اعلان البنك المركزي التخفيض في نسبة الفائدة على القروض: «عملية انتحارية» لانقاذ الاقتصاد.. ؟

      الاقتصاد مهدد بالانهيار ومواطن الشغل في خطر

بقلم: جنات بن عبد الله
بعد ان تحفظ عن نشر تشخيصه للوضع الاقتصادي في شهر أوت الماضي واعلانه في شهر جويلية عن دخول الاقتصاد التونسي مرحلة الانكماش التقني، خرج البنك المركزي يوم الاربعاء الماضي عن صمته ليعلن للشعب التونسي عن حقيقة الوضع الاقتصادي الذي اصبح يخيم عليه شبح الانكماش المالي.
ففي بيانه الاخير الصادر يوم الاربعاء 28 أكتوبر 2015 عن مجلس ادارته، قدم البنك المركزي تشخيصه للوضع الاقتصادي بعد تكتم شديد، ربما حاول اثناء تلك الفترة تحسيس السلطة التنفيذية بخطورة الوضع والسماح لها بالاستباق واقرار اجراءات استثنائية تحد من تفاقمه، قدم البنك الحقيقة المرة التي طالما عملت السياسة النقدية منذ الثورة على تفاديها وحماية الاقتصاد التونسي من عواقبها وهو الوقوع تحت ضغط الانكماش المالي، وضع يرهب الخبراء الاقتصاديين اكثر من ضغط التضخم المالي باعتبار صعوبة العلاج واستحالة الخروج من هذه الازمة في المدى القصير وحتى المتوسط.

وبعيدا عن نقد المنظمة الشغيلة بخصوص المسار الذي اختارته للدفاع عن حقوق منخرطيها والمطالبة بتحسين مقدرتهم الشرائية، وحتى لا نحمّل الطبقة الشغيلة مسؤولية الراهن، فقد تظافرت عدة عوامل كان بالامكان السيطرة عليها في البداية لو تحملت الحكومات المتعاقبة بعد الثورة وحكومة الائتلاف مسؤولياتها الوطنية والتعاطي مع الملف الاقتصادي من منظور تهديد الامن القومي.

الانكماش المالي

إن بوادر الانكماش المالي الذي هو عبارة عن انخفاض متواصل في اسعار السلع والخدمات ليس بسبب وفرة العرض والانتاج ولكن بسبب قلة الطلب في ظل تراجع المقدرة الشرائية وتدني السيولة النقدية، هذه البوادر بدأت تظهر خاصة بعد الصدمات التي ضربت القطاع السياحي والتي من تداعياتها تراجع الطلب على عديد المنتوجات لتتراجع نسبة التضخم وتستقر في حدود ٪4.2 للشهر الثالث على التوالي.

هذا التراجع لا يعود الى عبقرية السلطة التنفيذية الغارقة في البحث عن المناصب وفي توزيع المسؤوليات ولكن الى ضعف الاقتصاد الوطني وتقهقره بسبب غياب السياسات القطاعية وغياب منوال تنمية جديد يقطع فعليا مع المنوال الحالي ويؤسس لمرحلة جديدة تثمن كل القطاعات.

تارجع الطلب والتضخم ؟

ولاول مرة في بياناته الشهرية، يصدر البنك المركزي تحليلا مستفيضا للوضع الاقتصادي مرفقا للتشخيص حيث فسر بالتدقيق طبيعة المرحلة. ففي ظل ضعف نسق النشاط الاقتصادي والذي تترجمه كل المؤشرات القطاعية، وتزامن ذلك مع تراجع نسبة التضخم بسبب تراجع الطلب، يتحول هذا التزامن الى مصدر لمخاطر الانكماش المالي ويتعمق هذا الوضع في ظل مؤشرات تؤكد تواصل هذا المسار خلال الاشهر القادمة، حسب بيان البنك المركزي.

لا مفر من الانهيار…

في ظل هذا التقهقر، ورغم محدودية آثار السياسة النقدية على الاستثمار والاقتصاد الحقيقي، وفي محاولة استباقية منه تستهدف «بسيكولوجيا» الفاعلين الاقتصاديين اقدم البنك المركزي التونسي على التخفيض في نسبة الفائدة الرئيسية بـ50 نقطة اساسية لتصبح في حدود ٪4.25.
ولئن أجل البنك المركزي طوال السنتين الاخيرتين التحرك من خلال آلية نسبة الفائدة الرئيسية تخوفا من تداعياتها على ارتفاع الاسعار والتضخم باعتبار ان التخفيض في هذه النسبة سيؤدي الى التخفيض في كلفة القروض وخاصة قروض الاستهلاك التي اصبحت تشكل اهم معاملات البنوك التونسية العمومية منها والخاصة كبديل عن قروض الاستثمار التي تراجعت بسبب الركود الاقتصادي وتراجع الانتاج في ظل غياب عنصر الثقة بين الشعب والسلطة السياسية، وايضا في ظل غياب حكومة قوية تحمل مشروعا ورؤية واضحة وواعية بخطورة التطورات وتداعياتها الكارثية على الوضع الاقتصادي والذي وصلنا اليه اليوم ويصعب الخروج منه نظرا لصعوبة ذلك حسب التجارب العالمية وخاصة تجربة الاقتصاد الياباني الذي عانى طوال عقد من الزمن من هذا الانكماش المالي والذي سمي بالعقد الضائع من جهة، ومن جهة اخرى نظرا لعجز المسؤولين في حكومة الائتلاف عن فهم دلالات ما يحدث واصرارهم على مواصلة العمل بنفس الآليات والبرامج، ويظهر ذلك من خلال التصريحات غير المسؤولة لوزير المالية والتي تكشف انسلاخه عن الواقع التونسي، وصمت السلطة التنفيذية وعدم مصارحتها الشعب بحقيقة ما آلت اليه الامور، ربما في انتظار استكمال تقسيم «الكعكة».

تهديد جدي وسيناريو خطير

اعلان البنك المركزي التخفيض في نسبة الفائدة الرئيسية ينبئ بسيناريو خطير ينتظر الاقتصاد التونسي والشعب التونسي بصفة عامة من الذين لهم موطن شغل والعاطلين عن العمل بنفس الدرجة واصحاب الأعمال والصناعيين والفلاحين والناشطين في قطاع الخدمات.
ان اقبال البنك المركزي على التخفيض هي محاولة انتحارية لانعاش الاقتصاد الوطني. فالتخفيض في مثل هذه الظروف لن يؤدي الى تحفيز الاستثمار باعتبار ان سقوط الاقتصاد الوطني في شرك الانكماش المالي يؤدي الى العزوف عن الاستثمار حتى وان انخفضت اسعار الفائدة الى درجة الصفر واصبحت القروض مجانية فان ذلك لن يشجع على الاستثمار لان الشركات ومنظومة الانتاج بصفة عامة لن تجد أمامها طلبا يستهلك ما ينتج وهو ما يفتح الباب على مصراعيه لدخول الاقتصاد التونسي في حلقة مفرغة من الازمة المتفاقمة.

مواطن الشغل مهددة

ان خطورة الانكماش المالي (وهو عكس التضخم المالي) تكمن في صعوبة العلاج والخروج من الازمة. ولئن يمكن للسلط السياسية النقدية السيطرة على التضخم برفع اسعار الفائدة والتقليص من الطلب على السلع والخدمات والتقليص من النشاط الاقتصادي فان وضعية الانكماش المالي هي اسوأ من التضخم ونتائجها اكثر خطورة باعتبار ان تزامن الانكماش الاقتصادي اي تراجع الانتاج وتراجع العرض مع الانكماش المالي اي تراجع الطلب بسبب ضعف المقدرة الشرائية ليس بسبب ضعف الاجور فقط ولكن وايضا بسبب اتساع رقعة العاطلين عن العمل نتيجة عملية التسريح وغلق المؤسسات والشركات، كل ذلك يدخل الاقتصاد الوطني في حلقة مفرغة يتطلب الخروج منها سنوات وصلت في اليابان اكثر من عشر سنوات.
اليوم كل من له موطن شغل هو مهدد بفقدانه، وكل من ينتظر خلق موطن شغل سيصطدم بحالة ذعر عميقة بسبب غلق الشركات وتسريح العاملين فيها.. ولا نخفي سرا ان قلنا ان السلط السياسية ستقف عاجزة عن تطويق الازمة والسيطرة عليها وقد برهنت عن ذلك طوال الفترة الاخيرة بل ان الحكومات هي التي عمقت الأزمة بتجاهلها  لحقيقة التطورات ودلالاتها وتداعياتها.

 المستهلك لن يستفيد

وربما يعتقد البعض ان المستهلك سيستفيد من انخفاض نسبة الفائدة وسيقبل على مزيد من قروض الاستهلاك وسيساهم في دفع النشاط الاقتصادي من خلال الترفيع في الطلب والاقبال على استهلاك السلع والخدمات والعقار، فان مثل هذا السيناريو بعيد التحقيق باعتبار ان كل موظف هو مهدد اليوم في مصدر رزقه ولا يمكن ان يغامر ويقبل على مزيد من القروض في ظل مستقبل قريب قاتم وحالك.

معركة الاحتضار

الأكيد انه في المجال الاقتصادي لا يوجد مستحيل وان التحرك والتفاعل يجب ان يكون سيد الموقف ومنهجية عمل لدى الفاعلين الاقتصاديين والسلط السياسية والنقدية حتى وان كانت النتائج محدودة وذلك أفضل من حالة الانتظار والتجاهل والمغالطة.
والأكيد ان الشعب التونسي اليوم معني بحالة الطوارئ الاقتصادية وبمواجهة الاحتضار. ولعل اول خطوة يجب ان تقدم عليها السلط السياسية هي رفع الغشاوة ومواجهة الحقيقة المرة وتكليف المختصين والخبراء القادرين على تقديم الحلول والابتعاد عن المنطق الحزبي والمحاصصة السياسية والحزبية… فاليوم كلنا مهددون بالغرق ولن يجدوا ما يقتسموه… فالمعركة هي معركة حياة او موت وبالنظر الى هشاشة الاقتصاد التونسي وتبعيته لاوروبافاننا نقدر حجم المقاومة مقارنة مع حجم الاقتصاد الياباني وما يعرف عن اليابانيين من حبهم للعمل الا انهم بقوا في شرك الانكماش المالي لاكثر من عقد من الزمن.
المنظمة الشغيلة ومنظمة الاعراف مدعوتان الى التعاطي مع الواقع الاقتصادي من زاوية مختلفة بعيدة عن منطق التجاذب والاصرار… الاعراف مهددون بالاغلاق والافلاس والشغالون مهددون في مصدر رزقهم… ومن هذا المنظور وباعتبار ان المصير واحد فانه وجب التعاون بين المنظمتين لانقاذ ما يمكن انقاذه.
السلطة النقدية هي الحارس الأمين لهذا الاقتصاد وقد تحملت مسؤوليتها كاملة في الاصداع بحقيقة الوضع بعيدا عن الخلفيات السياسية وهو ما يحسب لفائدتها، الا ان دورها مازال قائما في تعديل السوق ومتابعته وحمايته من الانزلاقات.
المجتمع المدني معني هو ايضا وخاصة الاعلام المدعو اليوم الى الابتعاد قليلا عن التجاذبات والمطارحات السياسية والمساهمة في انقاذ البلاد والعباد وتجنيد كل العاملين في القطاع من اجل التحسيس والتعبئة، تعبئة كل الخبرات وكل القطاعات المنتجة والمحامين والقضاة من اجل محاصرة الازمة والحد من تداعياتها الكارثية.
واليوم حان الوقت لنقول لنواب الشعب والاحزاب السياسية سواء تلك التي هي داخل السلطة او خارجها، تحملوا مسؤولياتكم او اتركوا مكانكم لمن هم أقدر منكم.

( عن الصحافة ) 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *