الأزمة العميقة والخيارات الصعبة بتونس .. بقلم سالم حداد

بقلم الاستاذ سالم حداد كاتب و مناضل حقوقي
مع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية والتشريعية لسنة 2019 صارت تونس تعيش على وقع أزمة عميقة ذات أبعاد ثلاثة: اقتصادية اجتماعية ، سياسية وثقافية حضارية، وهي أبعاد متساوقة ومترابطة تفضي إلى بعضها، فلا سبيل لقبول البعض ورفض البعض الآخر، وهي ميزة الاستعمار اللاتيني الشمولي. فأين يتجلى ذلك؟

Iـــ البعد الاقتصادي الاجتماعي

أولا ـــ تشخيص الأزمة

تتمثل الأزمة أساسا في تدهور المقدرة الشرائية للمواطن، نتيجة لارتفاع الأسعار وتدهور قيمة الدينار مع شبه استقرار للأجور. وتعود إلى عدة عوامل منها:

1 ـــ محدودية الإنتاج الذي تقلص في بعض المؤسسات وأغلقت العديد منها ابوابها وصار المواطن يستهلك من وراء البحر بأسعار معولمة بل إنه صار غير قادر عن اقتناء السلع الاستهلاكية المحلية نتيجة للاحتكار والمضاربة.

2ـــ استجابة الحكومة لإملااءات صندوق النقد الدولي

<<تجاوزت المديونية التونسية إلى موفى جوان المنقضي 76 مليار دينارمعظمها قروض خارجية قصيرة الأمد يتعين تسديدها بالعملة الصعبة>> نتيجة لهذه القروض صارت تونس ارضا مستباحة للإملاءات الخارجية كما كانت في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وآلت إلى استعمارها،عندما عجزت عن تسديد ديونها. وها نحن أمام استعمار جديد مقنّع يريد أن يملي منوالا تنمويا معولما تحت عنوان الإصلاحات الكبرى، تُلغى من خلاها الحواجز الجمروكية وتحرر فيها الأسعار، وتكون الدولة مجبرة على أن ترفع يدها عن التحكم في الاقتصاد الوطني . فلا سبيل لدعم المواد الأساسية الاستهلاكية ولا إلى إصلاح مؤسسات القطاع العمومي وشبه العمومي، فعليها أن تفوّت فيه للقطاع الخاص المحلي والأجنبي الذي ستخضع فيه عملية الإنتاج لآلية جديدة هي آلية المنافسة في السوق المعولمة. ولن يكون الهدف غير تحقيق أقصى ما يمكن من الأرباح ، بأقل ما يمكن من التكاليف وفي أقل حيز زمني ممكن ، ضاربة عرض الحائط بالتداعيات المدمرة لهذا الخيار، ومن أبرزها تسريح العمال وتفاقم البطالة وتدني مستوى العيش .

ثانيا ـــ رفض الاتحاد للإملاءات

إن هذا الخيار ترفضه الشرائح المسحوقة والمتوسطة ويتصدى له عمال الساعد والفكر عبر منظمة الاتحاد العام التونسي للشغل، لذا فإن معركة كسر العظام بين حكومة الشاهد والاتحاد ليست مستبعدة، خاصة إذا أدركنا أن النقابيين هم آخر القلاع الحصينة لمقاومة الاحتكارات الرأسمالية، بعد أن انهارت المنظومة الاشتراكية وتقلصت فاعلية أحزابها في العالم وفي تونس أيضا .

وقد بدأت رايات هذه المعركة تلوح في الأفق بمنهجية جديدة تختلف عن منهجية الصدام المباشر التي توخاها النظام البورقيبي والتي ذهب ضحيتها مئات القتلى والجرحى، ومنهجية ابن علي الذي توخى اعتماد النقابة المساهمة واحتواء القيادة وأفضى إلى العزوف عن النضال النقابي ، أما السلطة حاليا فقد اكتشفت أسلوبا

جديدا في تهرئة النضال النقابي فلا تلجأ لقوى الأمن والجيش أو إلى بدعة النقابة المساهمة بل تضع النقابيين في مواجهة مع الرأي العام . كان ذلك مع نقابة التعليم الثانوي حيث رفضت الحكومة الاستجابة لمطالبها بل حتى مجرد فتح ابواب التفاوض معها ،فكانت تماطل وتسوف حتى تستدرج النقابة إلى شن إضرابات متتالية والتهديد بسنة بيضاء،وهذا ما تسبب في ردود فعل على الهياكل النقابية بل حتى على القاعدة الاستاذية، فتحول الصراع العمودي ضد السلطة إلى صراع أفقي بين الاستاذ والولي وخرجت السلطة من دائرة الصراع. نفس الأسلوب توخته مع باخرة قرطاج فقد أعلنت النقابة عن الإضراب منذ مدة ،لكن السلطة تجاهلت الأمر ولم تعلم المسافرين بالإضراب إلا وهم على متن الباخرة، فوجهوا نقمتهم إلى المضربين ، اذاك تحركت السلطة وسخرت الجيش البحري لتكسب التعاطف، وليبرر الوزير هذا الموقف اللااخلاقي قال : إنه كان يعوّل على تراجع النقابيين عن الإضراب.

هذان مثالان لمنهجية الحكومة في تشويه الاتحاد تمهيدا لضربه حتى يتسنى لها تمرير الإصلاحات الكبرى التي أملتها المؤسسات المالية العالمية، وهي التي راهنت على الشاهد وعلى حكومته ،خاصة بعد أن تعهد بتوقيع الاتفاقية التعاون الحر الشامل والمعمقALECA سنة 2019 . وقد تعمُد الحكومة في إطار المفاوضات الاجتماعية إلى تقديم تنازلات من خلال الاستجابة لبعض مطالب القطاعات لتحييد الاتحاد حتى تتمكن من تمرير إملاءات صندوق النقد الدولي وخاصة التفويت في مؤسسات القطاع العام، وهذا ما يجب أن يأخذه النقابيون بعين الاعتبار في عملية التفاوض مع الحكومة.وقد بدأ الاتحاد بدوره يُعدّ عدته ويشحذ أسلحته، فالأمين العام نور الذين الطبوبي بعد أن قابل رئيس الجمهورية ووضعه في الصورة وحمله مسؤوليته صرح << إن الإضراب العام في المؤسسات والمنشآت العمومية وارد بنسبة 90 في المائة وستتخذ الهيئة الإدارية التي ستنعقد يوم 13 سبتمبر القرار الملائم خاصة بعد أن كان مجمع القطاع العام أقر مبدأ الإضراب العام ويأتي هذا الَقرار كردّ على سياسة التسويف والمماطلة التي تعتمدها الحكومة في ملف القطاع العام المستهدف>>

في انتظار هذا الموعد بدأت سلسلة من الاجتماعات التشاورية والتحسيسية على مستوى القطاعات والنقابات. وفي الجانب الآخر بدأت التسريبات تتحدث عن عزم الحكومة على اتخاذ قرارات تحرُم الاتحاد من مكاسبه الشرعية على غرار القرارات التي اتخذها مزالي سنة 1985 مثل إلغاء الخصم المباشر وإيقاف العمل بالتفرغ.

هذا هو الوجه الاقتصادي الاجتماعي للصراع بين الحكومة وتوجهاتها الليبرالية المتوحشة والمنظمة الشغيلة الرافضة والمتصدية لهذا التوجه ،غير أن هذا الصراع ليس بمعزل عن المعركة السياسية التي تدور رحاها صلب السلطة وحزبها الحاكم فما هي أهدافها وأطرافها وكيفية إدارتها؟

II ـــ البعد السياسي للأزمة

أولا ـ الشاهد فرس رهان الاتحاد الأوروبي

للناظر بالعين المجردة يبدو أن الصراع السياسي في تونس لا علاقة له بالصراع الاجتماعي الاقتصادي فهو يدور بين أطراف السلطة الحاكمة وبالتحديد بين طرفيْ حزبها بل بين رأسيْ السلطة التنفيذية: رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة على الاستحقاق الانتخابي لرئاسة الدولة، لكن الناظر بالبصر والبصيرة يكتشف أن هناك أصابع خفية تتحرك من وراء الستار، فاستغلت هذا الصراع لتراهن على الشاهد لتمرير ما تسميه بالإصلاحات الكبرى،فالشاهد بحكم خياراته وارتباطاته وتعهداته وسنّه هو أقدر على ضمان مصالح المؤسسات الدولية والإيفاء بالالتزامات والأقدر على إدارة الصراع، فقد تمكن في ظرف سنتين من إقالة ستة وزراء بموافقة رئيس الجمهورية او بعدم موافقته (عبد الجليل بن سالم وزيرالشؤون الدينية 4 نوفمبر 2016 ،عبيد البريكي وزير الوظيفة العومية25 فيفري 2017 ، لمياء الزريبي وزيرة المالية وناجي جلول وزير التربية 30أفريل 2017 ،لطفي براهم وزير الداخلية 7 جوان 2018 وأخيرا أقال خالد بن قدور وزير الطاقة يوم 3 سبتمبر2018 وأحال وزارته على وزارة الصناعة).كما تمكّن من أن يشقّ قيادة النداء وأن يُجبرها على التصويت لفائدة وزير الداخلية هشام الفراتي الذي اختاره دون موافقة رئيس الجمهورية أوالحزب ، خوفا من التصدع ،كما بدأ بتأسيس كتلة الائتلاف الوطني البرلمانية التي بدأت تتمدد، وكان رصيده في كل ذلك محاربة الفساد. أما الطرف الثاني في المعادلة فهما الأب والابن ، فالأب بالنسبة للاتحاد الأوروبي عجوز انتهى، بعد أن أدى وظيفته بإعادة الثورة المضادة في شكل النداء إلى الحكم ، لكن الابن ـــ الذي يسعى لأن يرث أباه عن طريق الآلة الحزبية ــ لا يملك ما يؤهله لهذه المهمة الصعبة ولا يمكن أن يكون فرس رهان الاتحاد الأوروبي الذي يعرف كيف يختار ومتى يختار ومن يختار للمحطات المفصلية. ولتمرير<<الإصلاحات الليبرالية >> اختار الاتحاد الأوروبي الشاهد وأخطر ما في الرهان هو مجابهة المنظمة الشغيلة. غير أن السباق نحو الرئاسة لا ينحصر في زعامات حزب نداء المهزوز، فهناك طرف آخر هو حزب النهضة الذي كان يترصد بحذر شديد نتائج الصراع، وقد هيأ الأرضية وأعدّ العدة ليخوض معركة الرئاسة بنفسه او بشخصية تحظى بموافقته. فيم تتمثل الأرضية التي أعدتها النهضة للسباق الرئاسي؟

ثانيا ـــ النهضة والسباق نحو الرئاسة

إن أي سباق نحو أية مسؤولية حق مشروع لكل مواطن ومن حق أي تنظيم أو منظمة أن تسانده انطلاقا من خياراتها وأهدافها ،لكن شريطة ألا يكون ذلك على حساب المصلحة الوطنية والأهداف القومية والقيم الإنسانية ، فهل تعتزم النهضة الترشّح أو الترشيح ؟ العديد من المؤشرات تدل على أنها عقدت العزم على خوض معركة الرئاسة وعملت على توفير الظروف المساعدة خارجيا وداخليا.

1ـــ على المستوى الخارجي

أ ـــ عملت على التسويق لنفسها على أنها حزب مدني بخلفية إسلامية على غرار بعض الأحزاب الأوروبية وتتونست وأسقطت المهمة الدعوية.

ب ــــ تخلت النهضة الحاكمة عن كل مقولات النهضة المناضلة فلم نعد نسمع في الخطاب السياسي للحركة ــ منطوقا أو مكتوبا ــ ما يشير لا من قريب ولا من بعيد إلى مقولات << فلسطين مسرى الرسول وأولى القبلتين وثالث الحرمين>> بل على العكس من ذلك ، فقد رفضت تجريم التطبيع دستوريا وقانونيا ،ونالت ثقة السناتور الأمريكي المتوفى حديثا جون ماكيل الصديق الحميم للكيان الصهيوني والمدافع الشرس عن الإخوان المسلمين وعن الإسلام الديمقراطي.

ج ـــ تتسابق في الحج إلى جربة مع بقية الحجيج السياسيين أين يتطهرون ويُكفّرون عن معاداتهم للصهيونية زمن النضال ويعرّجون على الغريبة لعلهم يحظون بمقابلة بعض الزعامات التي ستتولى رفع المحظورات عنهم في دوائر النفوذ العالمية .

فهذه الدوائر سبق لها أن رفعت المحظورات عن حركة الإخوان وخاصة النهضة وقد باءت بالفشل كل محاولات السعودية والإمارات لتصنيفها ضمن الحركات الإرهابية ، والاستثناء الوحيد الذي مازالت له مواقف احتراز على الإخوان ــ بما في ذلك النهضة ــ هو فرنسا التي وقفت سدا منيعا أمام دخول تركيا الإسلامية للاتحاد الأوروبي، وقد تكون وراء الاغتيالات في تونس لإرباك الوضع وعودة الثورة المضادة،كما أن لفرنسا زبائنها التاريخيون من الحرْكيين والمطبعين والفرانكفونيين والمثليين والجندريين وكل المنبتين الذين وجدوا أخيرا حاوية حزبية احتضنتهم جميعا ولا غرابة في ذلك، فقد سبق لهذه الحاوية أن اعتبرت المنصف باي في الأربعينات ــ رمز الوطنيةـ مجرم حرب يجب تقديمه لمحكمة نورنبارغ التي حاكمت النازيين .

2 ـــ على المستوي الداخلي

أ ــ أكدت البرامج الاقتصادية الاجتماعية الانتخابية للنهضة أنها تكاد تكون نسخة مطابقة للأصل لبقية الأحزاب الليبرالية المعولمة مضافة إليها بنوك الصيرفة الإسلامية التي غزت أوروبا.

ب ـــ استطاعت أن تسجل حضورها بكثافة في الانتخابات البلدية وتفوقت على كل الأحزاب بما في ذلك الحزب الحاكم بل أن تفتك منه بلدية الحاضرة، وأن تختار لها امرأة غير محجبة.

ج ـــ توخت سياسة لي العصا مع رئيس الجمهورية ورفضت إقالة الشاهد بحجة المحافظة على الاستقرار رغم أنف الاتحاد والحزب الحاكم ورئيس الدولة نفسه، مما مكنه من تمرير خياراته بسلام في مناخ سياسي متوتر.

3 ــ أين تقف النهضة من الصراع بين حكومة الشاهد والاتحاد؟

ذاك هو التساؤل المطروح في خضم معركة الوجود التي يخوضها الشاهد والتي اعتبرتها بعض القيادات النقابية ــ عن غير وعي ــ بأنها معركة حياة أو موت، فالصراع الحالي ليس معركة حياة أو موت بل هو مجرد محطة مفصلية صغيرة لا معنى لها أمام المعارك الكبرى التي خاضتها المنظمة وخرجت منها جميعا منتصرة لسبب بسيط أنها اتحاد المناضلين بالساعد والفكر الذين كانوا يرومون دوما تحقيق

العدالة والعدل ولا يُسوّقون للاستغلال والظلم والاستبداد ، قد يرتكبون أخطاء لكنهم لا يسقطون في الخطيئة. فهل تسقط النهضة في هذا المحرّم؟

لحد الآن يبدو أن النهضة اختارت أن تقف إلى جانب الإصلاحات الكبرى المزعومة وهي كلمة حق أريد بها باطل، وعلى أساسها كان دعمها المشروط للشاهد وقد وضعته أمام خيارين، أحلاهما مرّ: البقاء أو المغادرة؟

1 ــ البقاء على رأس الحكومة، وهذا سيحرمه من الترشح للرئاسة ويفسح المجال لمرشحها، لكن الأخطر من ذلك هو الدخول في عملية كسر العظام مع الاتحاد العام التونسي للشغل ، وكل تصريحات قياداتها وتعليقات وسائل الإعلام القريبة منها تؤكد أن النهضة ستدعم الشاهد لأنه سيحقق لها هدفا عجزت عن تحقيقه بنفسها زمن الائتلاف الثلاثي حيث سعت لتقزيمه وإرجاعه لمربع المطلبية كما تريد العولمة، وفي هذه الوضعية سيكون الشاهد الخاسر الوحيد حتى ولو انتصرعلى الاتحاد لأنه سيتخلى عن طموحه السياسي، وإذا كان يتمتع ولو بقسط من الذكاء السياسي عليه أن يتساءل لمن سيقدم هذه الخدمة المجانية ؟

2 ـــ أما مغادرته السلطة فسيفقده آلية (ماكينة)حزبية متوغلة في أعماق تونس لها قدرة على الدعاية والتأطير ، ويكون من الصعب عليه توفير البديل من الكتل البرلمانية المدعمة له، فإمكانياتها محدودة إذا خرجت من أسوار البرلمان، ولا تستطيع النهضة مساعدته فستبحث عن حليف آخر وسيكون بالضرورة هو النداء ، لكنه ضعيف وممزق ، ولن تنطلي على المواطنين لعبة الاستقطاب الثنائي التي أعادت الثورة المضادة في ثوب النداء في انتخابات 2014 ، فالتاريخ ــ كما يُقال ــ لا يعيد نفسه ـ إلا في شكل مهزلة.

ثالثا ــ الشاهد والخيار الثالث

ليس من المستبعد أن يختار الشاهد خطا ثالثا إذا وجد الدعم من للاتحاد الأوروبي ومن فرنسا بالذات فيواصل بقاءه في السلطة ويلبّي املاءات صندوق النقد الدولى ويترشح للرئاسة، وليس هناك في دستورالبلاد ما يمنعه،غيرأن هذا الترشح رهين نجاحه في تحقيق ثلاثة أهداف:

1ـــ تغيير موازين القوى داخل نداء تونس وهو أمر لا يكلفه جهدا كبيرا بعد أن اهتزت صورة مديره التنفيذي حافظ وقد تشكلت نواة من البرلمانيين (كتلة الائتلاف الوطني) ويمكن للسفير الفرنسي ــ وهو الذي يتدخل في كل شيء في تونس بما في ذلك المطابخ التونسية وربما حتى غرف النوم ــ أن يخاطب رجال أو نساء الأعمال حتى ينصاعوا لطلبه ويفرّغوا النداء وينضموا لكتلته.

2 ـــ إقناع الاتحاد الاوروبي للباجي بتغيير موقفه من الشاهد فهو بديله الوحيد في خضم الصراعات الحادة ويضعونه أمام خيارين:إما الشاهد وإما النهضة، ويذكرونه بدور الاتحاد الأوروبي ــ السري والعلني ـــ في عودة النداء سليل التجمع والدستور، للسلطة ويلفتون انتباهه إلى أن عودة النهضة للحكم بالنسبة للاتحاد الأوروبي خط أحمر مهما ناورت وتنازلت وانبطحت.

3 ـــ الاستجابة لأكثر ما يمكن من مطالب الاتحاد العام التونسي للشغل وتأجيل النظر في بعض الملفات الكبرى وخاصة التفويت في مؤسسات القطاع العام التي يعتزم

الاتحاد شن إضراب عام من أجلها ثم تأجل اجتماع الهيئة الإدارية المقرر عقدها يوم 13 سبتمبر ثم تقرر تأجيلها ويؤكد سامي الطاهري أنها لأسباب موضوعية في علاقة بظروف النقابيين ولا علاقة لها بعوامل خارجية.وبقطع النظر عن أسباب هذا التأجيل هل جاء نتيجة لطبخة يعدّها الباجي مع الاتحاد الأوروبي لتحييد الاتحاد أم لأسباب خاصة بالنقابيين، فإن هذا لا ينفي أن تونس تعيش صراعا بين رغبة الدول الاستعمارية وزبائنها في إعادتها لمربع التبعية وإرادتها في الاحتفاظ بقرارها الوطني المستقل بعد أن أخرجتها الثورة من مستنقع الارتهان للخارج.

وإذا نجح خيار التبعية فمن الأكيد أنه سيفرز دكتاتورا صغيرا جديدا. وهو ما تطمح إليه بعض الأوساط المنبتة في الداخل والتي ليس لها أي أمل في كسب ثقة الشعب على المدى القريب أو البعيد، وبعض الأوساط في الخارج التي يسيئها أن تكون تونس ديمقراطية تتفاعل مع منظومة حقوق الإنسان في تناغم مع هويتها .هاتان الفعاليتان الداخلية والخارجية تعملان للعودة بتونس لمربع الاستبداد والفساد فالتاريخ يزخر بصعود المستبدين من رحم الديمقراطية.ذاك هو التمظهر السياسي فأين يتجلى البعد الحضاري للصراع ؟

III ـــ البعد الحضاري للصراع

تعدّ تونس ــ لدى الكثير من المحللين الأوروبيين وحتى العرب ــ أشد انفتاحا على الغرب إلى درجة التبعية والاستلاب، وهذا ما تؤكده الأزمة العميقة بأبعادها الثلاثة والخيارات الصعبة المطروحة أمام الشعب ونخبه الفكرية والسياسية.لكن العلاقة بينها غير معلنة بل غير ظاهرة. وفي الفقرتين السابقتين تعرضتُ إلى العلاقة بين الاجتماعي والسياسي،وكما هي العلاقة بين الصراع السياسي والاجتماعي خفيّة لا نلحظها بالعين المجردة، فهي أشد اختفاء بين الصراع الاجتماعي الاقتصادي من ناحية والصراع الحضاري من ناحية أخرى. والواقع أنها أوجه متكاملة لحقيقة واحدة تعود إلى طبيعة الاستعمار اللاتيني الذي ينهض على استغلال خيرات الأرض وتبعية ساكنيها، ولا يتأتى لها ذلك إلا بغزوهم ثقافيا وحضاريا. وقد جاءت العولمة لترسّخ هذا الفكر الاستعماري الشمولي، فهي تقوم على كسر الحواجز الجغرافية والاقتصادية وإلغاء الهويات الوطنية لفرض نمطية اقتصادية وثقافية عابرة للشعوب والقارات. وهذا ما عناها فاكو ياما بنهاية اللتاريخ.

ويتجلى ذلك بكل وضوح في تقرير لجنة الحريات الفردية والمساواة في الميراث. فإذا كانت الحريات الفردية اعتبرت ــ لدي الرأي العام ـــ من المسلمات باعتبارها تحيل على حرية التعبير والتنظّم وحتى حرية المعتقد فإن الحريات المعنية والمسكوت عنها ليست هذه المفاهيم البناءة بل حرية الجسد وليست حتى حرية العقل للتصرف في الجسد. وحرية الجسد تعني أساسا إلغاء كل القيم وكل القوانين ــ مهما كان مصدرها الأرض أو السماء ـــ التي تنظم العلاقات الأسرية ، فلا معنى لمفهوم الحرام والحلال السماوي، ولمفهوم الممنوع والقانوني الأرضي ، فهذه الضوابط تعتبر مكبلات لحرية الجسد يجب إلغاؤها من قاموس الإنسانية.فالزواج مثلا يجب أن يلغى لأنه يُحيل على المهر والنفقة والحضانة والطلاق والعدة وبالجملة فهو يحيل على سيطرة الرجل على المرأة، ويجب أن يستبدل بالتزاوج الذي يعني المشاركة

الحرة بين طرفين وليس بالضرورة أن يكون التزاوج بين جنسين مختلفين، امرة ورجل، بل يمكن أن يتم بين متماثلين رجلين أو امرأتين، فلم تعد غاية الزواج الإنجاب والمتعة بل انحصر في المتعة فقط ، فيمكن لشخصين متماثلين أن يتبنيا طفلا.وعلى المرأة أن تتخلص من الثقافة الموروثة لأنها ثقافة ذكورية فرضتها التربية العائلية ، والعائلة هي كارثة الكوارث يجب تفكيكها وفسح المجال للقيم الفردانية التي لا تعترف بالضوابط فالفرد يعلو ولا يعلى عليه . وبذلك يلغى التواصل بين جيلين أو ثلاثة داخل الأسرة: الأبناء والآباء والأجداد، فعائلتنا عموما نهضت على التواصل والتراحم والتعاون بين هذه المكونات فحافظ المجتمع على تماسكه. وقد تعاون على هدم هذا البناء الهرمي في تونس سلفيتان: سلفية دينية والدين منها براء، وسلفية حداثة والحداثة منها براء، وكل منها تتغذى من الأخرى وبها تبرّر وجودها ،وتعتبر نفسها مالكة للحقيقة المطلقة وبها تشرّع إقصاءها للأخرى، ليس عن طريق قوة الحجة بل عن طريق حجة القوة، فحجة القوة عند السلفية الدينية هي الجهاد وحجة القوة عند السلفية الحداثية هي قرار يصدر عن السلطة، فكلاهما يستنسخ زمانيا أومكانيا ويُسقط ويفرض ، ولا أهمية لإرادة الشعب الحرة ، فهو في نظرهما مستلب لا يدرك إلا بالمسّ والجسّ، لذا يجب أن يأتي لسلطة القرار راغبا أو مكرها، ولا تأتي إليه سلطة القرار بل مهمتها أن تملي على الشعب الذي عليه أن يسمع وأن يطيع.وفي هذا الإطار يتنزل الزواج العرفي وجهاد النكاح بالنسبة للسلفية الدينية وكذلك الفردانية وحرية الجسد وكلاهما إفراز لفلسفة الجندرة والمثلية لدى السلفية الحداثية.

وكلا السلفيتين تنكران دور العلم والعمل في تطوير الوعي عند الانسان ،المرأة والرجل معا، فالمرأة عندما تكتسب نصيبا من المعرفة وتقتحم سوق الشغل لم تعد بحاجة لقوانين مسقطة.وبقطع النظر عن قوانين السماء أو الأرض ، فهل تقبل امرأة مثقفة وعاملة أن تكون زوجة ثانية أو ثالثة أو رابعة؟إن المرأة ليست بحاجة إلى قوانين يسوّق لها من جعلوا من حرية المرأة راس مال تجاري بقدر ما هي بحاجة أكيدة إلى مزيد من تحسين ظروف التمدرس والمزيد من تحقيق فرص العمل.

ويبدو أن رئيس الدولة أدرك الأبعاد الخفية لهذا المشروع وتداعياته السلبية على المجتمع بل عليه شخصيا، فتراجع وحصره في المساواة في الإرث لأنه لا يريد ولا يستطيع أن يرفض مقترح الاتحاد الأوروبي صاحب المشروع الحقيقي الذي أوصى منذ سنة 2016 بالمساواة في الإرث وإلغاء الفصول المتعارضة مع المثلية من المجلة الجزائية.والمساواة في الإرث ــ في تقديري ــ ليست انحرافا عن مقاصد الشريعة الإسلامية بل هي مجال للاجتهاد .غير أن النظر في هذه المسائل الشائكة لا يمكن أن يوكل إلى لجان منصبة مشبوهة لا علاقة بهوية المجتمع العربية الإسلامية. وقد اتضح أن مهمتها أن تستنسخ القوانين وتسقطها وتفرضها عن طريق سلطة مهزوزة. فالأولى أن تتولى هذا الأمر لجنة يفرزها المجتمع من ذوي النظر في العلوم الدينية وفي علم الاجتماع وعلم النفس وسلك القضاء الخبير بقضايا المجتمع ، يطمئن إليها الرأي العام ثم تقدم إما لمجلس نواب الشعب أو للاستفتاء الشعبي .

ذاك هو المسلك الطبيعي لاحترام إرادة شعبنا الذي خرج مع الثورة من عهد الرعية إلى عهد المواطنة.وهذا ما يرفضه انصار السلفيتين الذين لا يؤمنون بالإنسان الحر المريد الفاعل، بل بالإنسان الذي استلبته القيم الغيبية أو الإنسان المعولم الذي فقد هويته بل وإنسانيته، فتشيّأ وتحوّل إلى آلة للإنتاج والاستهلاك ليراكم أرباح الاحتكارات الإمبريالية العالمية.فكيف ستُحسم هذه الإشكالات الثلاثة هل بإرادة حرة أم بالإملاءات؟ ذاك هو جوهر الصراع بين الثورة والثورة المضادة بتونس.

سالم الحداد زرمدين / المنستير/ 11 سبتمبر2018

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *