البنك المركزي يفقر الشعب .. بقلم جنات بن عبد الله

أصدر البنك المركزي التونسي وثيقة بتاريخ 29 جوان 2016 حول “وضعية القطاع الخارجي خلال الأشهر الخمسة الأولى من سنة 2016 والإجراءات العاجلة الضرورية للحد من انزلاق سعر صرف الدينار”.
وقد جاءت هذه الوثيقة تحت ضغط الرأي العام التونسي الذي انتظر الموقف الرسمي بخصوص حالة الدينار إثر دخوله مرحلة الانزلاق بتاريخ 18 ماي 2016 حيث فقد 3 بالمائة من قيمته في ظرف 24 ساعة ليواصل الانزلاق في ظل صمت السلطة النقدية الذي استغرق شهرا كاملا. ولئن انتظر الرأي العام التونسي وبقية الأطراف من مجلس نواب الشعب والحكومة تفسيرات دقيقة وصحيحة حول حقيقة انزلاق سعر صرف الدينار فقد جاءت هذه الوثيقة ملغمة بنصف الحقيقة المرة والخطيرة ليشكل هذا الموقف الرسمي للسلطة النقدية حجة تاريخية على مسؤولية البنك المركزي في حماية عملتنا الوطنية التي أراد الإفلات منها بدعوى صعوبة الوضع السياسي من جهة وقانون العرض والطلب في سوق الصرف من جهة أخرى.
وبعد هذا الصمت الرهيب خرج البنك المركزي بإجراءات ادعى أنها ستحد من انزلاق سعر صرف الدينار في حين أنها لا تعكس الإرادة الحقيقية لحمايته بقدر ما تعتبر “ذر الرماد على الأعين” ومحاولة أخرى للتنصل من المسؤولية أمام ضغط الرأي العام التونسي، حيث أن الحقيقة نجدها في رسالة النوايا التي وجهها الى صندوق النقد الدولي بتاريخ 2 ماي 2016 والتي اعترف فيها الى جانب وزير المالية بأن قيمة الدينار التونسي مبالغ فيها وتعهد بمقتضى النظام الأساسي الجديد للبنك المركزي والذي صادق عليه 72 نائب مؤخرا بترك سعر الصرف يخضع لقانون العرض والطلب في سوق الصرف في ظرف اقتصادي واجتماعي استثنائي لا يتحمل مثل هذا القرار ويضع البنك المركزي في قفص الاتهام بالتخلي عن سيادتنا النقدية.
ومن خلال ما ورد في هذه الوثيقة التاريخية نلاحظ أن البنك المركزي اكتفى بكشف نصف الحقيقة واخفاء أو تجاهل النصف الاخر في محاولة منه لحماية مصالح بعض الأطراف التي وجدت في ضياع السلطة التنفيذية وغيبوبة السلطة التشريعية مدخلا لمواصلة ضرب منظومة الإنتاج الفلاحي والصناعي لتتربع على عرش “الفرنشيس” وتمثيلية الماركات العالمية، واقع تعمل على تكريسه الشركات العالمية التي تتحرك وراء صندوق النقد الدولي والاتحاد الأوروبي على حساب قوت التونسي وفرص العمل في ظرف يتسم بتفاقم نسبة بطالة في صفوف خريجي الجامعات.
ففي مستوى تحليله “لتطور أهم أبواب المدفوعات الخارجية وأسباب تردي وضع المعاملات الخارجية للاقتصاد التونسي” اكتفت الوثيقة بذكر بعض الأسباب دون التعمق فيها، ربما لأنها ليست من مشمولاته الا أن هذا لا يمنعه من التدخل لتحذير الجهات المعنية من مخاطر الوضع وذلك في اطار ما سماه في هذه الوثيقة ب” مساندة السياسة الاقتصادية للدولة”. من هذه الأسباب عن تدهور الميزان التجاري تشير الوثيقة الى “تدهور الميزان الغذائي خلال الخمسة أشهر الأولى من السنة مقارنة بنفس الفترة من سنة 2015 لينتقل من فائض ب 183,2 مليون دينار الى عجز ب 307,5 مليون دينار، هذا التدهور كان منتظرا بالعودة الى أسباب الفائض التي كانت ظرفية ومرتبطة بالهدية الملغمة التي منحها الاتحاد الأوروبي لتونس في اطار استدراج حكام تونس الجدد للدخول الى المفاوضات حول مشروع اتفاق التبادل الحر الشامل والمعمق حيث تم الترفيع في حصة تونس من صادرات زيت الزيتون بصفة استثنائية ولمدة وجيزة لنسقط مرة أخرى في العجز تحت أنظار الجميع في حين يواصل القطاع الفلاحي معاناته من التهميش ومن التعرض للصدمات السلبية بسبب انعدام السياسة الفلاحية الوطنية.
ان عدم ذكر كل الحقيقة المتعلقة بعجز الميزان الغذائي يجعل من البنك المركزي شريكا الى جانب السلطتين التنفيذية والتشريعية في تحمل مسؤولية تدهور الميزان التجاري. من جهة أخرى وفي نفس الباب تتعرض الوثيقة الى “تذبذب صادرات الفسفاط كأحد أسباب تردي الميزان التجاري مشيرا في نفس الوقت الى “الارتفاع الهام لصادرات قطاع المناجم والفسفاط ومشتقاته التي تضاعفت مرتين مقارنة بالخمسة أشهر الأولى من السنة الماضية”. مثل هذا التحليل يخفي هو أيضا حقائق خطيرة بخصوص مداخيل قطاع المناجم والفسفاط ومشتقاته التي ارتفعت صادراته في حين لا نجد أثرا لهذا الارتفاع في ميزان المدفوعات. ومرة أخرى يشترك البنك المركزي الى جانب السلطتين التنفيذية والتشريعية في إخفاء النصف الثاني من الحقيقة المتعلق بعدم اجبار الشركات العالمية المنتصبة في تونس على استرجاع مداخيل صادراتها وذلك بمقتضى القانون الذي لا يجبرها على ذلك … مما يجعل البنك المركزي وشركائه شهود على تهريب مداخيل صادرات ثرواتنا الطبيعية في الوقت الذي كنا ننتظر مراجعة جذرية للقوانين بما يضمن حق الشعب التونسي في ثرواته.
من أسباب تردي وضع الميزان التجاري حسب ذات الوثيقة تطور واردات المواد الاستهلاكية بما فيها واردات السيارات السياحية بنسبة 5,7 بالمائة مقارنة بالخمسة أشهر الأولى من السنة الماضية، والسجائر والسيجار بنسبة 126,8 بالمائة، والملابس المستعملة بنسبة 26,6 بالمائة، والهواتف بنسبة 55,2 بالمائة، والأحذية بنسبة 39,2 بالمائة، والسجاد والأرضيات بنسبة 64,5 بالمائة الى جانب تطور وارداتنا من تركيا بنسبة 13 بالمائة ومن الصين بنسبة 10,4 بالمائة.
هيكلة الواردات كما قدمتها الوثيقة تكشف عن انفلات ممنهج وارادي لواردات بلد لا يبدو أنه يشكو صعوبات مالية بل هو في وضع مريح يسمح له بتوريد الكماليات والقول ان الميزان التجاري يشكو عجزا هو مردود على أصحابه الا في حالة وحيدة تكشف تواطؤ هؤلاء مع لوبيات التوريد الذين انخرطوا في مسار تدمير ما تبقى من نسيجنا الصناعي وخاصة قطاع الملابس والجلود والأحذية، والأرقام أكبر دليل على انعدام الإرادة الحقيقية للحد من التوريد، ومرة أخرى نجد البنك المركزي يخفي نصف الحقيقة لحماية مصالح هذه اللوبيات.
وفي نهاية المطاف فان الإجراءات التي أقرها البنك المركزي للحد من انزلاق الدينار جاءت لمزيد دعم موقع اللوبيات التجارية التي دمرت الصناعة التونسية وغذت السوق الموازية، وتدخل البنك المركزي للحد من انزلاق الدينار ما هو الا الوجه الخفي من سياسة تفقير هذا الشعب وسلبه سيادة قراره في ظل الإصرار على اتباع نفس السياسات الاقتصادية والتجارية والنقدية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *