الباجي قائد السبسي: العالم العربي يسير للهاوية

حاوره صلاح الدين الجورشي
22 فبراير 2016

رغم كثرة أشغاله، رحّب الرئيس التونسي، الباجي قائد السبسي، بالإجابة عن أسئلة “العربي الجديد”. رغبنا في أن يختلف هذا الحوار عن مجمل اللقاءات الإعلامية التي أجراها الرئيس أخيراً. الجانب الشخصي الذي غالباً ما يكون من أسرار الدولة عند رؤساء الدول، فتحه الرئيس التونسي على مصراعيه أمام “العربي الجديد”: علاقته بالراحل الحبيب بورقيبة، وتفاصيل يومه الرئاسي، ودور عائلته في مهامه الرئاسية، وتوصيفه السياسي لنفسه بين يمين ويسار، فضلاً عن رؤيته طبعاً للواقع العربي ومآلاته. جميعها عناوين عريضة يفندها الباجي، مثلما يحلو لكثيرين أن يسموه. يجمع الرجل في شخصه خصائص تجعلك مشدوداً إليه، بدءاً من المظهر الموروث عن جذوره التركية، وأناقة الملبس، وحسن الحديث، وصفاء الذاكرة، مما يجعله يستحضر دائما تجارب الماضي. كما أن السبسي يتمتع بصحة جيدة رغم تجاوزه التسعين عاماً. يعود السر في ذلك إلى نومه باكراً، وحرصه على التوازن في نظامه الغذائي، وإصراره على ممارسة الرياضة فضلاً عن غرامه برياضة المشي يومياً.

* كيف تقضي يومك الرئاسي؟

أستيقظ باكراً، وأصبح في مكتبي عند الثامنة صباحاً، وأعود إلى البيت لتناول الغداء عند الواحدة ظهراً. ونظراً لقرب مكان إقامتي من مكتب العمل، تراني دائماً أستجيب لكل طارئ وأردّ على أي اتصال هاتفي يخصّ نشاطي كرئيس للدولة. وإن لزم الأمر أن أعود مساء إلى المكتب فإني لا أتردد في القيام بذلك. المسألة الأخرى الثابتة في برنامجي اليومي تتعلق بكوني مغرماً بالمطالعة منذ الصغر، وقد بقيت وفياً لهذه العادة حتى الآن، لهذا، رغم مشاغلي الكثيرة، أخصّص على الأقل ساعة كل يوم للقراءة. وعندما كنت أدرس في فرنسا، كنت أنهي حصة المطالعة مع السادسة صباحاً، مع الملاحظ أني لا أذهب إلى أي مكان إلا عند الضرورة، حيث تجدني باستمرار إما في البيت أو في المكتب. ولو تسألني عن آخر مرة غادرت فيها القصر الرئاسي أجيب بأن ذلك حصل عندما ذهبت لزيارة رئيس الحكومة الحبيب الصيد في المستشفى. أفعل ذلك لأخفف من مشقة أولئك الذين يحرسونني. بابي مفتوح لكل من يرغب في مقابلتي، ولهذا خصصت مساحة لذلك تستمر يومياً بين الساعة السادسة والثامنة مساء.

* ما هو الكتاب الذي كنتَ بصدد قراءته خلال الأيام الأخيرة؟
قد لا تصدق عندما أقول لك بأني بصدد قراءة كتاب عن وينستون تشرشل رئيس الحكومة البريطاني. أردت أن أعرف كيف نجح هذا الرجل بمفرده في تغيير موقف العالم تجاهه، وما عاناه من عدم الاعتراف بالجميل، من قبل من أحسن إليهم وساعدهم، والذين نجحوا في إخراجه من اللعبة السياسية. لهذا، أنا شخصياً لا أغترّ بما أنا فيه حالياً، ومستعد دائماً لمواجهة كل الاحتمالات. وعندما كتبت كتابي عن بورقيبة ذكرت فيه ما قلته له ذات مرة: ليس من حقك ألا تعرف أن نكران الجميل هو تكريم الشعوب الكبيرة للرجال العظام. وقد ذكّرته بأشياء قالها من قبل، لكنه للأسف لم يلتزم بها عملياً.

* لماذا كل هذا الوفاء لشخص بورقيبة رغم المشاكل العديدة التي حصلت بينكما؟

بصراحة، وإحقاقاً للحق، تعلمت كل شيء من بورقيبة. عشتُ يتيماً منذ الصغر، مات والدي حين كنت في التاسعة من عمري حيث كنتُ كبير إخوتي وأصغر أشقائي صلاح الدين كان عمره آنذاك أربعين يوماً. للتاريخ أيضاً، بورقيبة هو الذي اختارني ولستُ أنا الذي اخترتُه. أقول هذا بتواضع. كنتُ صديقاً لابنه الذي كان زميلاً لي في الدراسة، بمعهد الصادقية ثم في الجامعة، وكان دائماً يقول لي إن والده مختلف عن السياسيين الآخرين، ولم أصدق مثل هذا الكلام وناقشته فيه. فعندما تحدث مع والده ونقل له موقفي منه ومن عموم السياسيين يومها، قال له بورقيبة آتني به. وفعلاً، عندما التقيت ببورقيبة للمرة الأولى، تغيّرت عقليتي تماماً، ولاحظت أن لديه خاصية لا يملكها غيره. لم يكن رجلاً يحب المال ويلهث وراءه. صدقني عندما أقول لك إن بورقيبة لم يكن يعلم القيمة الحقيقية لوحدة الدينار، هل يصلح لشراء منزل أم علبة سجائر. لقد عاشرته ثلاثين عاماً وليس يوماً أو بضعة أيام، ولم أتخلَّ عنه أبداً. صحيح اختلفتُ معه، ولكنني أشهد بأنه لم يتخلَّ عني. وعندما توالت الهجمات ضدي هو الذي دافع عني. على سبيل المثال، كنت وزيراً للداخلية وانتقلتُ إلى سويسرا والتقيت بالنقابي، أحمد التليلي، في الفترة التي كان بورقيبة غاضباً عليه. بسبب هذا اللقاء، قامت حملة واسعة ضدي قادتها عديد الشخصيات الهامة في الحزب، مثل أحمد بن صالح ومحمد الصياح وغيرهما. وبالرغم من أن مقابلتي لأحمد التليلي كانت بمبادرة مني، إلا أن الرئيس بورقيبة سارع إلى وضع حدّ للهجوم على شخصي، وقال للوزير الأول (رئيس الوزراء) يومها الباهي الأدغم: “قل لهم إني كلفت الباجي بهذه المهمة”، وفعل ذلك دفاعاً عني.

كانت لبورقيبة ثقة في مواهبي، وأذكر أني كنت معه عندما توجهنا إلى المكتب البيضاوي في واشنطن للقاء مع الرئيس الأميركي، رونالد ريغن، وقد أعددتُ له بهذه المناسبة نصاً لخطاب سيلقيه، فنصحه بعض أعضاء الوفد التونسي بإلغاء الفقرات التي تتحدث عن القضية الفلسطينية. وعندما بلغني ذلك، ذهبت إليه وقلت له أنت الرئيس ولست أنا، لكن إذا قبلت بالتخلي عن هذه الفقرات فإن زيارتك ستفقد أي معنى. لم يعلق على ملاحظتي، لكن علمت في ما بعد أنه طلب إعادة الفقرة إلى نص الخطاب، وقال لأعضاء الوفد إنه الباجي قائد السبسي ويعرف ما الذي يفعله. وعندما دخلنا البيت الأبيض، كانت فلسطين أول مسألة تم طرحها عليه من قبل فريق الرئيس ريغن، وهو ما أفرحني كثيراً، لكنها فرحة لم تدم طويلاً لأن الرئيس بورقيبة فاجأني وفاجأ الجميع عندما خاطب الرئيس الأميركي بقوله “سيدي الرئيس أحيل الكلمة لوزير خارجيتي، ليتحدث باسمي عن هذا الموضوع”.
هكذا وجدت نفسي في ورطة، وعندما أتممت إجابتي قال بورقيبة للرئيس الأميركي وأمام الحاضرين: سيدي الرئيس هذا ما كنت سأقوله بالضبط رداً عن سؤالكم.
كانت بيننا علاقة خاصة. لهذا السبب أجد نفسي غير قادر على أن أتخلى عنه. لكن أقول بكل وضوح إنني لست وريثه، ولكنه يبقى رمزاً، ويكفيه فخراً أن رفع تونس إلى السماء.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *