الدولة البورقيبية ”الحديثة” تتعرى في جلسة الاستماع .. بقلم أبو مـــازن

لعل ما روي البارحة على لسان أمهات الشهداء وفي الشهادة الحية للمثقف سامي براهم مؤلم جدا و صادم لعدد هام من أهل البلد. لقد أزاح اللثام على الممنوع من الكلام فتمرد على السكوت القصري والسكون الرهيب ليتلألأ النضال في أبهى صوره و يصدم بلد الثورة لعلها تثوب الى رشدها فتعلم أن المسار الانتقالي طويل وان الجراح لازالت تنزف رغم الضمائد المتعددة و الأدوية المسكوبة كما اتفق. ولكن رواية المهندس المعارض السياسي و المناضل اليساري جلبار نقاش كانت أكثر وقعا على نفسي لعديد الأسباب لاسيما وأن معظم نضاله كان غداة الاستقلال وأيام بناء الدولة الحديثة المزعومة، يوم جمعوا القمّل من رؤوس البشر وعوّضوه بالذل والمهانة و الاستعباد و التركيع لكل من لا يطبّل لحضرة الدولة البورقيبية.

ليت القمّل عمّر في رؤوس الناس لأنه سيزول في آخر المطاف لو أدركته أظافرهم أو “الفلاية” ولكن ألم الدولة الحديثة المزعومة كان ولا زال عائقا أمام طباع وعوائد ما كانت في أهل شمال افريقية اللوبية القرطاجية الاسلامية الأغلبية الحفصية العثمانية الحسنية المستقلة. جلبار وهو التونسي من أصل يهودي و المتحصل على شهادة الهندسة الفلاحية من معاهد فرنسا والذي راود الدولة الحديثة ليعمل لصالحها ابان الاستقلال مستغنيا بذلك على كل ما تقدمه فرنسا والكيان الصهيوني من مغريات لأجل الهجرة، وجد صدا رهيبا امام تونسة الفلاحة و تونسة الأساليب فاعلمنا أن الاستعمار وسياساته مستمرة بعد الاستقلال رغم وجود “الادراة” التونسية التي كانت تكتفي بمجرد الامضاء. تحدث الرجل عن مجال خبرته فبيّن اشكالات المياه والري والسدود التي تعوق الانتاج آنذاك ولكن الدولة البورقيبية الغبية آثرت المستورد من الأفكار الذي يصب في صالح مواصلة الاستعمار و الرعاية الفرنسية لثروات البلاد من ماء وملح و فسفاط وبترول وغيرها مما حباه الله لهذه الأرض الطيبة.
تحدث عن خطأ يوم الجلاء الذي راح ضحيته آلاف الأرواح فسكبت الدماء الزكية في كامل بنزرت. كان الزعيم الأوحد يومها مغرورا مغمورا بعدم تكافئ موازين القوى بين جيش تونسي ناشئ لم يمض على تأسيسه سوى خمسة سنوات و بين أحد أكبر جيوش العالم آنذاك لا سيما وأن عملية الاستقلال الفعلي التدريجي ماضية بخطى بطيئة. لعلها كانت فرصة للتخلص من الخصوم الذين لم تطلهم يد الاغتيال الغادرة او لقطع الطريق امام عتاد وعدّة المتململين السياسيين و مرافقي بورقيبة في كفاح التحرير. لقد كان بورقيبة رحمه الله برغماتيا كما قال جلبار لا يتوانى على التنقل من طريقة الى طريقة ومن فكرة الى فكرة و من سياسة الى سياسة غايته البقاء في الحكم والظهور بمظهر المنقذ لهذا الوطن في كل مرة رغم تعدد الكبوات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية و رغم حملات التصفية انطلاقا من نفي بن يوسف و اعدامات 62 و فركة التعاضد الغبية الذي تحمّل ضريبتها بن صالح.
جلبار لم يهمل في شهادته التي قدّمها بالفرنسية في اشارة الى بقاء التسلط الاستعماري على تونس الى اليوم، نشأة التعذيب في الجمهورية “الحديثة” والذي مورس دون هوادة على من دبّ وهبّ وكل من فتح فاه معلنا فكرة مغايرة لفكر الرئيس او أومأ برأسه رافضا توجيهاته “الحكيمة”. التعذيب الذي جمع بين وحشية المعمّر و قلة أدب أبناء البلد حتى صارت طريقة تونسية خالصة استعملت لعقود في سراديب النظام و في زنزاناته وفي السجون وحتى في الشارع على أعين الناس، سب وشتم واهانة للوادين و للجلالة فصرفاق ثم جرّ و سحل الى اقبية التعذيب أين يتجرد التونسي من كرامته و يتجرد الجلاد من انسانيته فيعترف دون أن يذنب ويمضي دون أن يمسك القلم ويسجن ما شاء الرئيس أن يسجنه ثم يناله العفو الخاص او العام لأيام قليلة تضبط فيها اقامته كامل اليوم ثم يعود الى أن تفنيه السجون او “يؤمن” بالفكر البورقيبي الأوحد.
جراح تونس لن تندمل لا سيما وانها لازالت تعالج أزمة الحريات بعد ستين سنة من الاستقلال. ستون سنة كانت كافية لعديد شعوب العالم الثالث لمّا احترمت الانسان وذاته أولا ثم بنت دولة عصرية ساد فيها التعليم والعناية بالمواطن ثم الاقبال على عالم المعرفة ونقل التكنولوجيا. الأمثلة عديدة ولا فائدة في ذكرها حتى لا يزداد الألم، ألم فاق ألم القمّل الذي ترك رؤوسنا ليعمّر في ما سواه فيطيل المقام ويكون حاجزا ضد التقدم و بناء الدولة العصرية الحقيقية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *