إرهاصات مشروع قرن جديد للأمّة الإسلاميّة (1445 – 1545 هـ) = (2024 – 2124 م) .. بقلم فتح الدّين البودالي*

استفاقة واعدة في واقع التحديات نحو الحرية والعدالة والتنمية

بني الإسلام على ركائز تعتمد في جوهرها مبادئ وقيما دائمة على امتداد عصور التاريخ، فلم تتغيّر بل شاعت وتفاعلت مع ظروف الواقع وتجارب الأمم فأصبحت شيئا فشيئا من الثوابت الأصلية التي تعتمدها الشعوب لتحقيق التقدم والرقي قوامها “الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر”.

وقد تكفي الإشارة هنا إلى الرسالة النبوية الخالدة وأبعاد خطبة حجة الوداع بالخصوص ومدى انتشار الإسلام في ربوع الدنيا بفضل ذلك الحفاظ على كتاب الله وسنة نبيّه وجهد تحرر الشعوب الإسلامية والعربية من قبضة الاستعمار.

كما تفضل المولى العزيز الحكيم على الأمة الإسلامية في مجمل مسيرتها الحضارية بالمواقع الجغرافية الاستراتيجية وبتنوع ثروات الإنتاج وألهمها الفكر الإبداعي الذي قدح زناد العلوم والتقنيات وهندسة الابتكار فازدهرت أنماط العمران والإصلاح بتفاعل حميد على الثقافات والحضارات.

وبغياب الحكم الإسلامي الرشيد، تتحرك كما هو دأبها تاريخيا قوى إقليمية وعالمية معادية من أجل تخريب العقيدة في قلوب المسلمين في ظل تفتت المجتمع الإسلامي والعربي والتعلق العَضوض بالسلطة والمال والاتّباعيّة، فيتولد بالضرورة النزاع والاستبداد والتوظيف السياسوي والخيانات بتكرر الأخطاء وتدهور الأوضاع العامة، سببها الأصلي قوى استعمارية تجسدت خلال القرون الأخيرة بالخصوص في صليبية وصهيونية وشيوعية غايتها هدم الهوية الإسلامية على مراحل.

اختراق الاستعمار “الاكتشاف التوثيقي عبر الثورة الإعلامية ”

وبما يغني عن كثير الاستدلال على مخططات السيطرة على الأمة الإسلامية نستحضر العلامات البارزة التالية على سبيل الذكر لا الحصر – حتى لا تنسى الأمة:

· خطة ملك فرنسا لويس التاسع إثر الحروب الصليبية عام 1250م التي تركها لمن بعده وصية في كيفية الانتصار على المسلمين وذلك بواسطة: إشاعة الفرقة (فتن، خيانات)، عدم قيام حكم صالح – إفساد الحكم – منع قيام جيش مؤمن بالوطن – ألاّ تقوم وَحدة عربية أو إسلامية – غرس دولة غربية (الكيان الصهيوني في فلسطين)؛

· رؤية وليام غلادستون رئيس الحكومة البريطانية أواخر القرن 19م بالعمل على تمزيق القرآن الكريم من صدور المسلمين – القضاء على صلاة الجمعة – هدم المسجد الحرام – إنهاء صلاة العيدين ويوم عرفة؛

· الدور التدميري للمؤرخ المستشرق البريطاني الأمريكي برنارد لويس (1916 – 2018 م) ذو العداء للإسلام والذي وضعه للسياسة الامريكية في الشرق الأوسط منذ حرب الخليج الأولى والثانية “كن قاسيا أو أخرج” بتفكيك الوَحدة الدستورية في الدول العربية والإسلامية إلى دويلات عرقية ومذهبية وطائفية متنافسة ومتصارعة خاضعة للكيان الصهيوني والقوى الاستعمارية؛

· اختراق الغرب للجسم العربي والإسلامي بمؤامرة كبرى طويلة المدى زمن الاحتلال، بالغدر والاستقلاليات المغشوشة وتغذية النزاعات الطائفية وتصفية الوطنيين الأحرار والعلماء المخلصين وقادة الرأي المؤثّرين. الى جانب انتهاك السيادة بالغزو الفكري والإعلامي والثقافي بإعلاء راية العلمانية ونهب الثروات؛

· الضرب عرض الحائط بكل المثل والقيم والنواميس الدولية والإنسانية كلما تعارضت مع مصالحها الامبريالية فدمّرت أقطارا عربية وإسلامية من أجل “إرجاعها إلى العصر الحجري” وفق عبارة الجنرال نورمان شوارزكوف قائد حرب الخليج الثانية عام 1991م التي عرفت بـ”عاصفة الصحراء”؛

· ظهور دراسة إحصائية لافتة للنظر حول أكثر دول العالم تطبيقا لما دعت إليه مبادئ الدين الإسلامي في الحياة الاجتماعية، في مجالات كالعلم والعمل والعدالة وأسس الحكم والحقوق السياسية والاقتصاد وتوزيع الثروات والأخلاق الفاضلة… ضمن 113 معيارا. وهي دراسة قابلة للتحيين المستمر أجراها أستاذان للاقتصاد بجامعة جورج واشنطن الأمريكية (2015م)، وجاءت نتائج تلك الاعمال مفاجئة تماما بأنّ المراتب الثلاثين الأولى ضمن 208 دول شملتها الدراسة حازتها دول غالبية سكانها غير مسلمين وكانت في طليعتها: إيرلندا – الدانمارك – لوكسمبورغ – السويد – النرويج. أما الدول ذات الغالبية المسلمة فأتت في المراتب الدنيا وأفضلها ماليزيا بالمرتبة الأولى فيها (33) والسبب يكمن في تهميش تعاليم الدين بانتشار الفساد والظلم والكسب غير المشروع وسوء الحكم؛

· ورقة تهمة الإرهاب بالمرتزقة الجاري بعدة أشكال منها التطرف العنيف الإقصائي وظاهرة “داعش والقاعدة” واستشراء التهريب للأسلحة والمخدرات والبشر… وصناعة التضليل بأدوات الخداع والتهويل والإرهاب والتخويف وقصف العقول وشراء العمالات، من أجل استدامة الاستنزاف وإبقاء السيطرة؛ ولعلّ قول الجنرال “ولسني كلارك” الأمريكي الذي قاد الحرب على أفغانستان (2001) أصدق حديث له عن ذلك : (من كان يظن أننا خرجنا لأفغانستان انتقاما لأحداث سبتمبر فليصحح خطأه، نحن خرجنا لقضية اسمها ضرب الإسلام). ومثاله الفاضح الحرب على العراق بتهمة امتلاكه لأسلحة الدمار الشامل رغم أنف المنتظم الأممي.

· وآخر المستجدات الاصطناعية لهدم الهوية: التطبيع مع الكيان الصهيوني العدو – بدعة إحداث “الدين الأبراهامي” الجديد – الدعوة للزواج المثلي الغربي والعائلة أحادية الجنس – بعث ملهى ليلي للاستهتار بالأراضي المقدسة – العبث بهندسة الإرث بما يخالف الشريعة… تلك أمنيتهم.

واستنتاجا

وفقا للوعي الاستشرافي ومع توفر إرادة الحياة رغم تعاظم السوء وشدة التراكمات والفرص الضائعة والأخطاء والخيانات في حق الإنسانية والأمة جمعاء يبقى الأمل حيا في أن يتعاظم النضج السياسي للشعوب للتخلص من تبعية الاستعمار وإنهاء الحكم المطلق وذلك في آفاق إرهاصات متعاضدة تتراكم ببطء مطّرد لدورة تاريخية جديدة للأمة الإسلامية عامة، من الممكن أن نقتبس صيغتها من مشروع “العالَمية الإسلامية الثانية” (1979) وفق الكتاب الشهير للسياسي والمفكر الاستراتيجي السوداني محمد أبو القاسم حاج حمَد (1942-2004)، وكانت الظروف العالمية يومها غير ظروف اليوم ولكنه كان يحمل رسالة بشارة وأيضا كتاب “تباشير الإسلام” (1981) للمفكر والسياسي الفرنسي المسلم الشهير رجاء -روجي- جارودي (1913-2012م) وسواهما.

وممّا يتراءى من مخاضات تلك الدورة الحضارية نشير إلى هذه المقومات الأساسية التالية:

أولا: ثورة الربيع العربي

توقا إلى الحرية والكرامة والديمقراطية بدءا من تونس فليبيا ومصر واليمن وسوريا والعراق ومع أن شعوبنا تعيش التجربة لكن نرى من حولنا خيبات وانعكاسات جراء الإجهاضات بتحريك الانقلابات العسكرية والصراعات الأهلية وتصعيد الشعبوية والالتفاف على المطالب الشعبية… ولم تبق إلا بلادنا تونس صامدة حتى الساعة في وجه أخطبوط الثورة المضادة المتآمرة بالفوضى العارمة والاضرابات المهولة والإعلام الكاذب من ناحية، ثم الانقلاب على الدستور والمؤسسات من ناحية أخرى. وهنا فإن الحل يكمن في المثابرة والصمود نحو أهداف الثورة الأصلية وحلم الأجيال. و”ما ضاع حق وراءه طالب وعِش عزيزًا أو مُت وأنت كريمُ”.

ثانيا: المال والتأهيل

بتوفر الإرادة السياسية والامكانيات المالية والتأهيل البشري، كان لدولة قطر الشقيقة الدور المثالي الطلائعي في تنظيم المهرجان الدولي التاريخي لأول مرة بمناسبة دورة ألعاب كأس العالم لكرة القدم سنة 2022 الذي أبهر العالم كأحسن مثال يحتذى به في دقة التنظيم والنجاح الباهر على جميع المستويات، برهنت به البعد الحضاري ومستوى القدرة على التألق والكفاءة لأمتنا كهدية لعالم الشباب والرياضة.

ثالثا: الأمن الغذائي والدوائي

ومن مقوّمات التقدم بإرهاصات جديدة أنه أمام الأزمة العالمية القائمة والمتواصلة لا بد أن تكون اهتماماتنا أكثر وجدية على مواصلة توفير الاستثمار وتكوين الإطارات وتعبئة كل الموارد وحسن استغلال كل الثروات وتكثيف استعمال التقنيات الفنية على ضوء استراتيجيات قطاعية لغاية تحقيق الأمن الغذائي والدوائي في خضم منافسات عالمية ضارية ومتوحشة أحيانا نشاهد كيف تؤول إلى الأوبئة وإلى الحروب. وبالاهتمام ذاته يتعين على الأمة الإسلامية عامة، أن لا أمل في التموقع الحضاري الجديد من غير توفير أسباب السلامة والاستقرار من أمن فكري واقتصادي واجتماعي وعقائدي ومجتمعي. وهو الأمن الشامل.

رابعا: الدفاع الشامل : فلسطين و”طوفان الأقصى”

ها أنّ عجلة التاريخ تدور دورتها مجددا عبر تفجّر الغضب باندلاع حرب التحرير الوطني من عمق غزة وأكنافها. فصار طوفان الأقصى” هو عنوان القضية والحق والمأساة والمظلمة والعار الذي عرّت قوى الاستعمار ودول النفاق، وجميع تلك القوى وأحلافها وأذنابها هي الإرهابية حقا بتكريس اغتصاب فلسطين منذ سنة 1948م وإدامة التنكر لحقوق شعبها في ظل استمرار العدوان الإسرائيلي المسنود.

فقد كابد الشعب الفلسطيني أكثر من 75 عاما من الاحتلال والمعاناة لأشكال القهر والظلم والفصل العنصري وحصارا خانقا مستمرا ليتحول إلى أكبر وأبشع سجن تحت السماء في العالم، كما عانى من خمسِ حروب مدمرة وخسر نزيف عشرات الآلاف بين شهيد وجريح من كافة الفئات والأعمار، ومواجهة جشع الاستيطان ومصادرة الأراضي والتهويد والتقسيم والاقتحامات الإجرامية والطرد والإجبار على ترك الوطن أو الموتِ دونه.

إلا أنه رغم الحراك التاريخي لشعوب العالم المساندة للقضية الحقة العادلة فإن الولايات المتحدة وحلفاءها لم يلتفتوا الى كل هذه المعاناة بل أمعنوا في الإمداد العسكري والسياسي وتبرير المذابح الواسعة الفادحة بعشرات الآلاف من الأبرياء والدمار الماحق المهول غير المسبوق في الحروب.

فكانت معركة الحرية والكرامة “طوفان الأقصى” بداية من 7 أكتوبر 2023م بتقديم أروع الأمثلة المبهرة في الإيمان المتين والوعي السامق والبطولة العالية والتضحية الباذخة والفداء المرير والصمود العظيم في مواجهة أكبر آلة للبطش عالميا، في ظل عجز المجتمع الدولي والإقليمي العربي بالخصوص وتواطئ الدول الخمس وأتباعها لمنع تحقيق حلم الشعب الفلسطيني بالسيادة الكاملة للدولة وهو الشعب الأبرز في العالم الذي مازال قابعا تحت الاحتلال.

وهنا فإن تحقيق هدف الحوكمة العالمية السليمة لمنظمة الأمم المتحدة يمر بالضرورة عبر التأهيل والإصلاح وفك الأصفاد والأغلال عنها بالرجوع إلى روح الأهداف ونهج الوظيفة الأصلية التي تأسست من أجلها عام 1945م بتوقيع 51 دولة آنذاك وهي الآن تضم 193 عضوا، وإعادة هيكلة مجلس الأمن الذي لا تعود إليه سلطة الموقف إلا بمقدار ما يناسب مصالح القوى الخمس المتحكمة فيه، ضرورة إعادة تأهيله حينئذ ليكون متعدد الأطراف بإلغاء امتياز حق النقض -الفيتو- عبر خارطة طريق شاملة وعادلة وديمقراطية تتماشى ومقاصد مواثيق حقوق الإنسان والشعوب والكيانات ومع تصفية الاستعمار والاختراق والاستغلال ثم ترتيب العلاقات الدولية على أساس المشترك ومبدأ الاحترام المتبادل.

ولعلّ قرار محكمة العدل الدولية بتاريخ 27 جانفي 2024م يمثّل على بعض علّاته خطوة مبشّرة في طريق فرض العدالة للفلسطينيين وهو في وجه الإجرام المفضوح والمسكوت عنه طويلا يمثل في ذاته انتصارا بفضل دعوى ارتكاب “إبادة جماعية” في حق قطاع غزة التي رفعتها دولة جنوب إفريقيا ضد الكيان النازي المجرم.

إن ثورة التحرير “طوفان الأقصى” رغم الدم والهدم ولكن مع تحريك الوعي العالمي وإعادة هندسة المواقف والمواقع.. لجديرة بأن تعتبر بارقةَ أمل قوية لنهوض واعد لا نقول للأمة الإسلامية فقط بل لعالم جديد نحو دورة حضارية أكثر إرساءً لقيم الحرية والعدالة والحقوق والكرامة والتضامن.. قيم الإسلام العظيم الذي لا يمكن للعين البصيرة أن تخطئ تباشيره.

و خلاصة القول

إن الأمانة جسيمة أمام الله وتجاه الأمة الإسلامية وإزاء التاريخ في استعادة بناء الانسان المسلم وتحقيق ما حلمت به أجيالنا وشعوبنا وكابدت محاولات إرسائه في الحرية والعدل والتنمية والمناعة والتقدم. وليس ذلك بالمتعذر على إرادة أمة تستمسك بالإيمان والوطنية والعلم والعمل والأخلاق في عالم كوني لا يرحم من لا يكن يقظا فاعلا. وليس ذلك ببعيد المنال؛ وفي شأن هذه المسؤولية الشاملة يقول عمر الفاروق: “أيها الناس حاسِبوا أنفسكم قبل أن تحاسَبوا “.

* كاتب سياسي تونسي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *