا ينبغي أن نتعامل مع الديمقراطية انطلاقا من المفهوم اللغوي الذي تطرحه القواميس الغربية، لأن المفهوم في هذا المستوى مشبع بروح التجربة الغربية أو الفرنسية على وجه الخصوص… فنحن حينما نقول الديمقراطية هي حكم الشعب أو سلطة الشعب أو الإنسان فهذا التحديد اللغوي «مرتبط بتقاليد الثورة الفرنسية، حيث يعتبر هذا المصطلح من إنتاجها اللغوي في هذا العصر» ( ص137).
2– الديمقراطية… أسس وشروط:
لئن كان المستوى اللغوي في تحديد المفهوم لا يفي بالغرض، فإن بن نبي يضع أمامنا مستوى آخر يراه كفيلا بإثراء النقاش وجعل المقارنة بين (الديمقراطية) و(الإسلام) أمرا ممكنا.
هذا المستوى – كما أشرنا من قبل – يتمثل في تجاوز التحديد اللغوي وعدم جعل المصطلح الثاني مقياسا للأول، وإنما علينا أن نتعامل مع كل مصطلح بشكل مجرد، في إطاره العام دون تحديد مسبق، يقول: «ينبغي علينا في الواقع أن نعيد الكرة في تحديد الديمقراطية، ونحددها دون ربطها مسبقا بأي موضوع آخر كالإسلام، فننظر إليها على أعم وجوهها، أي في إطار عمومياتها قبل أن نربط الموضوع بأي مقياس مسبق» (ص137).
فهذا الإجراء يعزز من موضوعية الباحث ويمكنه من الوصول إلى حقيقة (المفهوم)، دون أن يقف التحديد اللغوي المرتبط بزمان النشأة ومكانها، حائلا بينه وبين مبتغاه، ودون أن يجعله التحديد المسبق يقفز على الحقيقة إما بالرفض وإما بالتأويل وإما بالتلفيق، وهي آليات المنظومات الفكرية المغلقة التي لا تكاد تفتح في بنيانها نافذة لشعاع آخر يأتيها من الخارج، وأنى لها ذلك وهي على يقين من أن ما عداها ظلام في ظلام!!
وبناء على ذلك، فالديمقراطية لا يمكن اختصارها في عبارة (سلطة الشعب/الإنسان)، وإنما ينظر إلى جوهرها الذي يتحدد من خلال ثلاثة وجوه، هي:
1- الديمقراطية كشعور نحو (الأنا).
2- الديمقراطية كشعور نحو (الآخرين).
3- الديمقراطية كمجموعة من الشروط الاجتماعية والسياسية اللازمة لتكوين وتنمية هذا الشعور في الفرد.
«فهذه الوجوه الثلاثة تتضمن بالفعل مقتضيات الديمقراطية (الذاتية) و(الموضوعية)، أي كل الاستعدادات النفسية التي يقوم عليها الشعور الديمقـراطي، والعـدة التي يستند عليها النظـام الديمقراطي في المجتمع… فلا يمكن أن تتحقق الديمقراطية كواقع سياسي إن لم تكن شروطها متوفرة في بناء الشخصية وفي العادات والتقاليد القائمة في البلد» (ص137).
فبن نبي هنا يضع يده على موطن الخلل في المحاولات التي عرفها العالم العربي والإسلامي لبناء الديمقراطية، إذ هو خلل (معرفي) يكمن أساسا في التحديد الأولي لمفهوم الديمقراطية.
فنحن حينما تعاملنا معها من منطلق أنها (حكم الشعب)، لم نتجاوز هذا المستوى لطرح السؤال عن مفهوم (الحكم) ومفهوم (الشعب)، وعن كيفية هذا (الحكم) الذي يمارسه (الشعب)، وإنما استسلمنا لبريق الشعارات غافلين عن الأسس الحقيقية لتجسيدها على أرض الواقع، وكأنما رفعنا تلكم الشعارات لنلهو بها كما يلهو الأطفال وهو يقـلدون الكبار في لعبة الحياة، ثم ينصرفون عن لهوهم إلى لهو آخر!
فالديمقراطية -كما يرى بن نبي- تنطلق من الذات شعورا، كما تتفاعل مع الآخرين شعورا أيضا، ولا يُكتفى فيها بذلك حتى نلحق ذلك الشعور بضمانات اجتماعية وسياسية تعززه وتنميه في ذات الفرد.
ولكي تتحول الديمقراطية أيضا إلى واقع سياسي، يجب أن تتوفر شروط (ذاتية) وأخرى (موضوعية)، ولنا أن نسأل عن ذلك الشعور وعن تلكم الشروط، فنجد الجواب عند بن نبي كما يلي:
– الديمقراطية شعور قبل أن تكون ممارسة، بل لا يمكن أن تكون هناك ممارسة ديمقراطية -كواقع سياسي- إن لم تسبق بشعور ديمقراطي يتحرك في كيان الفرد ويمازج أفكاره «وهذا الشـعور بالديمقراطية مقيد بشروط معينة لا يتحقق بدونها، وهذه الشروط ليست من وضع الطبيعة ولا من مقتضيات النظام الطبيعي، على خلاف ما كانت تتصوره الفلسفة الرومانتيكية في عهد جان جاك روسو، بل هي خلاصة ثقافة معينة وتتويج لحركة الإنسانيات وتقدير جديد لقيمة الإنسان، تقديره لنفسه وتقديره للآخرين.
فالشعور الديمقراطي هو نتيجة لهذه الحركة عبر القرون، ولهذا التقدير المزدوج لقيمة الإنسان» (ص137-138).
هذا النص يوصلنا إلى نقطتين مهمتين:
الأولى: أن الشعور الديمقراطي يُكتسب عبر حركة في واقع الحياة، والحركة تقتضي بذل الجهد لإحداث التغيير، ومن ثمة لا يمكن أن نتصور وجود هذا الشعور في الفرد مصادفة، أو بمقتضى التغير غير الواعي للظروف، كأن يكون الإنسان في مرحلة تاريخية (كالاستعمار مثلا)، ثم يدخل مرحلة تاريخية أخرى (كالاستقلال).
فالمسألة ليست تغيراً آليا، وإنما هي نتيجة عمل دؤوب وواع، قد يمتد قرونا عديـدة، يبدأ فيها هـذا الشعور صغيرا ثم ينمو إلى أن يصل إلى مرحلة الاكتمال، فَيُخْرج للواقع إنسانا جديدا قادرا على بناء الديمقراطية كواقع سياسي.
وهذه الحقيقة يدلل عليها بن نبي من خلال استحضار النموذج الغربي، فهو يرى أن الديمقراطية الغربية لا تُفهم حقيقة إلا إذا عدنا إلى أصولها الأولى، ووقفنا مع الشعور الديمقراطي في بداياته البسيطة، قبل أن نقف مبهورين مع ما أنجزته هذه التجربة في الواقع السياسي والاجتماعي للإنسان الغربي… فالمرحلة الممتدة من نهاية الإمبراطورية الرومانية إلى قيام الثورة الفرنسية، كلها كانت مرحلة تخلق ونشوء لذلك الشعور الديمقراطي لدى الإنسان الغربي.
فتصفح تاريخ تلك الرحلة – كما يقول بن نبي – «يبين كم كانت أصول الديمقراطية الغربية بعيدة وبسيطة، وكيف تكون الشعور الديمقراطي ببطء، قبل أن يتفجر بالتالي في التصريح بحقوق الإنسان والمواطن، ذلك التصريح الذي يعبر عن التقويم الجديد للإنسان وعن التتويج الأسطوري والسياسي للثورة الفرنسية».
وهذا الشعور لم يأت ثمرة مصادفة غير واعية، وإنما «كان النتيجة والمآل الطبيعي لحركة الإصلاح والنهضة، فهذا هو معناه التاريخي الصحيح» .
فإذا تجـاوزنا التجـربة الغربية وما تحمله من خصوصيات، وجدنا مالك بن نبي يعطي لفكرته تلك، صيغة القانون، (وهو أن كل شعور ديمقراطي إنما نتج عن عمل اجتماعي واع، وحركة تنقل الإنسان من وضع إلى آخر، فتعيد تقييمه وتهيئته لإنتاج واقعه الجديد).
يقول: «القانون العام بالنسبة لطبيعة الشعور الديمقراطي، سواء في أوروبا أو في بلد آخر، هو أن هذا الشعور نتيجة لاطراد اجتماعي معين، فهو بالمصطلح النفسي، الحد الوسط بين طرفين كل منهما يمثل نقيضا بالنسبة للآخر، النقيض المعبر عن نفسية وشعور العبد المسكين من ناحية، والنقيض الذي يعبر عن نفسية وشعور المستعبد المستبد من ناحية أخرى».

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Bu məqalədə, Pin-up Casino-nun daha əla bonusları haqqında danışacağıq və nəyin sizi gözləyə biləcəyini təsvir edəcəyik. bunun sayəsində Nedeni ise reklam alanların deneme bonusu vermediğini bir çok kez denk geldiğimizi biliyoruz. pul üçün Buna görə hər hansı vahid platformada bunu izləyən bir internet kullan? pin up mərc Kazino kataloqlarında təqdim olunan Pin Up casino seyrək rəngarəng slot maşınları demo rejimində işə salına bilər. etmək imkanı