استئناف نظر في علاقة الدعوي بالسياسي .. بقلم د.أحمد زقاقي

بعد المؤتمر الأخير لحركة النهضة التونسية كثر الكلام عن علاقة الدعوي بالسياسي، واختلفت الآراء والمواقف بشأن قرار الحركة التفرغ التام للسياسة، وتفويض أمر الدعوة لمنظمات المجتمع المدني. ويظهر لي أن ذلك القرار كان اضطرارا ولم يكن اختيارا في ضوء الحملة الإعلامية الشرسة التي تشنها على الحزب الكثير من الجهات العلمانية واليسارية، وفي ضوء الحرب العالمية الاستباقية وغير المعلنة التي يديرها من وراء ستار المحور الأمريكي الروسي الصهيوني الذي يُظهر الخلافات لذر الرماد في العيون ويخفي التوافقات لضمان الانتصار في الحرب، وتمثل “داعش” رأس الحربة في ذلك المخطط، و”الطائفية” الطريقة المثلى لتقسيم المنقسم، بشكل جعل الكثير من الدارسين والمراقبين يتحدثون عن اتفاقية “كيري-لافروف” التي حلت محل اتفاقية “سايكس- بيكو” لتغيير الخريطة الجغرافية والديموغرافية والسياسية للمنطقة.

شخصيا لم يحمل لي قرار النهضة أية مفاجأة لأن الدعوة كانت أصلا مركونة ومنزوية في الهامش عندها، ولم تأخذ النفس الكافي لترتيب العلاقة بين الدعوي والسياسي بهدوء وروية. فمن مكابدة قمع نظام بن علي وسجونه ومعتقلاته ومنافيه، إلى الاستغراق الكلي في السياسي وتدبير الحكم بعد الثورة، إلى الانزلاق نحو “اللغة الانهزامية” في العلاقة بينها وبين مخالفيها، والتعبير بشكل محتشم عن الانتماء إلى “المرجعية الإسلامية”، بينما ظل المعسكر الآخر متمسكا حد التطرف بلغته الخشبية في مواجهة “الظلاميين” و”الرجعيين” و”الإرهابيين”. فلِم الحرص على التحالف مع “الثعالب العجوزة” التي فاتها الركب وفاتها القطار، ولِم الحرص على إحياء الرمم البالية.

إن النظر في علاقة الدعوي بالسياسي يقتضي القيام بانعطافتين:

انعطافة نحو الداخل الأنفسي، وانعطافة نحو الخارج الآفاقي.

1. الانعطافة نحو الداخل الأنفسي

أحب أن أصدر الحديث عن هذه الانعطافة بتوضيح ماهية “الدعوة”، لاسيما وأن بعض الدارسين والمتتبعين قد هرَّب النقاش عن علاقة الدعوة بالسياسة إلى النقاش عن علاقة الدين بالسياسة، ولهذا يجدر التنبيه إلى أن الأمر لا يتعلق في مجتمعنا بنقل الناس من كفر لإيمان، ولا من جاهلية لإسلام، كما تفعل بعض التيارات الجامدة التي تعتمد التقسيم الصِّدامي للعالم “دار حرب” و”دار إسلام”، وإنما يتعلق الأمر بنفض الغبار والرَّان المتراكم على القلوب جراء الخَطَرات والغفلات والزلات، والقيام بالواجبات الدينية المفروضة من رب العالمين وليست مفروضة من أشخاص أو جماعات أو أنظمة، وإن سعت لفرضها فإنها ستُكثِّر سواد المنافقين لا المؤمنين.

إنها دعوة لا تأتي في سياق التبشير بالدين من جديد. فالناس كلهم مسلمون والحمد لله، بإسلامييهم وعلمانييهم وأمازيغييهم ويسارييهم على تفاوت بينهم في تمثل وتطبيق مقتضياته. وإنه لمن المعيب أن يدعي أحد احتكار المرجعية الإسلامية، كما هو معيب تحويل منظومة قيم هذه المرجعية إلى ساحة مستباحة تُفرِّغها- تحت دعاوي الاجتهاد- من مضامينها بدون حيازة ولو شرط واحد من شروط الاجتهاد، أو إخضاعها لمنطق النسبية المتطرفة (لا أحد يمتلك الحقيقة)؛ بحيث ننهض يوما لنبحث عما يمكن أن ندافع عنه فلا نجد شيئا، وكم هو عقيم ذلك الفهم الذي يتصور أن الناس كلهم سقطوا في مهاوي الشرك فيتضخم الجدل حول العقيدة والتوحيد، ويتم اللجوء إلى مسالك التعسير والتنفير وتوزيع أحكام التبديع والتكفير، إنما تأتي الدعوة في سياق تجديد الإيمان في القلوب، لتنطلق الجوارح بأعمال الطاعات والقربات، وخدمة الناس، والاستعداد للآخرة، وفي سياق إصلاح عميق ينفي عن الدين تحريف الغالين وتأويل الجاهلين وانتحال المبطلين.

فنحن المسلمون نعتقد اعتقادا جازما بأننا ميتون ومقبورون ومبعوثون ومحاسبون على أعمالنا إن خيرا فخير وإن شرا فشر، وبِوُسع من لا يقاسمنا هذا الاعتقاد أن يستلقي على ظهره ضحكا من التفكير “الخرافي” و”الماضوي” و”الغيبي”، لا حرج:

قال المنجم والطبيب كلاهما ////// لا تحشر الأجساد قلت إليكمــا
إن صح قولكما فلست بخاسر////// أو صح قولي فالخسارة عليكما

والمسلم مدعو إلى تذكُّر تلك الحقائق كلَّ يوم حتى تتحد وجهته، وتغدو كل حركاته خادمة للهم الأخروي على نحو لا يؤدي إلى الانزواء أو الانعزال أو إحداث قطيعة مع المجتمع أو إبداء وجه الكآبة والاكفهرار لعباد الله، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم- وهو الذي يُلقى إليه القول الثقيل- بِشْرُه في وجهه وحُزْنه في قلبه، إنها حقائق الموت والبعث والحساب تدعونا آيات الكتاب العزيز إلى التأمل فيها لنمسك بخيوط المعنى والمغزى والعبرة المتمحورة حول الحكمة الإسلامية القائلة: الموت بداية لحياة جديدة.

وإن محور النظر والعمل الإسلامي على صعيد هذه الانعطافة يدور حول هذا السؤال: ما العمل حتى لا تصرفنا واجبات التحرك السياسي، والتكوين الفكري، والتفرغ التنظيمي عن التهمم بمصيرنا الأخروي، وحتى لا نتشتت على سطح الأحداث، وهو تشتت عبر عنه وحذر منه بشكل بليغ الحديث الذي رواه أنس بن مالك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: “من كانت الآخرة همَّه جعل الله غناه فى قلبه وجمع له شمله وأتته الدنيا وهى راغمة ومن كانت الدنيا همَّه جعل الله فقره بين عينيه وفرق عليه شمله ولم يأته من الدنيا إلا ما قُدِّر له”، والمطلوب من البرامج الدعوية أن تضع خطة تربوية عملية ومتوازنة حتى لا تكون السمة الغالبة على أعضاء الأحزاب والحركات “زهادة بدعوى الروحانية، ولا إغراقا في الفكر، ولا تقصيرا ولا إسرافا في الحركة” لأن “إسلام الزهادة والهروب من المجتمع، والإسلام الفكري، والحركية على حساب التقوى والعلم ثلاثة مزالق”.

ومزالق ثلاثة أخرى تتهدد التنظيمات الداخلية:

مزلق أن تستهلك المهام التنظيمية والسياسية الأعضاء وهم في خضم خدمة مجتمعاتهم، حتى إذا التفتوا إلى قلوبهم وجدوها قاعا صفصفا من الإيمان فيسهل عند ذلك إفساد ذممهم المالية، وتشويه سمعتهم الأخلاقية، وشراء ضمائرهم، وتجنيد البعض منهم لاختراق الصفوف الداخلية.
مزلق تنصيب الدعوي وصيا مطلقا على السياسي، من غير أهلية كنقص الخبرة والتجربة والمعرفة بالواقع لأن معالجة النصوص ربما أيسر من معالجة واقع منفلت من الضوابط الأخلاقية، وتشتغل فيه مكونات أخرى يجب الإنصات إليها جيدا، وقد سبق للأستاذ عبد السلام ياسين رحمه الله أن نبه إلى خطر جسيم يجب تجنبه وهو “المغامرة أن تنتصب الدعوة بصفتها دعوة طرفاً في النزاع على السلطة الإدارية مهما كان حجمُ فصائل الدعوة وعَددها وتماسكها”، ودعا إلى القيام بإجراء مؤسساتي مهم وهو الحيلولة دون تولي الكوادر الدعوية والتربوية للمناصب السياسية حتى لا يتركوا فراغا يمكن أن يُحرِّف مسار التنظيم الدعوي، “فلا تدخل الدعوة حلبة الصراع على السلطة الحكومية فتتلبس لبوس السياسيين، بل تتفرغ من هم الدولة، وتتفرغ لتتويب (من التوبة) المسلمين وتعليمهم مبادئ الدين، والمحافظة على إيمان الفرد وصلاحه الشخصي”.

مزلق انطواء الدعوي تحت جناح السياسي، فتضيع القاعدة وتتشتت على سطح الاهتمامات السياسوية اليومية.

والأمثل هو أن يتخرج رجال السياسة من صفوف الدعوة بعد الاطمئنان إلى كفاءتهم، فيمارسون أعمالهم والأعين رقيبة عليهم لا في ما يتصل بدقائق تخصصاتهم (فأهل مكة أدرى بشعابها) ولكن في ما يتصل بمدى احترام القيم الأخلاقية التي تربوا عليها: قيم الزهد والعفة وسلامة الصدر والخدمة والتواضع وأداء الشعائر وفق ما هو مطلوب شرعا، ومعروف صنيع الحاكم الراشد عمر بن عبد العزيز رحمه الله عندما وَكَّل بمرافقته في كل تحركاته رجلا جعل مهمته الوحيدة أن يقول له إذا رأى منه انحرافا: “يا ابن عبد العزيز اتق الله فإنك ستموت”، والمفروض في الرقابة المذكورة أن يتولاها جهاز مُحكم، وقد انتبهت الكثير من الأحزاب بمختلف مرجعياتها إلى أهمية هذه المسألة فأسس البعض منها لجانا أخلاقية، ومما يشاغب على “توازن التربية” الغرق في مجادلات ومهاترات الشبكة العنكبوتية لأن إدمان متابعتها “يصوغ نمطا من (التفكير الأفقي) لا يبصر إلا الغلاف والقشرة الخارجية من المتغيرات، ولا يعرف إلا المنتج النهائي من التصورات الذي يقدم للمستهلك العام، لأنه غادر معامل الإنتاج إلى رفوف التسوق، وبالتالي فلا يمكن ترميم هذا النمط واستصلاحه إلا بإعادته للعيش التأهيلي في (عالم الإنتاج)”، وعالم الإنتاج هو محاضن التربية والدعوة.

وعلى صعيد الانعطافة نحو الداخل في تدبير علاقة الدعوي بالسياسي تطفو على السطح مظاهر الخصومة بين الإسلاميين ومخالفيهم، وتكثر معها الاتهامات من قبيل احتكار الدين، واستغلال الدين لأهداف سياسية، وعدم إقامة فواصل بين الدعوي والسياسي في ممارسة المعارضة. والأمر هين بالنسبة للتهمة الأولى؛ إذ يكفي ارتياد إخواننا العلمانيين للمساجد ومخالطتهم للناس ومزاحمتهم بالمناكب، ومخاطبتهم بما يفهمون والعكوف على كتاب الله تعالى تلاوة وحفظا وتدبرا، والحرص على سلامة الصدر ونظافة اليد حتى يزول تلقائيا احتكار الإسلاميين للدين. وبالنسبة للتهمة الثانية، فباطنها هو اشتراط تخلي الإسلاميين عن خطابهم الدعوي وسلوكهم الإسلامي كي يمارسوا السياسة وهذا محال لأنه سيفقدهم مبرر وجودهم أصلا. هذا بالإضافة إلى ما يستشف من ترديد هذه التهمة من وجود تصور كنسي للدين عند المُتَّهِم، وإسقاط لتاريخ العلاقة بين الدين والسياسية والدين والعلم عند الغرب على واقع العرب والمسلمين.

نعم إن تمة هواجس لدى الكثير من العلمانيين تتعلق بالتخوف من التسلط على الناس والتدخل في خصوصياتهم باسم الدين. تخوفهم مشروع ما دام يظهر، بين الفينة والأخرى، أناس يريدون فرض كل شيء بإرادة فوقية، ويصورون الشريعة كأنها ترسانة من القوانين “القمعية” ما فيها غير جلد الظهور وقطع الأيدي ولا يتحدثون عن شبهات الفساد والاستبداد والفقر والعوز التي توجب درء الحدود، بينما الأمر يتوقف على اقتناع عقلي واطمئنان قلبي، ولا تنفع في إيجاد الاقتناع والاطمئنان لا نعوت التكفير، ولا سوء التعبير الموجب للتنفير، ولا أدوات الدولة.

وتتعلق تلك الهواجس أيضا بالحريات، وفي هذا المضمار يجدر التنبيه إلى أن بعض النُّخب تعيد إنتاج نمط التفكير السلفي الجامد والمتحجر الذي يحتفل بالأشكال والجزئيات على حساب الجواهر والكليات، فيقول العلمانيون: إن حكمتم ماذا ستفعلون مع “الحانات” و”الخمور” و”دور الدعارة” و”القمار” و”لباس المرأة”…، والجواب يأتي في مقامين: في مقام تبيان حكم الدين، وفي مقام تبيان طرق تنزيل الحكم هنا يحضر فقه المآلات وفقه الأولويات ومراتب الأعمال.

2. الانعطافة نحو الخارج الآفاقي

يحسن القيام بهذه الانعطافة على مستويين:

على مستوى ترسيم العلاقة بين الدعوة والدولة حين التصدي للحكم.

على مستوى ترسيم العلاقة بين الدعوي والسياسي حين السعي إليه.

فعلى المستوى الأول، كل دول العالم وكل الحضارات تجتهد في رسم العلاقة بين الدين والسياسة، أو بين الثقافة والسلطة، أو بين الأيديولوجيا والعمل، أو بين النظرية والممارسة، أو بين الدولة والثورة. وفي هذا الباب يكتسي تأمل التجربة الشيوعية بعد الثورة البلشفية أهمية كبيرة؛ إذ اعتمدت “الماركسية- اللينينية” كعِلم للثورة، تعرضت في البداية للمؤامرات التي نسجها الغرب وكتائب الثورة المضادة، كان أول انقلاب على شعارات الثورة الشروع في إخضاع الشعوب الإسلامية في آسيا الوسطى والقوقاز للسلطة الجديدة بقوة الحديد والنار، وهو النهج الذي أكمله ستالين وذهب به بعيدا، وغطى على قمع الحريات بالإنجازات العلمية والصناعية الكبيرة، وظهرت الطبقة الجديدة “النومنكلاتورا” وسجون أرخبيل الجولاج، وشاع الحديث بأن الثورة تأكل أبناءها، وانقلبت الدولة على الثورة وضمتها تحت جناحها، وألجأتها إلى زوايا التبرير واصطناع الحلفاء والأتباع في الخارج، على الرغم من أنها وفرت مجالا للمناورة بالنسبة لدول العالم الثالث للتخفف من الضغوط الأمريكية.

وقبل الثورة البلشفية بقرون، سيلاحظ الدارس لتاريخ المغرب وأمثاله من الدول العربية والإسلامية بأن جل الدول التي تعاقبت على حكمه قامت ابتداء على أساس دعوة دينية تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، ويتزعمها علماء سرعان ما يتحولون هم وتلامذتهم إلى رؤساء فعليين للجيش الذي سيثور على الدولة السابقة، وتعمل الحماسة عملها، ويحسب الجميع أنهم سيبدلون الأرض غير الأرض إلى أن تفجأهم حقائق الواقع بعد بناء الدولة، فيُستدعى تراث “الأحكام السلطانية” و”ظل الله في الأرض” و”هيبة الدولة” ورد معارضة “الخوارج” وحماية الدين من “الزنادقة”، فتأكل الدولة الدعوة، وتضمها تحت جناحيها بعد أن دجنتها، وتستصدر الدولة الفتاوى لوقت الحاجة. حدث هذا مع الأدارسة والمرابطين والموحدين والمرينيين والسعديين والوطاسيين والعلويين؛ حيث تستقوي الدولة بتصور كنسي للدين، يتحول فيه علماء المؤسسات الرسمية- وما أكثر الأفاضل فيهم- إلى إكليروس يحتكر النطق باسم الله، ويحتكر الاجتهاد والفتوى.

في السلك الديني الشيعي رسَّمت الدولة الإيرانية بعد الثورة العلاقة بين الدعوة والدولة باعتماد “ولاية الفقيه”، التي يحكم “الولي الفقيه” بموجبها باعتباره “نائبا عن إمام الزمان”، بعد طول انتظار لظهور “الإمام الثاني عشر” الذي “سيملأ الأرض عدلا بعد أن ملئت ظلما وجورا”، مما رسخ لقرون طويلة في أوساط الشيعة عقلية الانتظار السلبي التي انتقدها غير واحد من مراجع التقليد ومن المفكرين الشيعة كعلي شريعتي ومرتضى المطهري ومهدي بازركان، وبفضل زحزحة جماهير الشيعة عن تلك العقلية نجح الخميني في الثورة على الشاه.

وبمقتضى “ولاية الفقيه” يقدم “الولي الفقيه” باعتباره وليا للمسلمين جميعا، مما أكسب النظرية امتدادات سياسية تحت عنوان “تصدير الثورة”، بينما كان الأمر يتطلب إشاعة خطاب الطمأنة تجاه الأغيار والمخالفين والجيران في المنطقة، وكان المرجع الشيعي المرحوم محمد مهدي شمس قد حذر من العمل “بولاية الفقيه” في الدول متعددة الطوائف والمذاهب، ونظر إلى مسألة المرجعية الدينية خارج إيران من زاوية علاقة الشيعة بمجتمعاتهم الأصلية ذات الأكثرية السنية، معتبرا أن الدور الذي يعطى حاليا للمرجعية عند الشيعة “دور مبالغ فيه”، ورأى في إسباغ صفة الولاية العامة على المرجع الفقيه والقول بإمكان كونه بديلا عن النظام والحكومة اتجاها غير مسلم به فقهيا عند أكثرية الفقهاء، وتوسيعا لمفهوم المرجعية “بحيث أنها تكون دولة داخل المجتمع، وهذا الاتجاه خطر بصراحة”، لذلك نصح الشيخ شمس الدين الشيعة بأن يندمجوا في كل محيط وطني في مجتمعاتهم الوطنية، “أحكامُهم الشرعية كسائر المسلمين يأخذونها من فقهائهم، من مرجعهم”، والبديل الذي اقترحه الشيخ هو الدعوة إلى “ولاية الأمة على نفسها” عوضا عن أطروحة “ولاية الفقيه”، موافقا بذلك الأستاذ عبد السلام ياسين رحمه الله الذي خص المسألة بكتاب مستقل سماه “إمامة الأمة” لقطع الطريق على مصادرة حق الأمة في اختيار من يحكمها، وهي مصادرة تمت في التاريخ الإسلامي إما باسم السلطنة السنية بعد الانقلاب على الخلافة الراشدة، أو باسم الإمامة الشيعية.

وكل ذلك يمثل نظرات دقيقة في تنظيم علاقة الدعوة بالدولة، ويمكن أن نضرب مثلا لما حذر منه شمس الدين، ومثلا لوجود خلل في تصور علاقة الدعوة بالدولة بالاعتماد العقائدي “لولاية الفقيه” من طرف “حزب الله” في بيئة حساسة ومحفوفة بالمخاطر وهي “لبنان”. فقبل عدة سنوات أجاب الأمين العام للحزب حسن نصر الله عن سؤال وجه إليه: “ما شكل النظام الذي يريده حزب الله في لبنان؟” ، فأجاب قائلا: “بالنسبة لنا نلخص، في الوقت الحاضر ليس لنا مشروع نظام في لبنان، نحن نعتقد بأن علينا أن نزيح الحالة الاستعمارية والإسرائيلية، وحينئذ يمكن أن ننفذ مشروع (كذا)، مشروعنا الذي لا خيار لنا أن نبتغي غيره كوننا مؤمنين عقائديين هو مشروع الدولة الإسلامية وحكم الإسلام وأن يكون لبنان ليس جمهورية إسلامية واحدة وإنما جزءا من الجمهورية الإسلامية الكبرى التي يحكمها صاحب الزمان ونائبه بالحق الولي الفقيه الإمام الخميني”، وأجاب عن سؤال حول علاقة الحزب بالقيادة الإيرانية بالقول: “أنا واحد من هؤلاء الناس الذين يعملون في مسيرة حزب الله وفي أجهزته العاملة لا أبقى لحظة واحدة في أجهزته لو لم يكن لدي يقين وقطع في أن هذه الأجهزة تتصل عبر مراتب إلى الولي الفقيه” ، وعندما سئل: “هل الولي الفقيه هو الذي يعين الحكام في البلاد الإسلامية ويعطيهم التزكية؟” أجاب: “نعم لأن ولايته ليست محدودة بحدود جغرافية، ولايته ممتدة بامتداد المسلمين”. وقد كنت أعتقد بأن التطورات المتلاحقة ستؤدي بالحزب إلى العدول عن هذه النظرة، إلا أن ذلك لم يقع، بل أعاد التأكيد على ذلك الاعتقاد الأمين العام في سياق السجال والجدل مع مخالفيه فقال: “نحن حزب ولاية الفقيه”، كل ذلك مهد الطريق لانتقال الحزب المأساوي الملهاوي من “المقاومة” إلى “الطائفية” بدخوله طرفا في الصراع بين النظام السوري ومعارضيه.

وظهر كذلك أثر عدم ضبط علاقة الدعوة بالدولة في تاريخ الدولة السعودية التي قامت على أساس التحالف بين آل سعود والحركة الوهابية. فبعد أن اتسمت البداية بنوع من التوازن في العلاقة بين الطرفين؛ بحيث كان كل طرف يشترط على الآخر، وبعدما أفاء الله على البلاد من ثمرات الحج والنفط بدأت الدولة تتغول فعزلت الدعوة وحولتها إلى منظومة للتبرير، لاسيما تسويغ الطاعة المطلقة للحاكم.

ويظل السؤال الذي يحتاج إلى إجابات شافية: “هل تمسك الدعوة بزمام الحكم وتدير عجلته وتَبقى مستقلةَ الوجود ماضية الإرادة في وِجهَة التغيير الشامل الجذري للمجتمع، أم تجذِبها الدولة ويستقطبها الحكمُ فيستولي على النفوس، ويستغرق الجهودَ، ويغلب على الوجهة حتى تذوبَ الدعوة في الدولة؟ التحدي أساسا هو: هل يحيَى الدعاةُ بعدَ الوصولِ إلى الحُكم بحياة الإيمان والإحسان، أم “تدنسهم الدنيا” وتهلكهم كما أهلكت من كان قبلَهم”.

قدمت “العدل والإحسان” إحدى الإجابات: “طامة كبرى على الدعوة إن انخرط الدعاة بكامل عدَدِهم وتحولوا مديرين ووزراء ومستشارين وتركوا المسجد، وتركوا صحبة الشعب، وتركوا تربية الأجيال، وتركوا مجالسة المسلمين. تأكد تفرغ صفوة رجال الدعوة للدعوة، وانتصارُهم وفلاحهم يُقاسُ بقدرتهم على مراقبة الدولة من خارجها، يفَوِّضون لبعضهم الإشراف المباشر على شؤون الحكم، ويستعينون بالنظراء الفضلاء أصحاب المروآت والكفاءة والنصيب من الإيمان. أما أن يعتبروا شرفَهم في النهوض المباشر بالأعباء وأن ينهمكوا بكليتهم في تصـريف الهموم اليومية (للحل الإسلامي) فذاك القضاء الـمُبرَمُ على الدعوة. قضاء مُبرَم خاصَّةً إذا تصدى لحل أعباء الحكم ومصارعة ديناميكية العصر تكتل وحيدٌ فريد لا مشارك له ولا معارض. ذاك أدْنَى أن ينحط ثِقْلُ المسؤولية وغرور احتكار السلطة على أصحاب (الحل الإسلامي) فيدهَسهم ويَسْحَقَهُمْ.

وهو ثمن باهظ، وغبن فادح، وفشل ذريع”، و”إنه الغرق في لجج السياسة إن أقدمت الدعوة وقد وحدت صفوفها وتصرفت كما يتصرف الحزب الوحيد. تتحمل أثقال ميراث الماضي وحدها، وتزعم لنفسها وللناس أنها تتقمص آمال الشعب وتعكس إرادته وتنطق باسمه من دون الناس جميعا. إنها إن فعلت لن تلبث أن تتحول من فاعل محرِّك إلى مطية للأهواء والطموحات الشخصية عند أولئك الذين ينتظرون من يشق لهم الطريق ليتربعوا على كراسي الدولة. وعندئذ فسلام على الدعوة وأهدافها النبيلة. عندئذ تعود دورة الفساد دورانها، وينفر الشعب من مفسدي اليوم كما نفر من مفسدي الأمس الذين عارضناهم فكانت معارضتنا إياهم هي الرصيد المعنوي الذي رفعنا إلى ثقة الشعب”.

أما على مستوى تدبير العلاقة بين الدعوي والسياسي حين السعي إلى الحكم، فإنه إذا بالغت الدعوة في الاهتمام بالسياسة وأخذت منها أغلى أوقاتها “فإذَنْ تنصرفُ الدعوة بكليتها لتسيير دفة الحكم. وإذن فهو فَناءُ الدعوة من حيثُ هيَ دعوة، لا تلبث الدعوة أن تتحول هيكلية سياسية محضة، تتكلم كما يتكلم السياسيون، وتسلُك مسالكهم. وعُدْ بعدَ حين لزيارة الساحة فلن تجِد إلا فارقَ اللِّحي -إن وُجِدَتْ- وإلا أثاراتٍ من خطابٍ إسلامي”.

