الانتفاضة المسروفة .. بقلم د. إبراهيم جدلة ..

د. إبراهيم جدلة ( كلية الآداب بمنوبة )
منذ عشر سنوات مضت، كانت الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية الحرجة قد أدت إلى موجة من الغضب والاستياء في ولايتي سيدي بوزيد والقصرين فقط. وتواصل هذا الحراك الاجتماعي قرابة الشهر في نفس المنطقة دون غيرها، وكان السند الوحيد لهذه التحركات هم النقابيون فقط، التحق بهم المحامون فيما بعد. وكانت كل التحرّكات متمركزة في هاتين الولايتين إلى حدود التحرّك الضخم في صفاقس تلاه تحرّك مدينة تونس الذي كان أقلّ منه حجما لكنه انتهى برحيل الرئيس السابق وانتهاء نظام حكم دام خمس وخمسين سنة.
للحقيقة والتاريخ كل الولايات والجهات الأخرى لم تشارك في هذه التحركات الأولى، ولم تنطلق فيها التحركات إلاّ بعد يوم 14 جانفي 2011 أو في الأيام الموالية، باستثناء ما وقع في مدينة صفاقس يوم 12 جانفي. وكانت كلها تقريبا تحرّكات شبابيّة، قادها المهمّشون منهم وفاقدي الشغل والغاضبون على الوضع المتردّي الذي وصلت إله بعض الفئات أو الجهات. لم تكن لهم إيديولوجية محددة ولو انّ الشعار السائد هو : ” شغل ، حرّية، كرامة وطنيّة ” وشابت هذ التحركات المشروعة بعض الأعمال الهامشيّة مثل اتجاه البعض إلى حرق مقرّات السيادة أو إلى اقتحام المحال التجاريّة والقباضات الجهوية لنهب التبغ… لم يكن لأيّ حزب دور فيما وقع طيلة شهر ولم يشارك أي حزب بالكتابة او التحريض أو قيادة الجماهير في كل ما وقع باستثناء المناضلين النقابيين الذين ربما كانت للبعض منهم انتماءات حزبيّة. ولا أحد كان ينتظر انهيارا سريعا ومدويا للسلطة القوية القائمة. كانت الانتفاضة محصورة على الأرض في منطقة السباسب، لكنها تنتشر بسرعة في الفضاءات الافتراضيّة. نعم كان فايسبوك من أهم عوامل تصاعد وتيرة المعارضة للنظام. والسبب الرئيسي في ذلك هو تدخل العوامل الخارجية ( من الولايات المتحدة الأمريكية بالذات ) التي حالت دون تمكّن السلطة القائمة بحجب المواقع ومحاصرة المدوّنين كما كان يقع في السابق. ومن هنا شرعت القوى الخارجيّة في الإعداد لسقوط النظام كلّيا لا إصلاحه….انتفاضة …فثورة…فربيع عبريّ بامتياز….وما خلّفته هيلاري كلينتون وما صرّح به ساركوزي بخصوص ليبيا يغنينا عن كل تنظير.. .
كيف كان النظام السابق ولماذا سقط بسهولة؟
منذ الاستقلال وإلى حدود 2011، كان النظام يتميز بالخلط بين الدولة والحزب الحاكم، وكانت الإدارة والاقتصاد والارتقاء الاجتماعي تخضع كلها لآليات هذا الحزب، ولو أنه في الفترة الثانية من حكم بن علي ازدادت المركزة في شخصه، وعلى المراقبة الأمنية للمجتمع، حتى ان التجمّع في حدّ ذاته، فقد العديد من أدواره بما في ذلك اعتباره سلّما اجتماعياّ أو طريقا للوصول إلى الشغل، حتى أن الغضب الشعبي واليأس الاجتماعي أصبح منتشرا لدى أنصاره كما هو الحال بالنسبة لبقية مكوّنات المجتمع. وباختصار شديد الدولة والتجمع أصبحتا مجرّد هرم مصالح ومنافع، أي حزب فاقد للعقيدة. وإذا ما أضفنا تضخيم عدد أنصاره خاصة في المناسبات الانتخابيّة، والبعض منهم لا علاقة له بهذه الهياكل سوى ورقة الانخراط ، نفهم سقوطه السريع بل اندثاره دون أثر يذكر. ولمن يدّعي ان التجمع سيعود فهو واهم لأنّ نمط الحزب- الدولة لن يعود أبدا. والعداء المشطّ للتجمع هو الذي سمح ببروز توجه دفاعي لدى شرائح كثيرة في المجتمع، ربما يرتقي هذا التوجه أحيانا إلى إيديولوجيا تجمّعهم تحت غلاف الدولة الوطنية وإنجازاتها.
كيف تم اختلاس انتفاضة السباسب؟
في جانفي 2011، لم تكن لانتفاضة السباسب برنامج عمل ولا مشروع إصلاح، فقد كانت مجرّد صرخة ضد الظلم وانعدام المساواة بين الفئات والجهات. ولا يوجد على الساحة أي حزب قادر على تأطير الحراك والبلاد. وكانت التجربة والحنكة تعوز المعارضات المختلفة التي ظلت تتخبّط في الاجتماعات والقرارات والحماس والتفكير أحيانا في الانتقام أكثر من التفكير في المحافظة على السلطة. كانت هذه النخب مقطوعة تماما عن الجماهير الشعبيّة، ودخلت في معارك لا تهمّ الشعب ولا البلاد، معارك الهويّة والحداثة المستعجلة، التي جعلتها غريبة عن الشعب وعن الانتفاضة. وجاء ضيوف الانتفاضة من الخارج وتسلموا السلطة على طبق. ساعدهم في ذلك بله بعض الأطراف، وقلّة خبرتهم.
هكذا اختلس الوافدون ثمار انتفاضة السباسب، ودخلت البلاد والعباد في مرحلة بناء ما بعد ” الحزب-الدولة “، مرحلة بناء جديدة يتصارع فيها الجديد مع القديم، بل أن القديم يلبس أحيانا كساء الجديد ليناقض نفسه، أو ليرجع إلى الساحة، وأصبح محرّك الحياة الشياسيّة: الانتماء إلى الثورة أو معاداتها، وخاصة في المدة الأخيرة وبتطوّر الفرز السياسي، كلما ازداد عزل بعض الأطراف إلاّ والتجأت إلى مربّع الثورة لفرض مشروعيّة تاريخيّة مزيّفة، خاصة وقد سبق أن قلنا أن الانتفاضة كانت عفويّة ، وتمّ السطو عليها تباعا من طرف العديد من الأطراف… ودخل الجميع في نفق العنف والعنف المضاد، من أجل الصراع لا من أجل تونس وشعبها بل من أجل السلطة والثروة. انتقلنا من منطق الثوار إلى منطق اللصوص. كان الإرث ثقيلا وليس من السهل التخلص من الزبونية ومن دولة الغنيمة. ومن ثقافة الفساد والإفساد، فرغم تعاقب العديد من الحكومات المختلفة الألوان، فإنها لم تراكم سوى الإخفاق والفشل ن وظلت الخطابات محنّطة وغير واعية بالتحولات السريعة في المجتمع، ممّا أدّى إلى اشتداد الأزمات الاقتصاديّة والاجتماعيّة وظهور الهويات الضيقة وإضعاف الدولة ومؤسساتها…
ماذا ننتظر بعد عشر سنوات من الفشل، وعدم وضوح الرؤيا بالنسبة للمستقبل؟ هل ننتظر أن تغرق السفينة بمن فيها أم نحاول إنقاذ ما يمكن إنقاذه، أمام تراخي وصمت المسؤولين المباشرين، الذين سيطر عليهم الجبن والانتهازيّة وعدم القدرة على التسيير، أصبح الباب مفتوحا للمنتجين ولأرباب العمل ( نقابات العمال ونقابات الأعراف ) لإنقاذ البلاد رغما من الجميع.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *