ارتعشت كلّ خليّة في جسدي و أنا أمرّ من شارع 9 أفريل بالعاصمة باتّجاه مستشفى شارل نيكول … كم قطعت هذا الشّارع مسترقا النّظر من ثقوب تلك السيّارة المظلمة كظلمة القبر … انعرجت شمالا لأرى أطلال السّجن المدني من الخارج … و اندفع طوفان الذّكريات المرّة يدكّ أركان نفسي المهشّمة فيبعثرها و يحيلها إلى شظايا بلّور مكسور … تحاملت على جسدي الذي نخرته الأمراض حتّى لا أقع أرضا من الدّوار … يريدون محو آثار الجريمة … لكن هيهات … فخلف جدار هذا المعتقل كم من من أعراض انتهكت و كم من أجساد عذّبت و كم من كرامات أهدرت … أسرعت الخطى لأنّني أحسست باختناق و أنا أستذكر معاناة مئات المساجين في الغرف المكتظّة و الزنزانات في مثل هذا اليوم شديد القيظ … حملت بقايا جسدي المحطّم صوب المستشفى ، و فجأة إذ بيد تمتدّ نحوي دون استئذان و تحتوي يدي مصافحة … اضطربت و أنا أتثبّت من الملامح … إنّه هو ! تجمّدت في مكاني و حدّقت فيه بعينين ملؤهما الحزن و الألم السّاكن في كلّ مسامّ جسدي … لم يترك لي مجالا للكلام أو الحركة و ابتدرني بالسّؤال : متى سُرّحت ؟ انشاء الله كفّارة ، الحيّ لا بدّ أن يعود !
و انسحب الدّمع من عينيّ و أنا أتذكّر اللذين لم يعودوا بعد أنهكت أجسادهم الغضّة أيدي الجلاّدين الآثمة و فنون التّعذيب و الأسقام التي لم تجد للعلاج سبيلا … نعم الأحياء يغادرون و كذلك الأموات … و قطع سجّاني حبل أفكاري : هل تقبل دعوتي على كأس شاي ؟ و لم ينتظر جوابي بل أمسك بمعصمي يجرّني صوب المقهى ، و أسلمت له نفسي دون مقاومة و قد ثقلت خطاي و كأنّني به يضع الأغلال في يدي من جديد و يقودني إلى زنزانتي صفعا و ركلا و شتما لوالدي و لكلّ من هبّ و دبّ من شجرة العائلة … تحسّست معصمي و قبضته تفارق يدي … سحب الكرسيّ و دعاني للجلوس … نفس الحركة و كأنّ المكان نفس المكان و الزّمان نفس الزّمان … كان يسمح لي بالجلوس كلّما كان يريد أن يبتزّ منّي معلومة أو وشاية …
جلس قبالتي و أخذ يتفرّس فيّ بنظرات ثاقبة… ربّما كان يريد أن يرى بصماته على جسدي… آه للأيّام! فعلى مساحات هذا الجسد المحطّم كتبنا أنا هو مأساة و ملاحم … صراعا بين العين و المخيط. إنّه الوحيد الذي يعرف جغرافيّة جسدي و تضاريسه ففي كلّ زاوية أو ركن أثر ركلة أو صفعة أو هراوة تهوي فتخترق اللحم و تدقّ العظم … آه يا جسدي المعذّب كلّ ذرّة فيك تستنفر و تصرخ : هذا هو المجرم هذا هو الجاني …
كدت أغادر المكان لكنّه قطع الصّمت المطبق وسط صخب المقهى و سألني : صحّتك بخير إنشاء الله ؟ و نزل عليّ سؤاله نزول الهمّ ، و استرجعت شريط الذّكريات الخاطفة و استغاثاتي و أنا أخاطبه من شبّاك الزّنزانة لمّا ساءت حالتي الصحيّة : الطّبيب يا حضرة الوكيل … فيصرخ في وجهي : ممّا تشكو يا ابن الفاعلة ؟ فأتحامل على نفسي و على شتائمه طمعا في العلاج و أجيبه : وجع في القلب و آلام في المفاصل و ضيق في التنفّس … فيقهقه قائلا : أنت لا تحتاج إلى طبيب بل إلى حفّار قبور ! و يغلق الشبّاك بعنف مزمجرا : لو طرقت الباب مرّة أخرى سأقيّدك من رجليك.
أحرجه صمتي فأخذ يثرثر مشتكيا من التّعليمات التي تضعهم في حرج مع المساجين و خاطبني بنبرة التّبرير و الاعتذار : خبزتنا مرّة مغموسة بالقلق و الخوف من ظلم النّاس … و الله نحن لا نفعل إلاّ ما نؤمر به يا أستاذ ! وضعت مرفقيّ على الطّاولة و أسندت حبيني على راحتيّ … أستاذ ! و تنهّدت من أعماق صدري المختلج بعذابات السّنين التي قضّيتها خلف تلك الأطلال … و أغمضت عينيّ فعادت بي الذّاكرة إلى كهف الأحزان بينما كان يتصفّح كتابا سحبه من تحت إبطي فيه جزء من ملفّي الطبّي و انغمس في القراءة بينما أسترق إليه النّظر و أرى وجهه عن قرب لأوّل مرّة … ربّما رأى نفسه بين الأسطر نفسه الخاطئة و ما اقترفت يداه الآثمة من تطبيق للتّعليمات … أه للتّعليمات ! و نظرت إليه بطرف حسير و هو منغمس في تصفّح الكتاب … هل كان من التّعليمات يا حضرة الوكيل أن تفترس قوتي الذي تتكبّد عائلتي مشقّة نقله من مئات الكلمترات ؟ يجوع أفراد عائلتي ليطعموني و بكلّ خسّة تستولي حضرتك على الوليمة الجاهزة و ربّما أشركت زملاء السّوء في تلك اللذائذ المجانيّة … و ربّما غرفت لزوجتك و أولادك من الغنيمة ! هل كان من التّعليمات أن تجرّدني من ملابسي كلّ دخول أو خروج و تفرض عليّ بكلّ فضاضة أن أركع منحنيا و تأمرني بالسّعال و تعبث بعصاك في جسدي ؟ هل كان من التّعليمات أن تحتجز مصحفي و تمزّقه أمام عينيّ ثمّ تقيّد رجليّ في حلقة معلّقة أسفل الجدار و تشلّ حركتي و تنهال عليّ ضربا و تشبعني شتما و سبّا لأنّني أحتفظ بأحد الممنوعات ؟ و تصرخ فيّ وجهي : أين ربّك ؟ … أدعه الآن حالا لينقذك منّي ! هل كنت مأمورا بهذا ؟ إذا فبئس الآمر و المأمور.
أغلق الكتاب بعصبيّة ثمّ سألني بغيظ مكتوم : هل أعطيت اسمي إلى منظّمات حقوق الإنسان ؟ و دون أن ينتظر جوابي أردف : بابتسامة تفتعل السّخرية : نحن يا أستاذ لم نكن إلاّ أداة في أيديهم ، أنتم مخطئون و حالمون و واهمون ! و فتح الكتاب حيث وضع سبّابته و تظاهر بالقراءة و قد غاظه صمتي طول هذا اللقاء … ثمّ أغلق الكتاب بعصبيّة : لم تتغيّر … لقد كنت دائما تقابل غضبي بالصّمت … لعلّك تشتمني الآن في سرّك ؟ نظرت إلى الشّعار الذي يزيّن صدره … أسدان متعطّشان إلى الدّماء و مفتاحان غليظان و خلفهما أقفال نحاسيّة سميكة و خلف الأقفال غرف و زنازين و سقائف مرّت منها قوافل من البشر كتبوا بآلامهم ملاحم الأجساد المعذّبة و الشّرف المهدور. قرّب إليّ القهوة و سألني بنظرة حادّة : هل ستطالب بمحاكمتي لو توفّرت لك الفرصة ؟ هل ستدعو أنت و زملاؤك إلى شنقي ؟
دفعت إليه قهوته و لسان حالي يقول : لن يثلج شنقك صدري لأنّي أكره الشّنق و لكن ربّما يتبدّد حزني و إحساسي بالمرارة عندما أرى حرقة النّدم ماثلة في عينيك و أتحسّسها في نبرات صوتك …عندها فقط أغفر و لا أنسى … ثمّ غادرت مكاني و تركته لنار سيجارته تحرق شفتيه.