التطورات الجيوسياسية في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا : إلى أين ؟ .. بقلم صالح الحامدي

تمهيد :

قد يكون من المفيد في مفتتح هذا العرض الإشارة إلى أن جذور الأحداث والتطورات التي تعرفها المنطقة اليوم ومنذ التسعينات بالخصوص تعود إلى بداية الخمسينات من القرن الماضي عندما أطلق الجيوستراتيجي البريطاني بارنارد لويس نظريته حول ” صراع الحضارات ” معتبرا أن العلاقات مع منطقة الشرق الأوسط لا تسودها خلافات بين دول أو أمم وإنما “صراع بين حضارتين” ( الحضارة الإسلامية والديمقراطية الغربية ) ومؤكدا على أن ” الإسلام بطبيعته هو العدو الذي يجب صرعه “, وفي سبيل ذلك أعد لويس مخططه المعروف ب ” تقسيم المقسم وتجزئة المجزأ ” بهدف إعادة صياغة ما يعرف باتفاقية “سايكس- بيكو” لسنة 1916 بين بريطانيا وفرنسا التي قسمت إرث الدولة العثمانية في المشرق العربي إلى دول وكيانات تم وضعها تحت ما سمي بالانتداب البريطاني والانتداب الفرنسي ومهدت لخلق الكيان الاسرائيلي على أرض فلسطين بواسطة “وعد بلفور المشؤوم” , ويهدف المشروع إلى بلقنة المنطقة الممتدة من الشرق الأدنى إلى شبه القارة الهندية لإقامة دويلات على أساس هويات قبلية وإثنية وذلك من خلال العمل على تغيير الأنظمة وتقسيم الدول واللجوء إلى الحرب عند الاقتضاء , وفي ذلك السياق كانت الحرب في السبعينات من أجل تقسيم لبنان كما نظر لها كيسنجر في مدارج هارفارد في سيره على خطى لويس الذي نص مخططه على حرب ضد إيران وضد العراق لإشعال نار الفتنة بين الشيعة والسنة وبين المسلمين المعتدلين والجماعات الأصولية ولتحفيز الحركات الانفصالية في كردستان على الانتفاض ضد الأنظمة القائمة , وبعد انهيار الاتحاد السوفياتي واندثار القطبية الثنائية في أواخر الثمانينات وانطلاق عنان الأحادية القطبية الأميركية وبانتقاله للولايات المتحدة نشر لويس في سبتمبر 1990 مقالا بمجلة (أطلنتيك مونثلي) تحت عنوان ” جذور الكلب الإسلامي ” للتذكير بنظريته حول صراع الحضارات تاركا المجال لتلميذه ( صمويل هنتينجتن ) لطرحها من جديد في سنة 1993 على أعمدة مجلة (فورين أفارز) بهدف ” شيطنة الإسلام ” بإبراز “إساءاته وأخطاره على بقاء الغرب من خلال “نشر المفاهيم المتوازية بين الجهاد والحملات الصليبية”, وفي الأثناء دخل الأميركي (فرنسيس فوكوياما) من أصل ياباني على الخط للتنظير “لنهاية التاريخ” على خلفية نهاية الحرب الباردة بانتصار نموذج “الديمقراطية الليبيرالية” على الإيديولوجيات السياسية

الأخرى وانطلق في الترويج لفلسفته مؤكدا على ضرورة أن يقتنع العالم بأن لا مجال في المستقبل سوى لاعتماد ” الليبيرالية السياسية والاقتصادية ” في إطار “نظام عالمي جديد” يقوم على الأحادية القطبية بزعامة القوة العظمى للولايات المتحدة .

من الشرق الأوسط الجديد إلى الربيع العربي :

وفي غياب قوى مضادة لهذا التوجه فتح الباب أمام المشاريع الاستراتيجية الجاهزة منذ زمان ومن ضمنها التخطيط لإقامة ” شرق أوسط جديد ” يؤمن المصالح الحيوية لأميركا وللدول الغربية الحليفة ويحافظ على أمن إسرائيل , وفي سبيل ذلك أقيمت الحروب في لبنان وفي الصومال وبين العراق وإيران وفي أفغانستان ثم اندلعت الحرب على العراق بعد توريط نظامها في احتلال الكويت واتهامه بامتلاك الأسلحة النووية, وبامتداد الحرب العراقية دخلت التنظيمات المتطرفة والجماعات الإرهابية على الخط ثم اندلعت الانتفاضات العربية لتتوسع الحرب إلى سوريا وليبيا واليمن, وقد تتمدد الأحداث مستقبلا إلى مناطق أخرى بالمغرب العربي وبجنوب الساحل الصحراوي في إطار “حرب المصالح” تحت غطاء “الحرب على الإرهاب” .

وبتكوين تحالف عسكري عربي-غربي تم تدمير وتشريد القوات العراقية الغازية للكويت ثم اندلعت الحرب ضد العراق بقوات غربية بقيادة الولايات المتحدة آلت إلى احتلال بلاد الرافدين ووضعها تحت الحكم العسكري بقيادة (بريمر) الذي بادر بحل الجيش العراقي وحل حزب البعث, وجرت محاكمة للنظام السابق قضت بإعدام الرئيس صدام حسين وبعض أعضاده وأججت الفتنة بين أبناء الوطن الواحد من سنة وشيعة وأقليات أخرى وخطط لتقسيم البلاد إلى ما لا يقل عن ثلاثة أقاليم ( سنة وشيعة وأكراد ) على أسس طائفية وإيديولوجية وعرقية, وفي الأثناء حصلت أحداث 11 سبتمبر 2001 كرد انتقامي من طرف عناصر منتمية لحركات دينية متشددة ضد الولايات المتحدة فاستغلتها لتشديد قبضتها على من اعتبرتهم ” أعداء للحرية وللديمقراطية ” من الجماعات المتطرفة وممن سمتهم بالدول “المارقة” وصنفتهم بالإرهابيين لتشهر حربها المفتوحة بالمنطقة بمساعدة لوجستية من بعض الدول “الإقليمية”, وبتنظيم انتخابات قيل أنها ديمقراطية آل الحكم إلى الطائفة الشيعية وتم التصالح مع إيران فظهرت نزعة انتقامية ضد السنة ولدت ردود أفعال متفرقة سرعان ما تطورت إلى عمليات منظمة ضد الشيعة وضد القوات الأجنبية , وازدادت الأوضاع تفاقما وتعقيدا بدخول الجماعات الدينية المتشددة من القاعدة وروافدها على الساحة , وبشعورها بعدم التمكن من التحكم في الأوضاع وبحسابات سياسية غير معلنة تركت القوات الأجنبية الساحة العراقية على تفككها الشعبي والطائفي وعلى فتنتها وانفلاتها الأمني وانسحبت دون أن تتخلى الإدارة الأمريكية عن خياراتها الاستراتيجية في المنطقة الهادفة إلى إقامة شرق أوسط جديد على أساس سايكس- بيكو جديد يعيد رسم الحدود حسب

اعتبارات طائفية وعرقية ويؤسس لدويلات وكيانات ضعيفة ومتصارعة فيما بينها استئناسا بمخطط (برنارد لويس) حول تقسيم “المقسم” وتجزئة “المجزأ” .

وفي سنة 2011 فوجئ العالم بتفجر الانتفاضات أو الثورات العربية ضد الأنظمة الحاكمة انطلاقا من تونس وسرعان ما انتقلت إلى ليبيا ومصر وسوريا واليمن فاغتنمت القوى الكبرى الفرصة للركوب بسرعة على الأحداث وكأنها كانت مهيأة لها أو “مخططة” لها وساندتها سياسيا ونعتتها “بالربيع العربي”, ويبدو أن الأمر كان محل تفكير منذ التسعينات في حلقات مغلقة داخل معاهد الدراسات الاستراتيجية الاستشرافية الأميركية حول مستقبل الأنظمة العربية “المهترئة” ولم تكن إسرائيل غائبة عن هذا الاستشراف بل ساهمت بدراسة في الموضوع أعدها مفكرون عسكريون من حزب الليكود حول (نهاية القرن عشرين وبداية القرن واحد وعشرين) ونظرت “لحتمية” العمل على تغيير الأنظمة العربية المهترئة حسب أجندة طويلة على مدى 25 إلى 35 سنة , ويبدو أن البداية في تنفيذ هكذا خطة كانت من الجزائر التي شهدت أولى الانتفاضات العربية من خلال “عشرية الدم” التي أطلقتها “جبهة الإنقاذ” وتم القضاء عليها بعد جهد كبير .

وبينما خفتت نار الانتفاضة في تونس بعد أقل من شهر من اندلاعها بسقوط النظام السابق ولجوء رئيسه إلى الخارج وبعد فترة انتقالية تم انتخاب مجلس تأسيسي سن دستورا جديدا للبلاد وقانونا للعدالة الانتقالية وأخذت الأوضاع تميل إلى الاستقرار خاصة بعد تنظيم انتخابات حرة وديمقراطية وانطلقت الدولة في مرحلة إعادة البناء في مناخ سياسي وأمني واقتصادي واجتماعي لا يخلو من مظاهر الهشاشة, وبينما عالجت مصر أوضاعها بما يشبه ” انتفاضة مضادة ” عن طريق الانتخاب آلت إلى إفراز حكومة جديدة بزعامة رئيس جديد من قواد الجيش أزاحت حكومة الإخوان المسلمين المنتخبة , وفي حين تواصل كل من تونس ومصر تصديها إلى الجماعات المتشددة الإرهابية بكلفة عالية من الضحايا والعتاد انغمست ليبيا وسوريا واليمن في حروب وفتن مدمرة وازدادت الأوضاع خطورة وتعقيدا في سوريا والعراق بظهور ما يسمى “بتنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام” وإعلانها “دولة الخلافة” وعاصمتها الموصل وتدخلها بقوة في الحرب السورية كطرف فاعل ضد النظام وضد بعض الفصائل الأخرى المتحاربة ثم ضد القوى الغربية التي انغمست في الأحداث ولم تبد رغبة حقيقية في إطفاء نار الحرب التي أشعلتها منذ تدخلها في العراق , ولئن تهاوت الأنظمة السابقة باستثناء النظام السوري تحت وطأة الانتفاضات الشعبية فإن المشهد السياسي في الدول المعنية وخاصة سوريا وليبيا واليمن تغلب عليه الحروب والفتن الأهلية ويفتقد إلى الاستقرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي فضلا عن تبخر الحلم بالحرية والكرامة والديمقراطية .

وتتسارع الأحداث بصورة مطردة وتتطور معها جيوسياسية المنطقة بحكم تشابك المصالح وتغير التحالفات وبروز طموحات إقليمية جديدة لدى بعض الدول الفاعلة على الساحة , وفي حين استعر الصراع بين إيران والمملكة العربية السعودية على خلفية الموقف من الحرب الداخلية الجارية في اليمن استغلت روسيا الضبابية والتذبذب والتردد السائد في المنطقة لتدخل على الخط بطلب من النظام السوري وبتنسيق مع إيران والعراق وتأييد من الصين , وبعد أكثر من سنة على تدخل الدب الروسي بترسانته العسكرية الجوية والبحرية زادت الأوضاع تفاقما, وأسوأ مؤشر على ذلك ما يجري منذ فترة من تدمير في مدينة حلب بصورة خاصة وفي الرقة تحت مظلة التدخل الروسي بالتوازي مع حرب تحرير الموصل بمساعدة التحالف الغربي , وفي نفس السياق لا تخفي تركيا نواياها بل رغبتها في التدخل بشمال العراق وشرق سوريا بخلفيات تاريخية وفي علاقة بطموحات الأكراد في تكوين دولتهم المستقلة على المثلث المتاخم لسوريا والعراق وإيران لأخذ ثأرهم من اتفاقية سايكس- بيكو التي حرمتهم من كيانهم الجغرافي التاريخي , كل ذلك وما يسمى بالمجتمع الدولي الذي تورط أكبر مكونيه في الوضع السائد يقف غير مبال أو عاجزا عن القيام بدوره عبر الأمم المتحدة وبالذات من خلال مجلس الأمن الذي أصبح عاجزا عن ممارسة صلاحياته في المحافظة على الأمن والسلم الدوليين بسبب الاستعمال المفرط لحق النقض , بل أن منظومة الأمم المتحدة التي سبق وأن أصدرت سنة 1996 ما سمي “بإعلان التسامح الأممي” أصبحت تستغل من طرف الدول الكبرى للتحكم في العلاقات الدولية من خلال تقنين “حق التدخل الشرعي” على حساب مبدأ “عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول” لإضفاء “الشرعية الدولية” على الحروب التي تخوضها في بلدان المنطقة العربية.

الآفاق في العراق وسوريا لا تزال غامضة والنهاية لا تبدو قريبة وكل الفرضيات تبقى قائمة بما في ذلك فرضية التقسيم وقد نرى في المستقبل عراقا مفككا وربما سوريا جديدة غير التي نعرف , واليمن هي كذلك مرشحة إلى إعادة التقسيم بين الشمال والجنوب كما وقع في السودان التي قد تشهد في المستقبل ولادة دولة ثالثة في الجزء الشرقي , وفي ليبيا خصوصا لم يستقر الأمر بعد إلى حكومة الوفاق الوطني المدعومة من الأمم المتحدة بينما تستمر المعارك على أشدها في مدينة سرت وفي مناطق أخرى من البلاد والأزمة فيها لا تزال تراوح مكانها في غياب أي توجه نحو الوئام والتوافق من أجل الوحدة الوطنية وفي مناخ يتسم بعدم الاستقرار والانفلات الأمني .

آفاق جيوسياسية غير مطمئنة :

في خضم هذه الأوضاع المضطربة أصبحت جيوسياسية المنطقة مسرحا لتطورات متسارعة ومفتوحة على كل الفرضيات بحكم عولمة الأحداث الدائرة بها منذ سنوات على خلفية “الحرب ضد الإرهاب” والقوى العظمى تبدوا ميالة إلى تمديدها في الزمان وفي

المكان طبقا لمخططاتها الاستراتيجية غير عابئة بانعكاساتها الوخيمة سياسيا وأمنيا واقتصاديا على استقرار المنطقة بأكملها بما يجعل الدول المعنية في مواجهة صعبة مع تحديات جيوستراتيجية كبيرة مفروضة عليها وستكون غير قادرة على التعاطي الانفرادي معها بنجاح وقد تكون مضطرة إلى تحمل تبعاتها لفترة طويلة.

وفي الوقت الذي تشير فيه بعض التحاليل الإخبارية إلى مظاهر تراجع أداء مقاتلي داعش أمام هجومات الجيش العراقي في الموصل بمشاركة من الأكراد والحشد الشعبي الشيعي أساسا وبدعم عسكري من التحالف الغربي وبمساعدة (غير مرغوب فيها) من الجيش التركي شمالا ومع تواصل القصف الجوي الروسي على حلب , أطل زعيم التنظيم أبو بكر البغدادي مؤخرا على الساحة بخطاب حول آفاق الحرب في الموصل والرقة عمد فيه إلى تعبئة وتحشيد الطائفة السنية عامة وأنصار داعش خاصة وتحريضهم لمواصلة “الثورة” على الحكومات العربية والإسلامية والتضحية بأرواحهم في سبيل الدفاع عن “دولة الخلافة” مركزا على تحريض مقاتليه من “الانغماسيين” و”الاستشهاديين” ضد من سماهم بالكفار والصليبيين بقوله ” إن الحرب حربكم حولوا ليل الكافرين نهارا واجعلوا دماءهم أنهارا “, ودعا البغدادي لأول مرة مجاهديه وأنصاره إلى تنفيذ عمليات ضد تركيا قائلا “إنها دخلت دائرة جهادكم” ولم ينس المملكة العربية السعودية وأمراءها ولا تنظيم الإخوان المسلمين الذين نعتهم ب(الزنادقة) ولا الفصائل التي تحارب التنظيم ولكن بدون أي إشارة للأكراد ودورهم في الحرب بما قد يوحي بأن في ذلك “مغازلة” لهم في علاقة بخلافاتهم مع دول المنطقة.

وفي إشارة خطيرة إلى مرحلة ما بعد الموصل والرقة (في صورة سقوطهما) خاطب البغدادي سكان الموصل “بالمهاجرين والأنصار” وتحدث عن “الهجرة” إلى ما سماها ب”ولايات الدولة المباركة” في ليبيا ومصر والصومال واليمن وفي ذلك إيحاء بضرورة إعادة الانتشار نحو هذه البلدان لمواصلة “الجهاد” , وإذ يرى عدد من المراقبين الغربيين والعرب أن أيام “الدولة الإسلامية” قد تكون باتت معدودة فالخطر سيبقى قائما لا محالة لأن فرضية تفكك الدولة تبقي على “التنظيم” قائما وفاعلا ليدخل ربما في مرحلة جديدة من العمل السري وذلك مكمن الخطر .

وعلى صعيد آخر تبدو فرضية دخول المنطقة في مرحلة جديدة من الحرب الباردة واردة بعد عودة روسيا إلى الساحة الدولية وتدخلها بقوة في الحرب السورية وظهورها بمظهر الفاعل على الميدان والمتعاطي العنيد على الواجهة الدبلوماسية في مواجهة القوى الغربية كما حدث مؤخرا في مجلس الأمن وحلقات التفاوض حول ما يجري في حلب , وذلك ما يمكن استخلاصه أيضا من محاضرة ألقاها مؤخرا على منبر المعهد التونسي للدراسات الاستراتيجية الخبير الروسي في الاستعلامات الخارجية والاستراتيجي (ليونيد

ريشتنيكوف) وأكد فيها أن روسيا اليوم قد عادت إلى “موقعها الطبيعي” على الساحة الدولية “ولن تغادره أبدا مثلما فعلت في التسعينات من القرن الماضي” ويجب أن تكون لها كلمتها في شؤون العالم ولن يكون بإمكان الولايات المتحدة زحزحتها عن موقعها مهما كانت المحاولات المتكررة , وأشار مدير المعهد الروسي للدراسات بصريح العبارة إلى أن روسيا “على خلاف مع الولايات المتحدة بشأن العديد من سياساتها في المنطقة العربية” وستقف ضد التسلط الأميركي-الغربي على البلدان العربية وهي تعارض تقسيم هذه البلدان مثلما حدث في السودان وفي العراق وما يحدث الآن في سوريا وليبيا , وفي سياق حديثه عن تنظيم داعش قال الخبير الروسي إن القضاء على “الدولة الإسلامية ” أمر ممكن غير أن ما يعيق ذلك هو “أن خصوم سوريا لا يريدون ذلك وإنما همهم الوحيد هو القضاء على بشار الأسد” وروسيا تعتبر حكومة الأسد “حكومة شرعية”, مضيفا أن الصراع ضد التنظيمات الإرهابية صراع مفتوح وأن هذه التنظيمات تشكل خطرا على روسيا, ومع تنبئه بأن تنظيم الدولة سيمنى خلال بضعة أشهر “بهزيمة كبيرة” في سوريا أردف قائلا بأن ذلك “سيؤدي إلى خلق سوريا أخرى في مكان آخر ” , وفيما أشار الاستراتيجي الروسي إلى أن الوضع في الجزائر “سيظل حادا ” ولا بد من الحفاظ على الاستقرار فيها فقد نوه إلى أن ما يدعو إلى الاهتمام بتونس هو “تجربتها المميزة” حيث لم يقع فيها اصطدام بين الإسلام والديمقراطية.

هذه بعض ملامح السياسة الخارجية “لروسيا الجديدة” وهي تسعى من خلالها إلى استرجاع أو تأمين تموقعها في جيوسياسية المنطقة بالقرب من “المياه الدافئة” على سواحل سوريا دفاعا عن مصالحها وهي تؤمن (كغيرها من الدول الكبرى) بأن السياسة والدبلوماسية ترتبطان دائما بالمصالح الاستراتيجية للدول.

لقد جاء هذا الكلام شهرا قبل الإعلان عن فوز (دونالد ترنب ) برئاسة الولايات المتحدة وقد راهن عليه الرئيس (بوتين) أثناء الحملة الانتخابية وكان من أول من هنأه بالنجاح معبرا عن استعداده للتعاون معه في القضايا الدولية, فهل كان ذلك من باب “عدو أعدائي هو صديقي” أو من قبيل “الحس الاستعلاماتي” للرئيس الروسي ربما في علاقة بالأصول البلقانية لقرينة الرئيس الأميركي الجديد ؟ ويبدو أن الرجلين سيلتقيان على مسرح الأحداث في الأشهر القريبة بمنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا كما يظهر ذلك من تصريح لأحد مستشاري ترنب – وليد فارس- قال فيه إن هذا الأخير ينوي تصنيف تنظيم الإخوان المسلمين ” كمنظمة إرهابية ” وهو يعد لخطة لمحاربة تنظيم داعش بمساعدة دول المنطقة العربية خاصة في العراق وسوريا وليبيا وسيعمل بالتعاون مع روسيا في هذه القضية وفي ملف سوريا الذي وعد بمنع تجزئتها, كلام يوحي بما يشبه “الانتفاضة” على سياسة الإدارة الديمقراطية في المنطقة ( ما عدا فيما يخص القضية الفلسطينية التي لا تزال توحد الجمهوريين والديمقراطيين حول الانحياز الأعمى للدولة الصهيونية ) والمتوقع معه

أن الحرب ضد التنظيمات المتشددة وخاصة داعش قد تكون مدمرة وحاسمة في ظل التوافق الأميركي الروسي, ما حدا بالرئيس الأسد التصريح منذ أيام بأن الرئيس ترنب “سيكون حليفا لسوريا (وحتى لإيران وروسيا) إذا حارب الإرهاب”, فهل سيدير الرئيس الجديد ظهره لحلفاء أميركا التقليديين بالمنطقة لإقامة تحالفات جديدة ؟ الأمر يبدو مبدئيا مستبعدا ولكن السؤال يبقى مطروحا في علاقة بالقانون الأميركي الجديد (جاستا) الذي يجيز مقاضاة الدول “الراعية للإرهاب” ومن ضمنها دولا حليفة تقليديا للولايات المتحدة .

ولكن هل لا يوحي كل هذا الكلام بآفاق جديدة للعلاقات الدولية في إطار مرحلة متجددة من الثنائية القطبية الأميركية الروسية وربما في منافسة مع قطب دولي ثالث حول مجموعة الدول الصاعدة (بريكس) ؟ السؤال يبقى مطروحا والجواب مؤجلا مع بقاء الفرضية واردة, والمؤكد أن الصراعات ستتمدد في اتجاه الشرق الأقصى وبالذات بمنطقة جنوب شرق آسيا في إطار تواصل سياسة الاحتواء ضد الصين التي تحيط بها بعض الدول الحليفة لأميركا (اليابان وكوريا الجنوبية وتايوان) والتي لم تستقر سياسة الجوار معها في علاقة بمخلفات الحروب الماضية في حين يبدو أنها أصبحت تستغل “الورقة النووية” لكوريا الشمالية لصالحها وتقف تكتيكيا إلى جانب روسيا في التعاطي مع الولايات المتحدة, فضلا عن تمددها في إفريقيا للتجارة وللاستثمار في الموارد الطبيعية, وعلى هذا الأساس وإذا كان لا مناص من إعادة إحياء الحرب الباردة فسوف لا يكون ذلك على أسس إيديولوجية ولكن على خلفية صراعات أو منافسات بين المصالح بدون أن يؤدي ذلك إلى التصادم المباشر بين الدول الكبرى المتنافسة أو الأقطاب المتصارعة التي ستعرف كيف تتفادى أخطار حرب عالمية ثالثة مدمرة لها وللعالم, بينما ستنال الأضرار الناجمة عن الصراعات المتواصلة الدول والمناطق والشعوب التي تكون فضاء أو مسرحا للتدخلات وللعمليات أكان ذلك بطلب منها أو مفروضا عليها .

التداعيات الجيوسياسية على المنطقة المغاربية :

لا تزال ليبيا نقطة الارتكاز الأساسية في جيوسياسية المنطقة المغاربية وتعاطيها مع تطورات وتداعيات الأحداث الجارية , وعلى الرغم من استمرار تفكك النظام السياسي فيها وعدم استقرار الأمر لصالح حكومة الوفاق الوطني فقد تم تسديد ضربات موجعة لمقاتلي داعش في سرت بمساعدة سلاح الجو الأميركي بما جعل التنظيم في حالة إرباك وتخبط داخلي بحسب الأخبار المتواترة منذ أيام التي تحدثت عن فرار آلاف المقاتلين إلى مناطق الجنوب الليبي والساحل الصحراوي , وتشير التقارير الاخبارية إلى أن التنظيم في ليبيا وربما في تفاعل مع الخطاب التعبوي الأخير للبغدادي سيسعى إلى إعادة تموقعه على أساس استراتيجية جديدة تستغل منطقة الجنوب الغربي من الصحراء الليبية المتاخمة لحدود النيجر والجزائر والقريبة من شمال مالي استعدادا للتمدد نحو مناطق من المغرب العربي

وفي اتجاه العمق الإفريقي جنوب الصحراء بالتنسيق مع جماعات “المرابطون” و “بوكوحرام” وغيرها من الجماعات الأخرى الناشطة في هذه المناطق وذلك للتخطيط لعمليات إرهابية في الفضاء المغاربي وجنوب الساحل الصحراوي وحتى ضد دول شمال المتوسط , وبالطبع ستكون تونس مستهدفة مباشرة أو من خلال الخلايا النائمة التابعة للتنظيم أو للجماعات الأخرى كما ستكون الجزائر مستهدفة رغم تحصنها الأمني وحتى المغرب وموريطانيا أيضا على الرغم من بعدهما الجغرافي نسبيا بالمقارنة مع تونس والجزائر اللذان ينسقان أمنيا فيما بينهما على الحدود الشمالية منذ فترة وعلى الحدود الجنوبية مع ليبيا أين تتولى الجزائر إقامة خندق وجدار ترابي تحسبا لما قد يجد من أحداث خطيرة في علاقة مع ما يتوقع من تنافس على الميدان بين تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي وتنظيم داعش في منطقة الساحل الصحراوي .

وفي إطار تفاعلها مع التطورات الجارية وباعتبارها طرفا فاعلا في الأحداث وإلى جانب إحاطة المنطقة بعديد نقاط المراقبة الاستعلاماتية ونقاط الانطلاق العملياتية خاصة في جنوب إيطاليا وفي مالطا وفي إسبانيا تشير التحاليل والتقارير الإخبارية إلى شروع الدول الغربية المتدخلة في الحرب الحالية بمختلف جبهاتها في إقامة قواعد لها في بلدان جنوب الساحل الصحراوي تأمينا لمصالحها الجيوستراتيجية واستعدادا لمرحلة تحول مرتكز الصراعات مع التنظيمات الإرهابية في غضون الأشهر (أو السنوات) القليلة المقبلة إلى منطقة الساحل الصحراوي المتاخمة لدول المغرب العربي ومنها إلى الدول الإفريقية جنوب الساحل , وفي هذا الإطار تسعى الولايات المتحدة بصورة خاصة إلى مراقبة الوضع في شمال إفريقيا وفي منطقة الساحل بأكملها من خلال قيادتها العسكرية في إفريقيا الغربية (أفريكوم) التي تستخدم جزءا من قاعدة بجنوب المغرب في أنشطة المراقبة الجوية , وذلك حال مالي وبوركينا فاسو أين تحتفظ كل من فرنسا والولايات المتحدة بحضور لافت من الزاوية الاستطلاعية, ويبدو أن النيجر كذلك ستنال نصيبها من الحضور العسكري الغربي استخبراتيا وربما عملياتيا عند الاقتضاء , أما تونس فهي تنفي رسميا وجود قاعدة عسكرية على أراضيها تقلع منها طائرات (درون) الأميركية في اتجاه ليبيا ولكنها تؤكد في المقابل على أن التعاون الأمني بين البلدين على “أعلى مستوى” وهي تطمح إلى مزيد من التعاون مع شركائها ما دام الأمر يتعلق بحماية ترابها وفي تصريح أخير له أقر رئيس الجمهورية بقيام طائرات أميركية بدون طيار بطلعات جوية على الحدود التونسية الليبية بتصريح منه نافيا تمركز الطائرات في الأراضي التونسية .

هذا ما يحيط بالمنطقة المغاربية منذ سنوات وهو أمر واقع لا مناص من التعاطي معه ومن استيعاب أخطاره واستخلاص دروسه حتى تتجنب تجسيد مقاربة تقسيم “المقسم” وتجزئة “المجزأ” في إطار مخطط إعادة رسم خارطة منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا طبقا لأجندات القوى الدولية المعلنة وغير المعلنة, فكل المؤشرات تدل على أن المنطقة

مقبلة على مرحلة حساسة وخطيرة من الناحية الأمنية ومرشحة لتكون مسرحا لمرحلة جديدة من الصراعات الدائرة في ظل تحول نقاط الارتكاز إلى فضاء الساحل الصحراوي مما يحتم على دول المنطقة أن تستنفر كل طاقاتها لمواجهة الأوضاع , وإذ يكاد التعاون والتنسيق في الظرف الحالي يقتصر على تونس والجزائر المؤمنتين بأن أمنهما القومي مشترك فلا مناص من أن يشمل هذا المد التضامني الأمني كل دول المنطقة بدون استثناء بتجاوز الاختلافات القائمة بل وبتوظيفها ضد التهديدات الإرهابية التي تتربص بالمنطقة بأكملها وذلك ببلورة “مقاربة أمنية مغاربية شاملة” للتصدي لظاهرة الإرهاب ومعالجة أسباب انتشارها وللتعاطي المنسق مع التطورات الجيوسياسية المحيطة بالمنطقة وآفاقها غير المطمئنة أمنيا وسياسيا واقتصاديا واجتماعيا .

وفي هذا السياق فإن المصلحة المغاربية الاستراتيجية والتحديات التي تواجهها المنطقة تستوجب بذل المزيد من الجهد لتدارك الفرص الضائعة وتجاوز الأوضاع الراهنة من خلال بذل إرادة سياسية جامعة من أجل مقاومة الإرهاب وتعيد للعمل المغاربي المشترك نفسه ونسقه بهدف رفع تحدي كلفة “اللامغرب” اقتصاديا واجتماعيا بتفعيل الاتفاقيات المبرمة وفي مقدمتها اتفاقية التبادل الحر ومرفقاتها , وبالتأكيد على الأهمية الاستراتيجية للتعاون والتنسيق الأمني فإن المصلحة العليا للمنطقة قد تستدعي التفكير الجدي والتسريع في إنشاء “آلية مغاربية – ساحلية للتعاون والتنسيق الأمني” بمساهمة دول الساحل الصحراوي وربما بالتنسيق مع الأمم المتحدة للاستفادة من خبراتها ومواردها, ويمكن الاستئناس في بلورة هكذا مشروع بالتجربة الصينية-الآسيوية في صلب “منظمة تعاون شنغهاي” التي أنشأتها الصين منذ أكثر من 15 سنة بالتنسيق مع روسيا وبمشاركة جمهوريات آسيا الوسطى بهدف احتواء التنظيمات الدينية المتطرفة والتعاون مع البلدان المعنية من أجل مراقبة تحركاتها والتصدي لها .

الخاتمة :

يبدو أن منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا (مينا) لا تزال مرشحة لكل الاحتمالات وسوف لن تعرف إعادة التوازن والاستقرار والأمن والسلام في قريب الزمان في ظل المخططات الدولية المحيطة بها والمتغيرات الجيوسياسية المتسارعة وإعادة خلط الأوراق سياسيا ودبلوماسيا وعسكريا من فترة لأخرى بما لا يمكن معه التكهن بأي فرضيات قريبة من نهاية النفق , وآخر مستجد على الساحة الدولية والتي ستكون له انعكاسات وتأثيرات هامة على مجرى الأحداث في المنطقة هو فوز الجمهوري (دونالد ترنب) في الانتخابات الرئاسية الأميركية وقد عرف من خلال الحملة الانتخابية بميزاجه المتوتر وبتصريحاته النارية حول القضايا الحساسة داخليا وخارجيا ( الهجرة – المسلمون – الإسلام السياسي-

الإرهاب ) وبالذات في علاقة مع الأوضاع السائدة على الساحة الشرق أوسطية مع تنامي أنشطة التنظيمات المتطرفة الإرهابية وخاصة داعش .

فهل هذا من باب التنظير لإعادة بناء القوة الأميركية في ظل عهد جديد لليمين المتشدد في العالم “الحر” وفي إطار العودة لتجسيد تنظيرات ” صراع الحضارات ” و ” نهاية التاريخ ” أو ” صدام الهمجيات ” (كما ينظر لذلك الأكاديمي اللبناني جلبير الأشقر) ؟ أو هل هي “الإسلاموفوبيا” العنيفة تحت غطاء محاربة “راديكالية الإرهاب الإسلامي” مقابل التشجيع على تشريك “الإسلام المعتدل” في الحكم ؟ وهل سيسير الرئيس الجديد على خطى ريغن وبوش الأب وبوش الإبن في بسط قوة النفوذ الأميركي؟ أم هل ستكون “الهدنة” أو “المداهنة” مع روسيا في التعاطي مع القضايا المطروحة ؟ وهل سيختفي شبح الحرب الباردة بين الدولتين الأعظم ولو لفترة ؟ تساؤلات تبقى مطروحة ولا بد من ترك المجال للوقت وللأحداث للإجابة عنها حتى لا ننسى الفرق بين تصريحات الحملات الانتخابية التعبوية والتعاطي مع الواقع بعد الانتصاب فوق منصة السلطة حيث تكون المصلحة العليا والأمن القومي الأميركي فوق كل اعتبار.

في هذا المناخ الجيوسياسي المتقلب الذي أفرزته الحروب الدائرة في منطقة الشرق العربي وبعد مرور 6 سنوات على الانتفاضات العربية يرى المراقبون أن ما سمي (نفاقا) بالربيع العربي قد يتحول إلى “شتاء عربي” تتجمد فيه أحلام وطموحات الشعوب التي انتفضت ضد الأنظمة الكليانية التي كانت تحكمها وخصوصا الشباب العاطل عن العمل والفئات المهمشة التي ثارت من أجل الكرامة والحرية بما فتح الباب أمام النزعات الطائفية المدعومة من الخارج وبما يثير التساؤل حول ما إذا لم يكن الإرهاب على خطورته الكبرى مجرد “غيض من فيض” يعلو قمة جبل الثلج الذي يجسم استراتيجية “صراع الحضارات”.

وإذ لا تزال ليبيا مفككة وربما مرشحة للانقسام في غياب التوافق بين كافة الفرقاء من أجل الوحدة الوطنية (وهو ما لا نتمناه لها) فإن تونس التي قد بدأت تخط طريقها الجديد نحو بناء وطن حر ديمقراطي بنجاحها في مرحلة الانتقال السياسي وعلى صعوبة أوضاعها أمنيا واقتصاديا واجتماعيا ربما أصبحت تمثل الاستثناء في المنطقة بما أهلها للحصول على جائزة نوبل للسلام في شخص منظمات الحوار الوطني, ومع ذلك يبقى وصفها “بالربيع التونسي” مرتهنا بمدى نجاحها في تأمين استقرارها الأمني والاقتصادي والاجتماعي وفي مجابهة التحديات الجيوسياسية الخطيرة التي تحيط بها من جراء التهديدات الإرهابية والحروب القائمة على خلفيتها وفي عالم لا زالت تقوده العولمة نحو السوق المطلقة, الأمر الذي يتحتم معه المثابرة في كسب رهان المصالحة الشاملة من أجل الوحدة الوطنية لتقوية الجبهة الداخلية سياسيا وأمنيا واقتصاديا واجتماعيا حتى تقوى البلاد على مجابهة كل هاته التحديات . ص.ح.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Bu məqalədə, Pin-up Casino-nun daha əla bonusları haqqında danışacağıq və nəyin sizi gözləyə biləcəyini təsvir edəcəyik. bunun sayəsində Nedeni ise reklam alanların deneme bonusu vermediğini bir çok kez denk geldiğimizi biliyoruz. pul üçün Buna görə hər hansı vahid platformada bunu izləyən bir internet kullan? pin up mərc Kazino kataloqlarında təqdim olunan Pin Up casino seyrək rəngarəng slot maşınları demo rejimində işə salına bilər. etmək imkanı