وفي هذا المستوى، وعلى صعيد التدبير المؤسساتي لعلاقة الدعوي بالسياسي في البيئة المغربية، يمكن القول إن “العدل والإحسان” من أوائل التنظيمات التي اعتمدت التقسيم الوظيفي بين الدعوة والسياسة عبر إنشاء “الدائرة السياسية” التي تضم مجموعة من مكاتب الخبرة تنجز ملفات دقيقة في مختلف القطاعات والمجالات والتخصصات، وتشتغل – من خلال مكاتب الفروع – إلى جانب “الجماعة: التنظيم الدعوي” في أُسره وشُعبه وجهاته وأقاليمه. ومع الاحتكاك بالواقع، عملت “الدائرة السياسية” على إنضاج تصورها لعلاقة الدعوي بالسياسي مسترشدة بأقوال مؤسس الجماعة رحمه الله في الموضوع من قبيل:

“أساس الدين هو الدعوة وليس الدولة”

غُيّب أساس الدين بتضخيم جانب الدولة في خطاب “الإسلاميين”

من التضخم اختزال “الألوهية” في جانب واحد وهو “الحاكمية”

“يجرفنا منطق الساحة فلا نشعر إلا ونحن نتحدث حديثا هو بحديث اللائكيين أشبه، ينعكس في خطابنا الافتراق بين السلطان والقرآن”

“يتحتم فرز وظيفة الدعوة- وهي شاملة عامة سيادية- عن وظيفة الدولة وهي إدارية متخصصة في رعاية المصالح الدنيوية”

“لا تدخل الدعوة في أجواء الريبة السوقية إلى جانب ما يخلفه الطوفان من رفات سياسي حزبي، ولا إلى جانب انتهازية تقامر بمستقبل المسلمين”.

وبعد “الدائرة السياسية” للعدل والإحسان، اتجهت إلى ضبط علاقة الدعوي بالسياسي حركة “التوحيد والإصلاح” التي تشتغل إلى جانب حزب “العدالة والتنمية” الذي يضطلع بمهام تسيير الحكومة إلى جانب الملك الذي يمارس الحكم، والحركة إن لم تتدارك الأمر يخشى أن تنصرف قاعدتها كليا إلى الحزب، وتنصرف النخبة إلى “المجالس العلمية” و”الرابطة” لتأثيث المشهد الديني الرسمي، يدخل الواحد وهو يقول: فرصة أتاحها الله لتبليغ الدعوة عبر الدروس والمواعظ والمحاضرات والندوات. وشيئا فشيئا تتعاظم دائرة التنازلات، ويصبح الكلام بمقدار، وتتضخم الرقابة الذاتية، فتبحث الحركة عن نفسها يوما فلا تجد شيئا، لاسيما وأن حالة البسط التي تعيشها الحركة في ظل مشاركة جناحها السياسي “العدالة والتنمية” في الحكومة أدى إلى التحاق الكثيرين بالحزب، ليس عبر دعوة الحركة ولكن عبر دعاية الحزب، بحيث يصير التحدي هو كيف تتشرب تلك الأعداد الجديدة معاني التربية والأخلاق. أما “الدائرة السياسية” للعدل والإحسان فمطلوب منها ألا تكتفي بالموقف العام الذي ينتقد الحكومات- وهو موقف صحيح- وأن تتعدى ذلك إلى الوقوف على التفاصيل لاكتساب التجربة وتحرير المبادرة، وأن تراعي المنطق الداخلي للمخالفين والمتشككين والمتوجسين.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Bu məqalədə, Pin-up Casino-nun daha əla bonusları haqqında danışacağıq və nəyin sizi gözləyə biləcəyini təsvir edəcəyik. bunun sayəsində Nedeni ise reklam alanların deneme bonusu vermediğini bir çok kez denk geldiğimizi biliyoruz. pul üçün Buna görə hər hansı vahid platformada bunu izləyən bir internet kullan? pin up mərc Kazino kataloqlarında təqdim olunan Pin Up casino seyrək rəngarəng slot maşınları demo rejimində işə salına bilər. etmək imkanı