الإصلاح الإداري وتحدي الفساد في وجه الإقلاع الاقتصادي  .. بقلم عبدالقادر الطرابلسي 

 

باحث اقتصادي

والي الكاف سابقا

مقدمة:

تعني الإدارة العمومية في هذا الإطار تلك الأجهزة الخدماتية المتنوعة لإشباع حاجيات المواطنين باستمرار وانتظام وعلى قدم المساواة تضمن حقوق الأفراد والجماعات، الطبيعيون منهم والاعتباريون، وتسهر بانتظام على إعمال برامج التنمية المجتمعية بكل أبعادها (1)… غير أن الواقع يؤشر إلى تعثر على هذا الصعيد مما جعل من الإصلاح الإداري يتصدر قائمة المطالب الأشد إلحاحا على أمل أن يكون خشبة خلاص ويشكل استجابة لجملة من التحديات ما فتئت تحول دون مساهمة الإدارة الفعالة في عملية الإقلاع الاقتصادي… ففيما تتمثل تلك التحديات؟ وما المراد بالإصلاح الإداري؟ وما هي أهدافه؟ وهل من مقترحات تساهم في إصلاح هذا القطاع؟

أولا: تحديات في وجه الإدارة العمومية 

1- تحدي الفساد الإداري والمالي: 

تعرف منظمة الشفافية الدولية الفساد المالي والإداري بأنه تحريف لسلطة ما لخدمة مصالح خاصة سواء تعلق الأمر بسلطة سياسية أم بسلطة قضائية أو إدارية… كما تعرفه اتفاقية الأمم المتحدة بأنه، التماس موظف عمومي أو قبوله بشكل مباشر أو غير مباشر ميزة غير مستحقة سواء لصالح الموظف نفسه أو لصالح شخص أو كيان آخر، لكي يقوم ذلك الموظف بفعل ما أو يمتنع عن القيام بفعل ما لدى أدائه واجباته الرسمية.

لكن التعريف الأكثر شيوعا للفساد هو ذلك الذي استخدمه البنك الدولي، في تقريره R20060192 بتاريخ31 أكتوبر2006، حيث يعتبره أحد أوجه إدارة الحكم السيّئة وهو يشمل استغلال المنصب العام لتحقيق المكاسب الخاصة… وهذا التعريف يتداخل مع أطروحة صندوق النقد الدولي الذي ينظر إلى الفساد المالي والإداري من حيث أنه علاقة الأيدي الطويلة المتعمدة التي تهدف لاستنتاج الفوائد من هذا السلوك لشخص واحد أو لمجموعة ذات علاقة بالآخرين…

أما على الصعيد التونسي، فيعرفه، المرسوم الإطاري عدد 120 لسنة 2011 المؤرخ في 14 نوفمبر 2011 المتعلــق بمكافحـة الفســاد، بسوء استخدام السلطة أو النفوذ أو الوظيفة للحصول على منفعة شخصية. ووفق هذا القانون وحسب اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد 58/4 بتاريخ 21 نوفمبر 2003 التي صادقت عليها تونس بمقتضى القانون عدد 16 لسنة 2008، يتخذ الفساد عدة أشكال منها:

  • جرائم الرشوة بجميع أشكالها في القطاعين العام والخاص.
  • الاستيلاء على الأموال العمومية.
  • سوء التصرف في الأموال العمومية أو تبديدها.
  • استغلال النفوذ وتجاوز السلطة أو سوء استعمالها.
  • الإثراء غير المشروع.
  • خيانة الأمانة.
  • سوء استخدام أموال الذوات المعنوية.
  • غسل الأموال.
  • إخفاء الأموال المتأتية من جرائم الفساد.

علاوة على بعض أشكال أو مظاهر فساد أخرى على غرار، التهرب الضريبي والجمركي وتجارة الأسلحة والمخدرات والمحسوبية.

وفي ضوء ما تقدم يمكن أن نخلص إلى القول بأن الفساد المالي والإداري هو استغلال غير قانوني ولا أخلاقي للوظيفة العامة بقصد تحقيق منافع شخصية متعددة. ويشمل المستويات الادارية والوظيفية المختلفة، بدءا بالفساد الصغير الذي يمارسه فرد واحد دون تنسيق مع الآخرين، فساد الدرجات الوظيفية الدنيا، ويتعلق بالأمور الصغيرة التي تتم بين الموظف والمواطن عن طريق استلام رشاوى لقاء الإسراع في الحصول على بعض الوثائق أو التسهيلات بالطرق غير المشروعة… وصولا إلى الفساد الكبير الذي يتمثل في قيام بعض كبار المسؤولين والموظفين، فساد الدرجات الوظيفية العليا، بتخصيص الأموال العامة للاستخدام الخاص وكذلك اختلاس الأموال وتلقي الرشاوى وإبرام العقود والصفقات التي يكون رأسمالها من مقدرات الدولة مقابل تحويل أرصدة منافعها إلى جيوبهم.

فالتفرقة  بين الفساد الصغير والفساد الكبير ليست تفرقة في الحجم، فالفساد الصغير يتعلق بإتمام إجراءات روتينية على وجه السرعة أو عدم إجرائها أصلا، بينما الفساد الكبير يتعلق بالتأثير على اتخاذ القرارات مثل قرارات إنشاء المشروعات الاقتصادية وترسية المناقصات وعقد الصفقات الكبيرة… وهنا يزداد الضرر على المصلحة العامة ومصلحة المجتمع وتتعثر المشاريع والخطط التنموية لارتباطها بأصحاب القرار من موظفي الإدارات العليا، وهو بذلك أهم وأشمل وأخطر كثيرا من الفساد الصغير لتكليفه الدولة مبالغ ضخمة… هذا وتكمن وراء انتشار وتغلغل ظاهرة الفساد الإداري والمالي جملة من الأسباب، ذات أبعاد سياسية واقتصادية واجتماعية وإدارية، بكل ما ينجم عنها من آثار ما فتئت تقف حجر عثرة أمام عملية الإقلاع الاقتصادي وتشكل تحد صارخ في وجه الإدارة العمومية ، وفي هذا السياق:

 

 

    • أثبتت الأبحاث بأن هناك علاقة ارتباط عكسي بين النمو والفساد، حيث يقدر البنك الدولي الخسارة الناجمة عن تفاقم الفساد بما يفوق نقطتين من الناتج الداخلي الخام سنويا، مما يترتب عليه خسران الاقتصاد التونسي، على سبيل الذكر، نحو 450 ألف موطن شغل على امتداد 15 أو 16 سنة الأخيرة، أي منذ التسعينات، وذلك بمعدل استحداث 15 ألف موطن شغل سنويا فقط، من شأنها أن تساهم في امتصاص البطالة والحد من الفقر بما يعنيه من تكريس لحق الشغل اللائق في صفوف العديد من العاطلين عن العمل وتوفير أدنى حدود متطلبات العيش الكريم في وسط جحافل المهمشين.
    • يساهم الفساد في تدني كفاءة الاستثمار العام وإضعاف مستوى الجودة في البنية التحية العامة وذلك بسبب الرشاوى التي تحد من الموارد المخصصة للاستثمار وتسيء توجيهها أو تزيد من كلفتها مما ينعكس سلبا على نسق النمو ووتيرة استحداث مواطن الشغل وما يتبع ذلك من تفاقم للبطالة واستشراء للفقر…
    • يؤثر الفساد سلبا على الموازنة العامة للدولة جراء تقليل الإيرادات، الناجم عن التهرب الضريبي أو محاولة الحصول على إعفاءات ضريبية غير مشروعة، والذي يترتب عليه تخفيض في حجم الاستثمارات من شأنه أن يعمق التفاوت الجهوي ويعرقل درجة ونسق إنجاز المشاريع التنموية…فضلا عن عدم تحقق العدالة الضريبية  بحيث  يدفع الضريبة قسم من المكلفين  ولا يدفعها الآخرون بسبب قدرتهم على التهرب…
    • يتسبب الفساد في ارتفاع الأسعار وحدوث التضخم من خلال الاحتكار وتهريب السلع إلى مناطق مجاورة بحيث تصبح نادرة بالأسواق المحلية.
    • يؤدي الفساد إلى هروب الأموال إلى خارج حدود الوطن بالإضافة إلى هجرة الأدمغة والكفاءات الاقتصادية بسبب المحسوبية والوساطة في شغل المناصب بالقطاع العمومي…
    •  يعتبر فساد القطاع العام من أشد العقبات التي تواجه التنمية والنمو ويعد من المعوقات التي تضعف قدرتها على جذب الاستثمار الأجنبي المباشر كميا ونوعيا رغم الانعكاسات الإيجابية لهذا الصنف من الاستثمار على التشغيل عند حسن توجيهه وردم الهوة بين الادخار والاستثمار بدل السقوط في فخ التداين الخارجي والحد من عجز ميزان الدفوعات وإمكانات نقل المهارات والتكنولوجيا…

 

  • ينجم عن الفساد الإخلال بمصداقية الدولة التي تعتمد عموما على قروض ومساعدات الدول الأخرى من أجل تنمية اقتصادياتها على اعتبار أنه في حالة شيوع ظاهرة الفساد وانعدام امكانية توفير شروط مكافحتها تبرز بوادر تلكؤ الدول والمؤسسات المانحة للقروض الخارجية والمنح بسبب الشكوك في مصير أموال المساعدات ومدى قدرة تلك الدولة على حسن توظيفها في تنشيط الدورة الاقتصادية الأمر الذي سوف يعمل على تأخير فرص التنمية… 

 

وعموما، كما أن الفساد ما فتئ يشكل تحد صارخ في وجه الإدارة العمومية، ويقف حجر عثرة أمام  تطور المجتمع لأنه يقضي على القيم ويعزز النظرة الفردية بتغليب مصالحها على مصلحة المجتمع بكافة أشكاله ومستوياته من خلال العمل بطرق غير مشروعة ينجم عنها استفادة فئة صغيرة على حساب حقوق وتطلعات بقية الفئات، وهذا بدوره كفيل بأن يوقف عجلة التنمية وتنفيذ خططها وتحقيق مراميها…فإن تحدي البيروقراطية والمركزية الإدارية لا يقله شأن.

 

 

 

(2/4)

 

لئن تبين أن الفساد يشكل تحد صارخ في وجه الإدارة العمومية، ويقف حجر عثرة في وجه الإقلاع الاقتصادي… فإن تحدي البيروقراطية والمركزية الإدارية لا يقله شأن.

2- تحدي البيروقراطية والمركزية الإدارية:

إنّ المفهوم السائد للبيروقراطية هو الالتزام الشديد والمتحجّر بنص القانون لدرجة تؤدي إلى عرقلة المعاملات و بالتالي القضاء على الهدف الذي من أجله وضع القانون وهو تسهيل معاملات الناس. إلاّ أنّ البيروقراطية في معظم البلدان العربية عموما ليست ناجمة عن ذلك “أي الالتزام الشديد بالقانون”، بل هي نتيجة لغياب القانون في كثير من الأحيان واعتماد الارتجال في المعاملات لدرجة أنّ معاملتين مثلا ينطبق عليهما نفس الموضوع و الخصائص إلاّ أن تنفيذها يتم بطريقتين مختلفتين وذلك يعود إلى بيروقراطية “الجهل بالقانون” أي التمسك الشديد برفض فهم القانون أو حتى الاطلاع عليه (2).

وعموما، إن ظاهرة البيروقراطية والمركزية الإدارية، بما تستبطنه الأولى من سلطة وحكم المكاتب وبما تكرسه الثانية من حصر مختلف مظاهر الوظيفة الإدارية في الدولة في أيدي أعضاء الحكومة وتابعيهم في العاصمة مع خضوعهم جميعا للرقابة الرئاسية التي يمارسها عليهم الوزير، أضحت تشكل عائقا في وجه تطور الإدارة على مستوى معظم دول العالم الثالث أساسا. وفي هذا الإطار ما فتئت تعاني تونس ككل الدول العربية، وإن بدرجات متفاوتة، على غرار الكثير من الدول من هذه الظاهرة، التي من بين بعض آثارها عجز الإدارة عن تحقيق أهدافها و تقليص حجم الاستثمار وضعف التكامل بين برامج التنمية الاقتصادية  وبرامج التنمية الإدارية…

2-1- عجز الإدارة عن تحقيق أهدافها: 

لا شك أن الإدارة العمومية في ظل ما تعيشه من بطء وتتخبط فيه من تعقيد في الإجراءات، أصبحت عاجزة  عن المضي قدما نحو تحقيق أهدافها ومنها تحسين ملموس في مستوى أدائها، بسبب تفشي كل من البيروقراطية والمركزية المفرطة وما يترتب عن هذه الظاهرة من تبديد للجهد ومضيعة للوقت وإهدار للمال، مما يساهم في إثارة السخط والضيق والإحساس بعدم الرضا لدى قطاع هام من المواطنين ممن دأبوا على التعامل مع الإدارة، خاصة عندما يشاهدون في نفس الوقت  الكثير ممن ينهون مصالحهم لمجرد الوساطة أو المحسوبية أو عن طريق دفع رشوة… ممارسات من شأنها أن تعمل على فتح الأبواب على مصاريعها لكافة أوجه الفساد الإداري التي تساهم بدرجات متفاوتة في تقليص حجم الاستثمار.

2-2- تقليص حجم الاستثمار:

لا شك أن المستثمر يتخذ قراره بالاستثمار في أي دولة من عدمه بناء على مدى توفر جملة من العناصر على غرار الاستقرار السياسي وما يحققه من استقرار اقتصادي وكذا حجم السوق وفرص الاستثمار المتاحة وتكلفة إنشاء المشروع وحوافز الاستثمار…وفي هذا السياق، تندرج ظاهرة البيروقراطية والمركزية كأحد أهم العوامل الكابحة لنسق تطور حجم الاستثمار، إذ كثيرا ما تقف عائقا أمام جهود المستثمرين الذين عادة ما يفضل الكثير منهم الهجرة من بلاد الإجراءات المعقدة إلى حيث يجد الإجراءات الميسرة…والفرار من جحيم ما ينجم عن تلك الإجراءات المعقدة من بطء في إنجاز المشاريع وزيادة في تكلفة الاستثمارات إلى حيث تتوفر شروط تحسين القدرة التنافسية…

والأمر لا يقتصر على الاستثمارات الخاصة المحلية منها والأجنبية بل يتعداها ليشمل الاستثمار العمومي، حيث بسبب البيروقراطية والمركزية يتقلص حجم المشاريع بالجهات الذي يجسده التأخير المسجل على صعيد الإنجاز الذي يتخذ أشكالا عدة ما بين مشاريع لم يتم العمل بها أو التي تتوقف في إحدى مراحل تنفيذها أو المتأخر تنفيذها رغم استمرار الأعمال فيها، بكل ما يترتب على ذلك من آثار سلبية تتعلق ببطء تزويد المواطنين بجملة من الخدمات في مجالات حيوية، إضافة لتراجع معدلات النمو الاقتصادي وزيادة تكلفة تلك المشاريع وما يتولد عنها من ضغط على ميزانية الدولة…

2- 3- ضعف التكامل بين برامج التنمية الاقتصادية و برامج التنمية الإدارية:

لقد تنامى لديّ، إثر ممارستي للسلطة على الصعيد الجهوي لفترة امتدت حول سنتين ابتداء من الثلاثية الثانية لسنة 2012،  الشعور أكثر بأهمية دور الإدارة، وكذلك الإحساس بخطورة إهمال هذا الدور، وبالتالي بأهمية التنمية الإدارية وبعلاقتها الوثيقة بالتنمية الاقتصادية التي تفترض أن تحقيق الأولى، أي التنمية الإدارية، من شأنه تهيئة الإدارة التي تستطيع النهوض بأعباء التنمية الاقتصادية والاجتماعية وحل مشكلاتها، غير أنه عادة ما ينصب الاهتمام على برامج الإنماء الاقتصادي والاجتماعي دون إيلاء نفس الدرجة من الأهمية لدور النظام الإداري الذي من المفروض أن يتماشى مع حجم هذه البرامج، الأمر الذي يؤدي إلى اتساع الفجوة بين المشاريع الاقتصادية والاجتماعية المقترحة والإدارة الموكول إليها السهر على إنجازها، وعندها تظهر الإخفاقات والمشكلات في النظام الإداري وما يتبعها من نعوت مغرضة بالفشل وعدم الكفاءة…

وعلاوة على تحدي ظاهرة البيروقراطية، وما ينجم عنها من إعاقة لسير العمل وعدم مواكبة التغيرات الفعالة، والمركزية الإدارية، وما يترتب عليها من إطالة وبطء للإجراءات، هناك جملة من التحديات المختلفة الأخرى، تشير إليها بعض الوثائق الإدارية، ما فتئت تعرقل تطور الإدارة…

3– تحديات مختلفة أخرى في وجه الإدارة العمومية:

    • عجز الإدارة العمومية على أن تواصل الانتداب بنفس حجم السنوات المنقضية لأن القطاع يعتبر مشبعا «saturé »، بمعظم الدول العربية إن لم يكن كلها.
    •  العدد الأكبر من المنتدبين ينشطون عموما بالمصالح المركزية،
    • التفاوت بين الجهات من حيث الكفاءات،
    • ظروف العمل بالإدارة على المستوى الجهوي والمحلي سيئة جدا بالإضافة إلى غياب التجهيزات،
    • الأجر المعتمد في القطاع العمومي لا يشجع الخبرات والكفاءات العالية للالتحاق به،
    • تدني مستوى الإنتاجية،
    • ضعف التكوين المستمر وعدم تأهيل الموارد البشرية،

 

  • غياب ثقافة العمل، 
  • ضعف أداء الإدارة ومحدودية نجاعتها،
  • إدارة غير عصرية، 

 

ولعل مختلف هذه التحديات المتمحورة حول انتشار الفساد الإداري واستشراء البيروقراطية والإفراط في المركزية الإدارية فضلا عن جملة من التحديات المختلفة الأخرى كفيلة لوحدها بتفسير مدى ضرورة الانخراط في عملية إصلاح إداري…

ثانيا: بعض ملامح الإصلاح–الإداري

إن الإدارة العمومية بما تمثله من أداة تنفيذ للقرار السياسي ولجملة القوانين ومن عين ساهرة على تأمين الخدمات للمجتمع، وفي ظل التحولات التي ما فتئت تطرأ على الصعيد العالمي وما آلت إليه من ضرورة إعادة النظر في دور الدولة في تقديم خدماتها للمواطنين تقتضي أن تشمل هذه التحولات عموما المرفق الإداري مما يستوجب ضرورة إقرار إصلاح إداري يعمل على استئصال شأفة الفساد وتحسين الحوكمة في صلب الإدارة العمومية والدفع باتجاه تطوير الإنتاجية في أجهزتها وجعلها أكثر فاعلية وتنظيما ومصداقية…فما المراد بالإصلاح الإداري؟ وما هي أهدافه؟ وهل من مقترحات على درب هذا  الإصلاح؟ ذلك ما سنحاول التطرق إليه من خلال تسليط بعض الضوء على هذه التساؤلات تباعا.

1- ما المراد بالإصلاح الإداري:

تعددت تعريفات مفهوم الإصلاح الإداري كمحصلة لتعدد الزوايا المنظور منها إليه. ويتبنى خبراء الإصلاح الإداري والتنمية الإدارية العرب تعريف د. حسن أبشر الطيب للإصلاح الإداري والمتمثل في كونه (3)، جهد سياسي واجتماعي وثقافي وإداري هادف لإحداث تغييرات أساسية في السلوك والنظم والعلاقات والأساليب والأدوات تحقيقا لتنمية قدرات وإمكانيات الجهاز الإداري، بما يُؤمن له درجة عالية من الكفاءة والفعالية في إنجاز أهدافه.

ويقصد به، وفق د. محمد خالد المهايني، إعادة التفكير في تغيير منهجية، وأسلوب الإدارة العامة، والتي تتمثل في أجهزة الدولة كافة، وتعد هذه العملية من أهم المسائل في جميع الدول، لأنها تتمثل بإعادة دور الدولة في تقديم خدماتها للمواطنين، وبالتالي فإن عملية الإصلاح الإداري هي نقلة نوعية في تقديم الخدمات، مع خفض التكاليف، وخفض النفقات العامة، وتحويل إدارة الخدمات من أسلوب البيروقراطية إلى الأسلوب الاقتصادي، وذلك بإيجاد أساليب أكثر مرونة، وبعيدة عن البيروقراطية، كما تطبق خطة الإصلاح الإداري بصورة مستمرة ( 4).

ويعني لدى القحطاني، التأثير والاستخدام الأمثل والمدروس للسلطة والنفوذ لتطبيق إجراءات جديدة على النظام الإداري من أجل تغيير أهدافه وبيئته بهدف التطور وتحقيق الأهداف التنموية (5).

هذا ويمكن تعريف الإصلاح الإداري على أنه أيضا، إحداث التغيير المستمر الهادف إلي تطوير وتجويد أداء الأفراد والمؤسسات، وذلك لتقديم خدمة عالية الجودة، بأقل جهد وبكفاءة عالية وفي زمن أقل، تسعد المواطن وتحقق له الرضا والرفاهية. فالإصلاح إذا هو تغيير لتطوير وتحسين الأداء، مما يضعنا وجها لوجه أمام التساؤل بشأن بعض أهداف عملية الإصلاح الإداري عموما.

2- أهداف الإصلاح الإداري:

وضع خطة شاملة تمثل إستراتيجية الدولة ورؤيتها المستقبلية للخطوات الواجب اعتمادها لتهيئة الإدارة لتحمل مسؤولياتها في مجالات الإعمار والنهوض الاقتصادي والاجتماعي. إن هذه الإستراتيجية تفترض دراسة وضع القطاع العام بصورة شاملة، وتوضيح فكرة التعاون والتكامل بينه وبين القطاع الخاص وتحديد دور وموقع كل منهما.

– الارتقاء بمستوى أداء المصالح العمومية وتعزيز قدراتها من خلال تثمين ورفع مردودية الموارد البشرية على اعتبار أن العنصر البشري يكتسي أهمية كبرى في مجال تطوير وتحديث الإدارة العمومية.

– العمل على إرساء أسس إدارة عصرية تقطع تدريجيا مع المركزية المفرطة بما يسهم في تعزيز القدرة التنافسية للاقتصاد والتنمية المستدامة مع كفالة سلامة الإطار الاقتصادي الكلي وتوازناته العامة.

– اعتماد الأساليب التي تحقق الكفاءة الاقتصادية وفي مقدمتها رفع مستويات الإنتاجية وتقليص التكاليف واتخاذ القرارات المتعلقة بالاستثمار وخطط وأساليب الإنتاج على مستوى منظمات الجهاز الإداري.

– العمل على التصدي للقيم التي تحط وتشوه قيمة العمل مقابل تنمية الاتجاهات الإيجابية التي تدعو إلى تكريس ثقافة مزيد البذل وتحث على الانخراط والتفاني في إتقان العمل عبر التوسع في مجالات التأهيل والتدريب والتطوير.

– تطوير صيغ وأساليب وإجراءات العمل الإداري، والقوانين والتشريعات ذات العلاقة بما يسهم في تحقيق السرعة والدقة في الإنجاز واتخاذ القرارات والعدالة والمساواة ونبذ الأساليب البيروقراطية التي تتسم بالبطء.

– إشاعة مفاهيم اللامركزية الإدارية والتقليص من مركزية اتخاذ القرار، وتنمية مهارات التفويض لدى القيادات الإدارية، وتمكين الإدارات الوسطى والتنفيذية من تحمل المسؤولية والاضطلاع بتنفيذ العمليات والأعمال الإدارية.

– التوسع في الاعتماد على التقنيات الحديثة وصولا إلى المنظومات الالكترونية، تمهيدا لإتمام بناء مشاريع الإدارة الالكترونية وتعزيز نشاط البحث والتطوير في هذه المجالات بما يوسع من آفاق المساهمة في تطويع وتكييف التكنولوجيا المتقدمة مع خصوصيات واحتياجات منظوماتنا المحلية.

ولترجمة وتحقيق مثل هذه الأهداف يمكن تقديم بعض مقترحات من شأنها أن تساهم في النهوض بالعمل الإداري.

 

 

الإصلاح الإداري وتحدي الفساد

في وجه الإقلاع الاقتصادي

(3/4)

 

لترجمة وتحقيق أهداف الإصلاح الإداري نسوق بعض المقترحات التي قد تعمل على المساهمة في النهوض بالعمل الإداري.

3- مقترحات على درب الإصلاح الإداري:

لا شك أن ضرورة القيام بالإصلاح الإداري، وترابطه مع الإصلاح الاقتصادي والسياسي، وما يعتري المسألة الإدارية من صعوبات ومعوقات إنما يتطلب جملة من التدابير المطلوب القيام بها، لتحقيق الأهداف والتوجهات المرسومة، على غرار غرس مبادئ الحوكمة ومكافحة الفساد ثم تدعيم اللامركزية الإدارية ومحاربة البيروقراطية فترشيد توظيف الموارد البشرية ومناهج العمل داخل الإدارة وختاما الحرص على مزيد الاهتمام بأخلاقيات العمل.

3-1- غرس مبادئ الحوكمة ومكافحة الفساد:

إن الفساد بما يعنيه من سوء استعمال الموقع لمصلحة شخصية وتجاوز المصلحة العامة وما يكرسه من انحلال أخلاقي بتعاطي الموظف للرشوة وسوء استخدام السلطة العمومية لأغراض شخصية قصد الكسب الخاص، ليس في نهاية المطاف إلا تجسيدا لغياب المؤسسة السياسية وعجزها على مواجهة الاتجار بالوظيفة العمومية والتعدي على المال العام. ومن ثم، فإن القضاء على الفساد وتجفيف منابعه، لما له من تأثير سلبي على برامج التنمية الاقتصادية والاجتماعية، يعد أول خطوة على درب إصلاح الإدارة العمومية وإضفاء المزيد من الفعالية عليها واسترداد هيبتها. وفي هذا الإطار يتنزل غرس قيم الحوكمة من نزاهة وشفافية ومساءلة ومحاسبة وضرورة توخي استراتيجية واضحة المعالم لمكافحة استشراء الفساد.

3-1-1- غرس مبادئ الحوكمة:

تعرف مدونة الأخلاقيات والسلوك في القطاع العمومي التونسي الحوكمة ومبادئها من نزاهة وشفافية ومساءلة ومحاسبة على النحو التالي:

الحوكمة:  هي نظام للرقابة والتوجيه على المستوى المؤسسي، يحدد المسؤوليات والحقوق و العلاقات مع جميع الفئات المعنية ويوضح القواعد والإجراءات اللازمة لصنع القرارات الرشيدة المتعلقة بعمل الهيكل. وهو نظام يدعم العدالة والشفافية و المسائلة و يعزز الثقة و المصداقية في بيئة العمل.

– النزاهة:  هي منظومة القيم المتعلقة بالصدق والأمانة والإخلاص والتفاني في العمل التي تعكس التقيد بمقتضيات القانون ومقاصده حفاظا على صورة الهيكل الذي ينتمي إليه العون وذلك بالامتناع عن أي عمل من شأنه المساس بثقة العموم في صحة وسلامة الاداء والسلوك.

– الشفافية: هي الوضوح داخل الهيكل العمومي وفي العلاقة مع المواطنين (المنتفعين من الخدمة أو مموليها) وعلنية الإجراءات والغايات والأهداف وحق المواطنين في الحصول على المعلومات اللازمة عن أعمال الهياكل العمومية حتى يتم التأكد من أن عمل هؤلاء يتفق مع تحديد القانون لوظائفهم ومهامهم.

– المساءلة: هي واجب المسؤولين العموميين سواء كانوا منتخبين أو معينين، تقديم تقارير دورية عن نتائج أعمالهم ومدى نجاعتهم في تنفيذها .

– المحاسبة: هي خضوع الذين يتولون الوظائف العمومية للمساءلة القانونية أو الإدارية أو الأخلاقية إزاء قراراتهم وأعمالهم سواء المحاسبة الأفقية  )مسؤولية الموظف العام أمام جهات أخرى موازية(  أو العمودية  )مسؤولية الموظف العام أمام ناخبيه وهيئته المرجعية، والمواطنين).

3-1-2- مقاومة الفساد:

يعتبر انتشار هذه الظاهرة من أهم أسباب الوهن الداخلي والضعف الخارجي للدول، مما يستدعي ضرورة وضع آليات لمكافحته أولوية رئيسية بالنظر لآثاره المدمرة على مختلف النواحي السياسية والاجتماعية والاقتصادية. وفي هذا السياق، يمكن الإشارة إلى بعض الآليات على غرار:

  • توفر إرادة سياسية قوية ترسم استراتيجية متكاملة للإجهاز على الفساد وتحرص وتسهر على تفعيلها على امتداد مختلف الآماد القصيرة والمتوسطة والبعيدة.
  • فتح ملفات الفساد و نشرها و تفعيلها أمام الهيئات المختصة.
  • تعزيز استقلالية وحياد ونزاهة الجهاز القضائي.
  • نشر ثقافة احترام المال العام وزرع فكرة اعتباره جزءا من المال الخاص.
  • الإفصاح بشكل رسمي عن الذمم المالية والعينية لذوي المناصب العليا في الدولة حين استلام وتسليم المهام…
  • وضع قواعد للتمويل السياسي، وسن قوانين لمراقبة الإنفاق السياسي، وخاصة في ما يتعلق بشراء الأصوات في الانتخابات العامة…
  • تثقيف الجماهير وتوعيتها وإطلاعها على القوانين والأنظمة النافذة ليتسنى لها معرفة حقوقها وواجباتها خاصة وأن القانون لا يحمي المغفلين الذين يضلون عرضة لكل أشكال الفساد.‏
  • التركيز على البعد الاخلاقي وبناء الانسان وتوعيته لمحاربة الفساد وذلك من خلال تقوية القيم الدينية والأخلاقية، حيث يمكن أن يشكل الدين وازعا أخلاقيا بما يحتويه من أوامر ونواهي ورادعا حقيقيا من أخطار وآثار الفساد…
  • تفعيل دور منظمات المجتمع المدني من جمعيات وهيئات سياسية ونقابات مهنية لتعرية مفهوم الفساد وأثره على المجتمع وضرب مراقبة صارمة تساهم تدريجيا في استئصال شأفته من خلال كشف العمليات المتعلقة بالفساد والجهات التي تقف وراءه.
  • تفعيل دور السلطة الرابعة “الإعلام” وتمكينها من الوصول إلى المعلومات ومنح الحصانة للصحفيين للقيام بدورهم في نشر ثقافة مقاومة الفساد وإنجاز التحقيقات وتعرية الحقائق التي تكشف عن قضايا الفساد وتفضح مرتكبيها.
  • تطوير دور الرقابة والمساءلة للهيئات التشريعية من خلال الأدوات البرلمانية المختلفة التي يجب أن تدور في كنف الاحترام وأن تشمل كافة المواقع الوظيفية دون استثناء، وخاصة القيادات السياسية والقيادات الموجودة في قمة الهرم الوظيفي، وعدم اقتصارها على الوظائف الدنيا…
  • تفعيل دور الأجهزة الرقابية على مستوى الادارة كافة وتكثيف نشاطها وتخويلها بصلاحيات واسعة من أجل ملاحقة مرتكبي الفساد من رشوة ومحسوبية وكسب غير مشروع واستغلال للوظيفة العمومية وتغليظ العقوبات الرادعة بشأنهم في ظل تفعيل القوانين المتعلقة بمكافحة الفساد على جميع المستويات، كجزء من حزمة من إجراءات أشمل على درب إصلاح إداري يعمل على إرساء أسس إدارة عصرية تقطع تدريجيا مع المركزية المفرطة وتكرس بشكل متزايد اللامركزية بما يسهم في تعزيز القدرة التنافسية للاقتصادات والتنمية العربية مع كفالة سلامة الإطار الاقتصادي الكلي وتوازناته العامة. ويرتقي، أي الإصلاح الإداري، بمستوى أداء المصالح العمومية وتعزيز قدراتها من خلال تثمين ورفع مردودية الموارد البشرية على اعتبار أن العنصر البشري يكتسي أهمية كبرى في مجال تطوير وتحديث الإدارة العمومية، التي يندرج في إطارها.
  • تكريس الشفافية في المجال المالي والصفقات العمومية قصد إتاحة الإمكانية للمواطن متابعة كيفية التصرف في الموارد العمومية وهو ما يسهل حوكمة التصرف في هذه الموارد ويحول دون إهدارها أو استغلالها لمصالح غير المصلحة العامة.
  • التصدي لظاهرة الفساد بالمضي قدما باتجاه إرساء آليات تحرص على مراعاة المعايير الدولية في هذا المجال واستعمال الآليات الحديثة المتعارف عليها على الصعيد الدولي مثل الإدارة الإلكترونية E_GOVERNMENT والإدارة المفتوحة GOVERNMENT OPEN مع تكريس اللامركزية الإدارية LOCAL GOVERNMENT.

3-2- تدعيم اللامركزية الإدارية ومحاربة البيروقراطية:

– بإعطاء اللامركزية صلاحيات أكبر للمستويات الإدارية الدنيا، فإنها تساهم من ناحية في تحسين الأداء وسرعة القرارات لما تتبناه من تخطي لطول الإجراءات والبعد عن الروتين وتكرس من ناحية أخرى شدة إحكام الرقابة بتقليل التهرب من المسؤولية والتفصي من تابعاتها وإلقاءها على عاتق مستويات إدارية أعلى.

– بمنح اللامركزية مهام أوسع للهياكل المحلية، فإنها تمثل على هذا الصعيد إطارا ملائما لإشراك مختلف الفاعلين في العملية التنموية على مستوى الجهات في تخطيط وتنفيذ ومتابعة تنميتها الذاتية بما يعمل على تحقيق الاستغلال الأمثل لمواردها المحلية المتاحة والكامنة وتشغيل الأيدي العاملة بها.

– بمساهمة اللامركزية في تحقيق التنمية الجهوية تساعد على التقليل من التفاوت فيما بين الجهات وتسريع وتيسير عملية صنع القرار الإداري والتنموي وتسهم في إيجاد توزيع عادل نسبيا لسلطة صنع القرار مما يحد من البيروقراطية الإدارية.

– بعمل اللامركزية على الحد من البيروقراطية الإدارية، فإنها تفتح ثغرة على جبهة محاربتها التي تتعزز على صعيد أول بتنمية استعمال تكنولوجيا المعلومات والاتصال أو إرساء إدارة إلكترونية حديثة (6)، وعلى صعيد ثان بمراجعة التشريعات والقوانين الجاري بها العمل حتى تتلاءم مع نظام الإدارة بالأهداف بكل ما يستوجبه ذلك من تشريك لمختلف الأطراف من رؤساء ومرؤوسين في ضبط هذه الأهداف وفي سبل تحقيقها وفي دور كل طرف في تحقيق هذه الأهداف مما يقضي على الجمود والروتين والتهرب من المسؤولية، وينحو باتجاه حسن توظيف الموارد البشرية وتحسين طرق العمل…

 

الإصلاح الإداري وتحدي الفساد

في وجه الإقلاع الاقتصادي

(4/4)

 

 

إن من بين التدابير المطلوب اتخاذها، فضلا على ما تم التطرق إليه سابقا من غرس لمبادئ الحوكمة ومكافحة الفساد وتدعيم اللامركزية الإدارية ومحاربة البيروقراطية، ترشيد توظيف الموارد البشرية ومناهج العمل داخل الإدارة ثم  الحرص على مزيد الاهتمام بأخلاقيات العمل.

 

3-3- ترشيد توظيف الموارد البشرية ومناهج العمل داخل الإدارة:

تعد الموارد البشرية من أهم الثروات التي تمتلكها الدول لما تتميز به من طاقة وقدرة على بذل العطاء والجهد طالما أحسن التخطيط لها وتنميتها بوضع السياسات والبرامج التي تهدف إلى تحقيق الاستخدام والاستفادة المثلى لها لتحويلها من كونها عبئا على التنمية المستدامة أو ضغطا على الموارد إلى كونها المحور الأساسي الذي تدور حوله التنمية المستدامة في كل المستويات والوسيلة المحركة التي تحقق أهدافها، لذلك فإن من بين الإجراءات المقترح اتخاذها على صعيد ترشيد توظيف الموارد البشرية بغية إحداث نقلة نوعية للعملية التنموية برمتها، يمكن الإشارة إلى:

– ضرورة إنشاء إدارة تتولى مسؤولية التخطيط الاستراتيجي للموارد البشرية وتشرف على وحدات للموارد البشرية على مستوى المنظمات الإدارية بمفهوم يختلف عن مفهوم شؤون العاملين تضطلع بوضع تخطيط للاحتياجات الوظيفية مواكبا لأهداف وأولويات وطنية وقطاعية تخضع للتخطيط المسبق والتقييم اللاحق.

العمل على تكريس الاختيار القائم على أساس الكفاءة من خلال إرساء معايير موضوعية لتقييم الكفاءات المرشحة لسد الشغورات لا تقتصر على المؤهلات العلمية بل تتجاوز ذلك إلى الأخذ بعين الاعتبار المهارات المكتسبة والقابلة للاكتساب أو التطوير أثناء ممارسة الخطة.

– الحرص على جعل عملية تقييم أداء الموظفين والمؤسسات عملية مستمرة لكشف الانحرافات وتصحيحها بصورة دائمة والحيلولة دون انتشارها لتصبح جزءا من الثقافة السائدة في العمل.

– تعديل نظم الحوافز وتدعيم آليات التحفيز في الإدارات و ربطها بنظام أداء وتقييم شفاف وبالتالي الوصول إلى نظام ترقية يعتمد على الكفاءة في سبيل تحقيق مردودية أفضل للموظف. وفي هذا السياق، وعلاوة على التحفيز المالي، يمكن تشجيع الموظف أيضا على الانفتاح على الجامعات من أجل القيام بمواصلة دراسته على مستوى الاجازة أو المرحلة الثالثة أو الدكتوراه وبالتالي قبول الترقية عن طريق الادماج لمن قام بتحصيل شهادات علمية إضافية.

– توفير الإحاطة النفسية بالموظفين للحد من اللجوء إلى الرخص المرضية وخاصة الطويلة المدى منها ، بفعل فترات الإرهاق النفسي التي يمرون بها، بسبب ما ينجم عنها من شغور وظيفي يصعب تعويضه ما لم يقع إحالة الموظف على التقاعد.

ترشيد حجم الجهاز الإداري للدولة وتطوير سياسات شغل الوظائف العامة وذلك من خلال سد منافذ التعيين غير المبررة وتمكين الموظفين بوضع نظام للمغادرة التلقائية أو التقاعد المبكر مع الانتفاع بنسبة من الأجر والتشجيع على إحداث المشاريع الخاصة لذوي الخبرة، أو البحث في أسباب فشله لاستكشاف مكامن الضعف وتلافيها لإضفاء مزيد من النجاعة عليه على غرار ما حصل بالمغرب الشقيق.

– تحقيق أقصى درجات الشفافية والمساواة وتكافؤ الفرص في شغل الوظائف العامة مع العمل على رفع مؤهلات المرشحين بمراجعة نظام التعليم وعبر تعميم الانتداب المباشر من مدارس التكوين.

– تمكين الإدارة العمومية من التعاقد المرن مع الكفاءات والخبرات العالية لإدارة المشاريع الكبرى بمقابل مشجع.

– إعادة توزيع الموظفين لتأمين التوازن بين الإدارات المركزية والجهوية والمحلية.

– التدوير الوظيفي للمسئولين الحكوميين بين فترة وأخرى، لأن بقاء المسئول الاداري فترة طويلة في الموقع نفسه، يتسبب في تفشي الفساد، لا سيما في المفاصل الرئيسة في الادارة العامة مثل: الجمارك، والإدارات المالية والضريبية، والمصالح العقارية، والمؤسسات والشركات.‏

– العمل على تحديد المهام بما يراعي عدم تداخل الاختصاصات وازدواجها و التخفيف من تعقيد إجراءات العمل وبطء حركة سيرها بسبب الروتين مع عدم التلكؤ في منح الحوافز والمكافآت وإعادة هيكلة الخدمات بما يستجيب لاحتياجات الدولة.

– تأمين مستلزمات العمل للحفاظ على استقرار الموظفين وراحتهم وأمنهم وسلامتهم لتمكينهم من إنجاز مهامهم في ظروف عمل مناسبة بما يسهم في تحسين وتطوير الإنتاجية.

– دعم الأجهزة الحكومية التي مهمتها متابعة تنفيذ المشاريع العمومية بالكوادر المتخصصة في المراقبة والمتابعة والتحقيق وكذلك بالتجهيزات الحديثة التي تساعد على أدائها لعملها على الوجه الأكمل، غير أن تحسين الأداء يظل وثيق الارتباط أيضا بمراجعة سياسة الأجور وبمزيد الاهتمام بأخلاقيات العمل.

3-4- مزيد الاهتمام بأخلاقيات العمل:

– تعتبر أخلاقيات العمل من الأساسيات المهمة لشغل الوظيفة والتى ينبغى التأكيد عليها بصورة مستمرة من منطلق المسئولية الإدارية التي تقع على كاهل الموظف العمومي.

– يتعين التركيز على الجوانب الإيجابية للأخلاقيات التي من شأنها أن تربي الحرص على العدل والأمانة والإخلاص والتفاني في تحقيق المصلحة العامة للمجتمع، باعتبارها فضائل أخلاقية محمودة.

– يستوجب التصدي للجوانب السلبية للأخلاق التى منها التسيب الوظيفى وعدم الحرص على تكريس حياد الإدارة في ظل الزخم التعددي السياسي والنقابي بدل الخلط بين الحزب الحاكم والإدارة الذي طبع التجربة الإدارية التونسية على امتداد العقود المنصرمة مما ساهم في تغييب شرط المساواة عند إسداء الخدمات الاجتماعية والإدارية للمواطن وأثناء القيام بعمليات انتداب…

خاتمة:

تساهم إجراءات محاربة الفساد في تخفيض تكلفة الاستثمار بالنظر إلى ما يدفعه المستثمرون من رشاوى، التي هي بمثابة نوع من الضرائب الإضافية، مما يساعد على استقطاب رؤوس أموال جديدة للبلاد ورفع معدلات الاستثمار، ومن ثم  رفع حجم الطلب الكلي، ومن خلاله رفع نسبة النمو الاقتصادي. وبهذا الصدد تشير بعض الدراسات التي اهتمت بقياس أثر الفساد على معدل الاستثمار، أن انخفاض مؤشر الفساد من 4 إلى 6 درجات (حيث أن 0 هو أعلى معدل للفساد و 10 أقل معدل له) يؤدي إلى زيادة قدرها 4 % في معدل الاستثمار، وإذا ارتفع الفساد بنحو نقطة مئوية واحدة يتقلص معدل الاستثمار بنحو 11 %، كما أوضحت هذه الدراسات أن البلدان التي ينتشر فيها الفساد بشكل معتبر ترتفع فيها تكلفة الاستثمار بنحو 20 % مقارنة بالمجتمعات الأقل فسادا (7). كما تعمل أيضا على الحد من نفقات ميزانية الدولة والدين العام، بالإضافة لتحسين جودة الخدمات الصحية والتعليمية المقدمة للمواطنين خاصة محدودي ومتوسطي الدخل، باعتبارهم أولى الفئات بالرعاية… وحتى تحقق الأهداف المعلقة عليها يفترض تنزيل مختلف إجراءات مكافحة الفساد الإداري والمالي في إطار خطة شاملة ومتكاملة على درب إصلاح الإدارة العمومية تعتمد مبادئ الحوكمة الرشيدة…على اعتبار أن مشروع الإصلاح الإداري والقدرة على تفعيله يعد موضوعاً استراتيجياً لتطوير المجتمع وبنيانه التنموي ويتطلب إرادة وفعالية كبيرة بالقرار السياسي لأنه يمس المصالح عند الاستجابة لمختلف التحديات التي يتزعمها انتشار الفساد وتخلف طرق الرقابة وعدم حياد عمليات التعيين والاختيار واستفحال ظاهرة احتكار المعلومة وحالة تلميع الأشخاص الذين يحققون المنافع والتحالفات والتغطية على أخطائهم وفسادهم…

– إن الإدارة العمومية باعتبارها أداة ومظهرا من مظاهر ممارسة سلطة الدولة، فإنها مدعوة للتكــيف مـع ومواكبة تطورات العصر من خلال التحكم في مواردها البشرية كما ونوعا وفي تسخيرها وتعبئتها في خدمة التنمية العربية رغم التحديات المتعددة التي ما فتئت تقف حجر عثرة في طريقها ويتصدرها الفساد الإداري والمالي، مما يستوجب دعم المقاربة التشاركية بين الادارة والمواطن وغرس مبادئ الحكومة المفتوحة بالقطاع العمومي عبر تبسيط الإجراءات الإدارية وتكثيف الخدمات الإدارية على الخط وتوفير آليات عملية لتطوير علاقة الإدارة مع المواطن لتشريكه في مسارات اتخاذ القرارات العمومية وذلك مع الحرص على تعزيز قدرات كل من العون العمومي والمواطن للاستفادة من مبادرات الحكومة المفتوحة وغرس هذه الثقافة الجديدة لديه.

– يكتسي العنصر البشري أهمية كبرى في مجال تطوير الإدارة العمومية وتحديثها، ومن بين العوامل الدافعة على تيسير القيام بمثل هذه المهام هو مزيد الاهتمام بأخلاقيات العمل، مما يضعنا وجها لوجه أمام دور القيم وإمكانية مساهمتها في كسب معركة التنمية على صعيد الدول العربية موضوع الباب الثاني من هذه الدراسة.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *