إرساء الهيئات الدستورية ومحاذير السلطة المضادّة

الملخّص 
 رغم مرور أكثر من ثلاث سنوات على المصادقة على دستور الجمهورية التونسية الثانية  ،مايزال مسار استكمال إرساء الهيئات الدستورية بطيئا حتى لا نستعمل عبارة مُتعثِّرٍ . فالقوْلُ بنجاح تونس في مسيرة الانتقال الديمقراطي وإرساء المؤسسات الدستورية بما فيها الهيئات يحتاج إلى كثير من التدقيق  ، خاصة وأنّ عملية إرساء المجلس الأعلى للقضاء والمحكمة الدستورية تأخرت بحوالي سنتين عن الأجل الأقصى الدستوري ، إضافة إلى التأخير في إرساء اللامركزية في تجسّداتها المختلفة من مجالس بلدية وجهوية وإقليمية. 
البطء أو التأخير لا يُعدّ الإشكال الأساس في عملية إرساء هذه الهيئات ، بل إنّ جوهر المسألة يتعلق بالهيئات ذاتها سواء من ناحية تعقُّد عملية التأسيس وتعدد الأطراف المتدخِّلة  وتضارب المصالح والسعي إلى التموقع والعمل على ” قضْمِ” الحدّ  الأقصى من الصلاحيات والإمتيازات ، أو من جهة صورة أو مفهوم الدولة في ظل ” التخلّي ” عن مجال واسع من اختصاصاتها التقليدية لفائدة هيئات مستقّلة ( علينا أن نضع في اعتبارنا وجود هيئات أخرى مستقلة خاصة بالسوق المالية والاتصال وغيرهما من المجالات) . فالسعي إلى تجسيد الدستور من خلال إنشاء الهيئات المنصوص عنها في الباب السادس منه سيجعلنا حتما وبالضرورة أمام نموذج ” الدولة  المُعدِّلة” ونتخلّى بالتالي بشكل شبه كُلِّي عن ” الدولة الراعية ” و” الدولة المنتجة “. 
ذلك هو المأزق الأكبر الواجب الانتباه إليه حتى لا ترفع النخبة السياسية والإعلامية وحتى الفكرية شعارات يكمن في طياتها تناقض خفيٌّ  ستكتشفه  بعد استكمال ارساء الهيئات الدستورية واللامركزية. 

 المقدمة 
 الهيئات الموصوفة بالدستورية وفقَ ما جاء في الباب السادس من دستور 27 جانفي 2014 خمسةٌ فقط ، وهي الهيئة العليا المستقلة للانتخابات ، وهيئة الاتصال السمعي البصري ،وهيئة حقوق الإنسان ،وهيئة التنمية المستدامة وحقوق الأجيال القادمة ، وهيئة الحوكمة الرشيدة ومكافحة الفساد. أما هيئة الحقيقة والكرامة فلا توصف قانونيا بالهيئة الدستورية بالرغم من الإشارة إلى منظومة العدالة الإنتقالية في النقطة التاسعة من الباب العاشر  الخاص بالأحكام الإنتقالية. ولا تتمتع الهيئة المعروفة  اختصاراً بالهيئة الوطنية للوقاية من التعذيب بالصفة الدستورية ، فهي هيئة عمومية تتمتع بالإستقلال الإداري والمالي وتمّ إنشاؤها بقانون أساسي سنة 2013 ( عدد 43  لسنة 2013 ) ولم تتم الإشارة إليها في الدستور ( الإسم الكامل هو الهيئة الوطنية للوقاية من التعذيب وغيره من ضروب المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة ).
وعليه فإنّ التركيز سيقع  على الهيئات الخمس من حيث وضعها الدستوري وصلاحياتها القانونية ومسار استكمال تركيزها وتفاوتها في ذلك ، مع إثارة الإشكالات المتولدة عن هذا المسار وتداعياتها الحالية أو المُحتملة مستقبلا. 
الهيئات في الدستور ، المهام والصلاحيات 
 اكتفى دستور الثورة التونسية في بابه السادس بتحديد مهام الهيئات الدستورية وبعض صلاحياتها المشتركة في المقام الأول ثم إفراد كل هيئة بمهامها الخصوصية ، ولم يتم تقديم تعريف لها. ويُمكن اعتبار عنوان الباب المشار إليه بأنّه تعريف من خلال ذِكْرِ وإبراز أهم الخصائص.   والعنوان هو ” الهيئات الدستورية المستقلة ” ، أي أنّ كلّ هيئة لها منزلة دستورية فوق قانونية ذلك أنّ الوضع الدستوري  هو أهمّ ما يميّزُها حتى ولو كان إنشاؤها سابق للدستور ذاته على غرار الهيئة العليا المستقلة للانتخابات. أمّا أبرز خصائصها فهي الاستقلالية التي لا ينبغي حصرها في التمايز عن أجهزة الدولة بمختلف مستوياتها وتجسّداتها السلطوية والإدارية كما هو شائع ومتداول اليوم في الأوساط السياسية والإعلامية ،بل المقصود  كذلك  الاستقلالية عن الأحزاب سلطةً ومعارضةً وعن المنظمات والهيئات المهنية والمصالح الفئوية والقطاعية. فبالرجوع إلى مداولات المجلس الوطني التأسيسي نقف على أن النواب المؤسٍّسين  حرصوا على أن تكون هذه الهيئات مستقِلّة  في ذات الوقت عن مؤسسات الحكم التنفيذي خاصة وعن المصالح القطاعية المهنية والفئوية حتى تتحقق أدوارها التعديلية والرقابية والاستشارية وكذلك التقريرية بعيدا عن تدخّل السلطات التنفيذية وعن توظيف الأحزاب والمنظمات والقطاعات المهنية.  والملاحظ هو أنّ الدستور نزع عن هذه الهيئات صفة ” العليا” في ماعدا هيئة الانتخابات . ومعلوم أنّ أعضاء الهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي البصري الذين يستمدون شرعية وجودهم لحظة كتابة الدستور من المرسوم 116 لسنة 2011 تمسّكوا بالحفاظ على صفة ” العليا” التي منحهم إياها المرسوم لكنّ المؤسسين رفضوا ذلك . وقد منحتهم التوافقات السياسية حينها السلطة الترتيبية في حين لم تمنحهم الموافقة عن الطلبات المتعلقة بصفة العليا إضافة إلى إعطاء الهياكل المهنية والنقابية حصرية الترشيح لعضوية الهيئة القادمة  ،حيث تمّ ترحيل المسألة إلى القانون ، وهذا الإشكال مايزال قائما إلى اليوم أي بعد ثلاث سنوات من كتابة الدستور . 
الوظيفة أو المهمة المشتركة لهذه الهيئات هو العمل على دعم الديمقراطية ، أمّا شكل الدعم وطرقه فتضبطه القوانين الخاصة بكل هيئة ، وهي قوانين توصف بالأساسية أي إنّ المصادقة البرلمانية عليها تستوجب موافقة نصف عدد نواب المجلس زائد واحد. أمّا انتخاب أعضاء هذه الهيئات فيكون بالأغلبية المعزّزة أي بثلثي أعضاء مجلس نواب الشعب. هذا العدد المطلوب يفرض على كتل المجلس والأحزاب المكوِّنة لها التنسيق والتشاور لضمان الأغلبية المُعزّزة. ولئن كان الإيجابي في هذا الوضع استحالة تمكّن حزب واحد أو ائتلاف حزبين من تمرير الأعضاء الذين يدعمهم ، فإنّ الطريقة في حدّ ذاتها تؤكد بوجه أو بآخر أنّ تركيبة الهيئات الموصوفة بالدستورية وبالمستقلة هي في حقيقة الأمر  حصيلة توافقات سياسية واسعة بين الأحزاب السياسية  ، والتركيبة  المنتخبة ليست  بالضرورة  تعبيرا عن تصعيد للكفاءات والخبرات المستقلة فعليا . والجدل يتجدّد حول هذه المسألة في كل نقاشات مشاريع قوانين هذه الهيئات أو عند  التجديد  الجزئي  لها ، كما  حصل مؤخرا عند التجديد الجزئي لثلث  أعضاء هيئة الإنتخابات.
وألزم الدستور هذه الهيئات بضرورة إعداد تقرير سنوي  وعرضه للنقاش  أمام مجلس نواب الشعب ، وهذا الإلزام لم يُحْتَرم بالشكل المطلوب إلى حدّ الآن من الهيئات القائمة ممّا يؤكد أنّ تقاليد عمل الهيئات المستقلة لم يترسّخ بعد في تونس كما يؤكد الثغرات والهنات في عمل المجلس التشريعي المُنْتقد أداؤه ( رئيس الحكومة السابق الحبيب الصيد حمّل المجلس مسؤولية تعطّل المصادقة على مشاريع القوانين ، بل إنّ العديد من النواب يعترفون بتقصير المجلس في القيام بماهو مُلْزَمٌ به ، وقد شرع المجلس في تنظيم أيام برلمانية بهدف ضبط سبل تطوير الأداء والنجاعة). وكرّس دستور الثورة مبدأ مساءلة هذه الهيئات دون أن يضبط الطرق والآليات حيث تركها أو رحّلها إلى القوانين الخاصة بكل هيئة على حدة . فلهذه الهيئات صلاحيات تقريرية وقضائية وتشريعية ( ترتيبية ) ،ونظرًا إلى أنّه من طبيعة السلطة ذاتها أن تسعى للتمدّد فإنّ مونتسكيو دعا إلى إيقافها بسلطة أخرى . ومعلومٌ أنّ مونتسكيو لم يكن من منظّري هذا الشكل الجديد  من السلط ( أي الهيئات ) لكن مبدأ التفريق الذي أنتجه يظل ساري المفعول. وللإشارة فإنّه سواء لدى مناقشة الدستور أو لدى مناقشة مشاريع القوانين الخاصة في الفضاءات العمومية رصدنا رفضا من قطاع واسع من المجتمع المدني والهيئات المهنية المعنية بعضوية الهيئات لمبدأ المساءلة بِحُجَّة الخشية من تدخّل السلطات التنفيذية والتشريعية في عمل هذه الهيئات وانتهاك استقلاليتها ، لكن الغلبة تشريعيّا كانت لإقرار مبدأ المساءلة التي تصل إلى حدّ عزل الأعضاء عن طريق البرلمان إضافة إلى المساءلة الجزائية عند الاقتضاء . وهذا المبدأ منصوص عليه في مشروع القانون الإطاري للهيئات الدستورية الذي شارف إيداعه مجلس نواب الشعب السنة دون أن يجد طريقه إلى اللجان ثم الجلسة العامة للمصادقة ثم النقاش . 
 تمايُزٌ بين الهيئات وضرورة المساءلة 
 بالرجوع إلى الدستور وإلى مشروع القانون الأساسي المتعلق بالأحكام المشتركة للهيئات الدستورية وإلى القانون الأساسي للهيئة العليا للانتخابات وإلى المتداول من  النُسَخ الأوّلية لمشاريع القوانين الخاصة ببقية الهيئات نقف على أنّ هيئي الإنتخابات والإتصال السمعي البصري فقط تتمتعان بالسلطة الترتيبة في مجال اختصاص كل واحدة منهما ،في حين حُرَمت البقية من هذا الحق أو بالأحرى من هذه السلطة.  
ولئن كان الأمر مفهوما ومعقولا بالنسبة إلى الهيئة العليا المستقلة للانتخابات نظرا إلى أنّ نصّها التشريعي سابق للدستور الذي اكتفى بإضفاء الوضع وضعا الدستوري عليها  ،فإنّ تضمين الدستور لحق السلطة الترتيبة لهيئة الاتصال السمعي البصري لم يكن بسبب تمتّعها بهذا الحق ضمن المرسوم 116 المنشئ لها وإنّما كان وليد عملية توافق مسبوقة بعمليات ضغط وتشبيك قادتها الهيئة المعنية بمعاضدة واسعة من منظمات مهنية وحقوقية ، ومداولات المجلس الوطني التأسيسي إضافة إلى كواليس لجان التوافقات شاهدة على ذلك. والمقصود من التأكيد على هذه النقطة هو إبراز أنّ عملية التشريع واسناد الصلاحيات لم تكن خاضعة لرؤية واضحة للهيئات الدستورية ولم تكن مستندة لفلسفة محددة حول مفهوم الدولة وأدوارها بقدر ما كانت نتيجة لتجاذبات سياسية وإيديولوجية وحسابات لتموقعات مستقبلية. هذه المسألة لا نجد إفرازاتها في الباب السادس فقط وإنّما نجدها كذلك في باب السلطة التنفيذية وتوزيع الصلاحيات بين رئيسي الجمهورية والحكومة كما نجدها عند دسترة مبدأ قيام السلطة المحلية على أساس اللامركزية وتخصيص نسبة من المداخيل المتأتية من استغلال الثروات الطبيعية للتنمية الجهوية. ولن نجانب الصواب إذا قلنا أنّ الكلفة السياسية لهذا الأسلوب في التأسيس والتشريع باهظة وبدأنا اليوم في دفع الثمن من خلال الدعوة إلى تعديل الدستور بعد فترة وجيزة من المصادقة عليه ، وندفعه من خلال التجاذب الكبير السابق لصياغة النصوص التأسيسية لهذه الهيئات. 
ولئن انفردت هيئتا الإنتخابات والاتصال بالسلطة الترتيبية ( هذه السلطة استثمرتها الهايكا ومارست من خلالها دورا تشريعيا وليس ترتيبيا فقط)  فاإن الهيئات الخمس تُسْتشار وُجُوباً في مشاريع القوانين المتعلّقة بمجال الاختصاص ولها كذلك أن تُبدي الرأي في النصوص الترتيبية ذات العلاقة. وتكمن أهمية  هذه الهيئات في أنّ لها السلطة التقريرية ولها نوع من الحصانة أثناء القيام بمهامها . وللإشارة فإنّ العديد من الأصوات قد ارتفعت للحدّ من صلاحيات هذه الهيئات وذلك حتى لا تتعسف في استعمالها وذلك بناءً على قراءةٍ معيّنة لأداء الهيئة العليا للاتصال السمعي البصري ( الهايكا) . فالبعض يرى أنّ هذه الهيئات تتعامل مع مفهوم الاستقلالية ليس كخاصية تسمح لها للعمل دون ضغوط ولا تعليمات وإنما كسلطة فوق كلّ السلط لا تخضع للمساءلة ، كما أنّها تعتبر السلطة التنفيذية خاضعة لها وليست طرفا مساعدا ، فإلزام الدستور لمؤسسات الدولة بتيسير عملها لا يعني أنّ تتحوَّل هذه المؤسسات الى تابعة وخاضعة ومُؤتَمِرة وأن نرمي عرض الحائط بباقي القوانين ذات الصِّلة بتنظيم الشأن العام وتحديد طرق وآليات إدارة هذه المؤسسات ، أي بعبارات أخرى يصبح مرسوم 116  فوق مجلة الاتصالات والنصوص المنظمة للإعلام العمومي السمعي البصري ومرسوم  المصادرة وغيرها من القوانين . 
ويُذْكر أن عضوي الهايكا المستقيلين رشيدة النيفر ورياض الفرجاني قد أشارا في رسالة استقالتهما إلى شبهات فساد، لكن لم يتم متابعة الملف برلمانيا وفقا لمبدأ المساءلة أمام البرلمان ولم  تتحرّك النيابة العمومية لفتح تحقيق بل تمّ ترميم التركيبة كَأَنَّ شيئا لم يكن. وهذه الوضعية لا تعني وجود فساد بالفعل وإنما تشير إلى إمكانية التعسف في استعمال السلطات ممّا يستوجب المساءلة . وقد نصّ مشروع القانون الإطاري للهيئات المستقلة على هذا المبدأ حيث سدّ الفراغ التشريعي ونصّ على أنه يمكن لمجلس نواب الشعب سحب الثقة من مجلس الهيئة أو لعضو منه بثلثي أعضاء مجلس النواب عملا بمبدإ توازي إجراءات التعيين والعزل أو سحب الثقة ، لكن مشروع القانون المذكور مايزال في الرفوف في انتظار إزالة الغبار عنه.    
 المسار المُتَرنّح لاستكمال  إرساء الهيئات 
 وَضْعُ الهيئات الخمس متباين من حيث سيرورة البناء ثم النشاط. فالهيئة العليا المستقلة للانتخابات رأت النور قبيل المصادقة على دستور   جانفي 2014 ، وقد كان انتخاب أعضاء الهيئة وإصدار أمر تعيينهم أحد الشروط الثلاثة لرئيس حكومة الترويكا علي العريض للتخلي عن الحكم وتسليمه لحكومة التكنوقراط وكان له ذلك. وتُعتبر الهيئة برئاسة شفيق صرصار أحد عناوين نجاح الثورة التونسية من خلال القطع مع تنظيم وزارة الداخلية للانتخابات وإحالة  العملية برُمّتِها إلى هيئة مستقلة لها السلطة الترتيبية وتتوفر لها الامكانات المادية واللوجستية .  وقد امتد مجال نشاطها من تنظيم الانتخابات التشريعية والرئاسية إلى الإشراف على انتخابات المجالس الدستورية ( المجلس الأعلى للقضاء) بل إنّ منظمات المجتمع المدني أصبحت تدعوها للمراقبة والملاحظة. 
لكن نجاح هذه الهيئة في مهامها لم يُحفِّز السلطات التنفيذية والتشريعية لاستكمال مسار بناء الهيئات الأربع الأخرى ، فإلى اليوم لا توجد بالمعنى الدستوري إلاّ هيئة واحدة ، ولا يوجد في رفوف مجلس النواب إلا مشروع قانون وحيد لبعث هيئة الحوكمة الرشيدة ومكافحة الفساد ( صادق عليه مجلس الوزراء بتاريخ 24 فيفري الماضي ) ، في حين ماتزال بقية مشاريع القوانين في صيغة مُسوّدات للنقاش المفتوح سواء ضمن لجان مشتركة بين الحكومة والمختصين ، أو بين الحكومة والهيئات السابقة للوضع  الدستوري  على غرار الهايكا والهيئة العليا لحقوق الإنسان والحريات الأساسية.  وللإشارة فإنّ الوزير السابق للعلاقة مع الهيئات الدستورية كمال الجندوبي قد وعد بإحالة كل مشاريع القوانين ذات العلاقة مع مفتتح السنة البرلمانية الحالية( أكتوبر 2016) لكن سقوط حكومة الحبيب الصيد في أوت الماضي ومنح حكومة يوسف الشاهد الثقة وتعويض الجندوبي بالمهدي بن غربية لم يكن مُحفّزا حقيقيا ، إذ أنّ الحكومة فشلت في جعل  مشروع القانون الإطاري من أولوياتها ولم تخرجه للنقاش البرلماني كما أنها لم تُحِلْ إلا مشروع هيئة مكافحة الفساد. 
ومعلوم أنّ إحالة هذا المشروع لا يعني بالضرورة التعجيل بالمصادقة عليه بالرغم من أنّ إلغاء رئيس الحكومة الشاهد لوزارة الوظيفة العمومية والحوكمة الرشيدة يجعل من الحتميّ الإسراع  بتركيز هذه الهيئة الدستورية  وإخراجها إلى حيّز الوجود  الفعلي استجابة للضرورات السياسية المحلية ( التوازنات الداخلية والالتزامات الذاتية للحكومة ، ارتقاء ملف مقاومة الفساد الى مستوى الأولوية الوطنية ، وجود مشروع قانون للمصالحة الوطنية ينص على دور هذه الهيئة في التقصّي والمساءلة والتحكيم ..) ، واستجابةً كذلك لالتزامات دولية في مجال مكافحة الفساد .
وبخصوص مشروع قانون هيئة الاتصال السمعي البصري فإنّ لكلٍّ من الحكومة والهايكا مشروعه الخاص ، وقد تمّ تكوين لجنة ثنائية لمحاولة الخروج بنصٍّ مُوَحَّد إضافة إلى عديد الملتقيات والندوات التي نُظّمت لتعميق النقاش. والخلافات الأساسية بين المشروعين يمكن تلخيصها في مسألة من له حق الترشيح ( الهايكا تريد الترشيح الحصري  للهياكل المهنية  والمختصين  ،والحكومة مع الترشح الحر على أساس المواصفات ).
 النقطة الخلافية الثانية تتمثل في أن الهايكا مع نص شامل في حين ترى الحكومة ضرورة إنجاز نص قانوني خاص بهيئة الاتصال السمعي البصري ونص آخر إطاري لتنظيم الاتصال السمعي والبصري العمومي . أمّا النقطة الخلافية الثالثة فتتمحور حول الصلاحيات وخاصة منها الادارية ( الترخيص) والقضائية ( الحد من صلاحيات الهيئة وإحالة بعض المسائل إلى القضاء العدلي أو الاداري) . أمّا هيئة حقوق الإنسان فالحديث حولها ما يزال خافتاً وضامراً خاصة وأنّ هذا المجال تدور في فلكه عديد المنظمات العريقة في مقدمتها الرابطة التونسية لحقوق الإنسان الرافضة لأن تكون ممثلة ضمن هذه الهيئة بسبب ما تعتبره ” تداخلاً في الأدوار “. كما تنتقد الهيئة العليا لحقوق الانسان الفاتر نشاطها اليوم لأسباب مادية ولوجستية وبشرية مشروع القانون من نواحي عديدة من بينها عدم استجابته لروح الدستور روحاً ونصاً وعدم ملاءمته للمعايير الدولية إضافةً إلى أن عدد أعضاء الهيئة المقترح ( تسعة ) لا يفي بالغرض علما وَأنّ عددأعضاء الهيئة الحالية سبعةٌ وثلاثون. وبخصوص هيئة التنمية المستدامة وحقوق الأجيال القادمة فإنّ الحديث عنها وحولها شبه غائب ، فالعجز جليٌّ اليوم عن تلبية مطالب الجيل الحاضر ومخطط التنمية المفترض تنفيذه إبتداءً من السنة الفارطة لم تتم مناقشته والمصادقة عليه رغم أننا على مشارف انتهاء الربع الإول من السنة الثانية لتنفيذ المخطط .
 الهيئات المستقِلّة من التنسيق إلى توحيد التموقع والأهداف 
 المشهد التونسي يحتوي هيئة دستورية مستقلة  وهي هيئة الانتخابات وثلاث هيئات ” ما قبل دستورية ” هي الهيئة العليا  المستقلة للاتصال السمعي البصري والهيئة الوطنية لمكافحة الفساد والهيئة العليا لحقوق الإنسان والحريات العامة ، إضافة إلى هيئة الحقيقة والكرامة المؤتمنة على مسار العدالة الانتقالية ذات العمر المحدد بأربع سنوات قابل للتمديد بسنة واحدة وهيئة مقاومة التعذيب غير المُدَسْترتين . هذه الهيئات ذات المهام المشتركة أو بالأحرى المهمة المشتركة كما نص على ذلك الفصل 125   من الدستور وهي دعم الديمقراطية ، لم تكتف بالعمل في المجال المحدّد لها فقط بل سعت إلى التنسيق في ما بينها على أساس أنها ذات مهمة موحّدة  وذات طبيعة واحدة لنصوص التأسيس ( قانون أساسي )  وذات خاصية جوهرية متطابقة  وهي الاستقلالية حتى وإن تمايزت في مايتعلق بالوضع الدستوري. 
فقد توالت الإجتماعات التنسيقية والتشاورية بينها ، وتمحورت مُخرجات هذه اللقاءات حول دعوة السلطة إلى ضرورة الإلتزام بإحترام إستقلالية الهيئات وتوضيح العلاقة بينها ، كما دعت السلطة التنفيذية على وجه الخصوص إلى احترام أحكام الدستور ، وحمّلت ما أسمته بالإدارة الموروثة من زمن الاستبداد مسؤولية تعثّرها ( اي الهيئات ) في عملها بسبب رفض تيسير عملها و عدم القبول بالتخلي عن الصلاحيات المنتزعة منها والممنوحة للهيئات الجديدة. وكانت أبرز التوصيات دعوة هذه الهيئات نَفْسَها للقيام بدور  ” الطرف ” في دعم الديمقراطية . ونستنتج من هذه الدعوة أنّ هذه الهيئات لم تعد ترى نفسها كهيئات تعديلية ضمن منظومة الحكم الديمقراطية بل ترى نفسها طرفا إزاء أو ضد السلطة التنفيذية والإدارية . كما أنه في الوقت الذي ترى فيه فلسفة إنْشاء  هذه  الهيئات المستقلة أنها قطاعية تعمل في مجال  محدد  لتنظيمه  وتعديله ،فإنّ التوجه التنسيقي والتشاوري الحالي للهيئات يوحي بالسعي إلى إيجاد صيغةٍ ما لتشكيل قوة ضغط تغدو بمقتضاه ذات وجود اعتباري ومهام أفقية وطنية ، أي من دعم الديمقراطية في قطاعٍ ما إلى دعم الديمقراطية في البلاد ككل وإزاء أو ضد السلطة. والمُتتبّع لأداء الهيئات في وضعها الحالي يكتشف بكل يُسْر إعتمادها ” تقنية التأويل ” سواء للدستور أو للنصوص المؤسسة لها لتتمدّد أفقيا لانتزاع عديد الصلاحيات ( ولنا في تعامل الهايكا مع مفهوم الرأي المطابق في التعيين مثال على ذلك ) ولتتمدّد عموديا كذلك ( مثل تعامل هيئة الحقيقة والكرامة مع أحكام القضاء الإداري بما  يوحي بأنه لا وجود لسلطة فوق هذه الهيئة ) .
كما يكشف مسار نقاش مسودات مشاريع قوانين الهيئات الدستورية تركيز المتدخلين حول الصلاحيات والمهام خاصة مسألة إسناد الضابطة العدلية لأعضاء هيئة مكافحة الفساد و تمتيع هيئة الاتصال السمعي البصري بصلاحيات ترتيبية ترتقي عند الاستعمال إلى مستوى التشريع إضافة إلى الحرص على أن تكون لها صلاحيات قضائية كاملة مما سيولّد فضاءً موازياً. وتأسيسا ً على ما تقدّم يغدو الإشكال الأهم والجوهري اليوم ليس الهيئات في حدّ ذاتها وإنّما شكل الدولة الذي نعمل على تأسيسه ، فتخلّي السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية عن بعض مجالاتها التقليدية وصلاحياتها فيه من الايجابيات الكثير  ، لكن من الضروري الانتباه إلى أننا بصدد تكريس نموذج الدولة المُعدّلة بكل ما تعنيه على المستويين الاجتماعي والاقتصادي . وهذا التوجه ينبغي قراءته في علاقة بباقي الهيئات الإدارية المعدّلة للسوق المالية والاقتصادية إضافة إلى مسألة إستقلالية البنك المركزي . ويتضاعف الإشكال عندما نمُرّ من إستقلالية الهيئات الدستورية المتدخلة في مجالات الانتخابات والإعلام ومكافحة الفساد وحقوق الانسان وفي الإشراف على السوقين المالية والبنكية والاقتصادية إلى اللامركزية بلديا وجهويا وإقليمياً. فسؤال  تركيز  الهيئات  المستقلة  من  المهم  ألاّ  نطرحه  بمعزل   عن الأشكال   والأنماط    الأخرى ” للاستقلاليات” داخل الدولة. 
إنّنا بصدد تأسيس الجمهورية الثانية بآليات من المحتمل أنّنا لا ندرك تبعاتها وانعكاساتها.
 الخاتمة 
 صحيح أنّ استيعاب الدستور التونسي ومنه الواقع السياسي التونسي لمفهوم الهيئات الدستورية المستقلة يُعدّ نجاحا حقيقيا للثورة وللإنتقال الديمقراطي فيها ، ويجعل من تونس بلد  السبق اقليميا . لكن من الضروري الانتباه إلى أنّ البطء والتعثّر في ارساء الهيئات وتجسيد الدستور ليس الإشكال المركزي والأساسي ، فصعوبات التأسيس متوقعة خاصة مع تضارب المصالح والتجاذب الايديولوجي وعدم التوفُّق في تلبية مطالب التنمية والتشغيل . الإشكال الجوهري يتمثل في أنّ عملية التأسيس غير واعية بذاتها ولا بمآلاتها في علاقة بمفهوم الدولة الذي يريده التونسيون.
 
عبدالسّلام الزبيدي 
عن مركز الدّراسات الاستراتيجية و الديبلوماسيّة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *