أراد تمريرها بصمت تجنبا لكشف حقيقة الشراكة مع الاتحاد الاوروبي .. مراجعات جوهرية يقرها المعهد الوطني للإحصاء ..بقلم جنات بن عبد الله

أثارت النتائج الصادرة يوم الأحد 15 أوت 2021 عن المعهد الوطني للإحصاء بخصوص نسبة نمو الناتج المحلي الإجمالي للثلاثي الثاني من السنة الجارية، أثارت استغراب الرأي العام التونسي باعتبار ارتفاع هذه النسبة الى 16.5 بالمائة إيجابي مقابل نسبة سلبية ب 8.8 بالمائة في سنة 2020 ونسبة سلبية خلال الثلاثي الأول ب 1.7 من السنة الجارية في ظل تواصل تعطل النشاط الاقتصادي بسبب تداعيات أزمة كورونا وتأخر التلاقيح.

ولئن لم يوضح المعهد حقيقة هذه النسبة الإيجابية التي لم تحققها لا الصين ولا أي بلد اخر، كما أنه لم يشر الى دلالاتها وخلفياتها، فانه أرفق هذه النشرية برابط الكتروني لمذكرة أعلن فيها عن مراجعات وتغييرات شملت سنة الأساس المعتمدة لاحتساب المؤشرات، ونظام المحاسبة العمومية، وذلك في إطار الاستجابة للمعايير الدولية في هذا المجال حسب المذكرة.

في هذا السياق أشارت المذكرة الى أن المعهد الوطني للإحصاء انطلق منذ مدة في تأهيل منظومة المحاسبة العمومية التي تم تركيزها في ثمانينات القرن الماضي موضحا أن المقصود بالتأهيل هو اعتماد سنة أساس جديدة لاحتساب المؤشرات الاقتصادية والمالية والاجتماعية وهي سنة 1520 في اطار ما يسمى بالجيل الثالث للحسابات العمومية التونسية خلفا للجيل الأول لسنة 1983 والجيل الثالث لسنة 1997.

وتشير المذكرة الى أن عديد الأسباب تقف وراء مثل هذه المراجعات لنظام المحاسبة العمومية المدعوة، كما جاء في المذكرة، الى التجديد في اتجاه مزيد التفاعل مع التطورات والمستجدات التي يشهدها الاقتصاد التونسي بما يضفي مزيدا من الشفافية والواقعية في التعاطي مع الواقع الاقتصادي والمالي والاجتماعي في البلاد حسب ذات المصدر.

وترى المذكرة أن اعتماد سنة 2015 كسنة أساس جديدة بدلا عن سنة 1997 يأتي استجابة لمقتضيات نظام المحاسبة العمومية لسنة 2008 الصادر عن البنك الدولي وصندوق النقد الدولي ومنظمة الأمم المتحدة والمفوضية الأوروبية ومنظمة التعاون والتنمية الاقتصادية، وهو ما من شأنه أن يؤدي، حسب المذكرة، الى تغيير منهجية احتساب المؤشرات وتغيير المفاهيم ومصادر المعلومة.

ولعل أول تغيير، كنتيجة لتغيير سنة الأساس من سنة 1997 الى سنة 2015، حسب المذكرة، شمل الناتج المحلي الإجمالي الذي ارتفع بنسبة 6 بالمائة ليبلغ 89.802 مليار دينار وهو المستوى المرجعي الجديد مما أدى الى مراجعة نسبة نموه في سنة 2020 نحو الانخفاض من 8.8 بالمائة سلبي الى 9.2 بالمائة سلبي.

وباعتبار تغير قيمة الناتج المحلي الإجمالي، التي أضحت المرجعية الجديدة، فقد تغيرت تباعا كل المؤشرات مثل نسبة الاستثمار ونسبة الادخار ونسبة البطالة الى جانب طبعا نسبة نموه خلال الثلاثي الثاني من السنة الجارية التي بلغت 2 بالمائة سلبية مقارنة بالثلاثي الأول من السنة الجارية و16.2 بالمائة إيجابي بحساب الانزلاق السنوي أي مقارنة بالثلاثي الثاني من سنة 2020 حيث بلغت نسبة النمو 819. بالمائة سلبي.

وحسب مذكرة المعهد الوطني للإحصاء فقد دفع اعتماد نظام المحاسبة العمومية لسنة 2008 في إطار سنة أساس جديدة وهي 2015 الى مراجعة طرائق احتساب عديد المؤشرات بما في ذلك تلك المتعلقة بالتجارة الخارجية لتونس واعتماد النشرية السادسة لدليل احتساب ميزان المدفوعات لصندوق النقد الدولي الصادرة في سنة 2008

). La 6 ème Edition du manuel de la balance de paiement: BPM 6(

مذكرة المعهد الوطني للإحصاء تجنبت اتباع منهجية التوضيح التي اتبعتها عند فك شفرة التغييرات الناجمة عن تغيير سنة الأساس لاحتساب الناتج المحلي الإجمالي ونسب نمو البطالة والاستثمار وغيرها ليقتصر الأمر في مجال تقديم خصوصية النسخة السادسة لدليل احتساب ميزان المدفوعات لصندوق النقد الدولي على تفاصيل شحيحة لا تعكس التداعيات الخطيرة على عجز الميزان التجاري وميزان المدفوعات.

ورغم خطورة الحقائق التي ستنجر عن اعتماد النسخة السادسة لدليل احتساب ميزان المدفوعات على أكثر من مستوى فقد انتهج المعهد أسلوبا ناعما وبعيدا عن اثارة الجدل وطرح نقاط الاستفهام لتمرير طريقة الاحتساب الجديدة التي اعتمدها الاتحاد الأوروبي والبلدان الأعضاء منذ سنة 2010 في اطار “النظام الأوروبي للحسابات العمومية والإقليمية الصادر سنة 2010” الذي ينص حسب ما جاء في تعريف التصدير لمعهد الإحصاء والدراسات الاقتصادية الفرنسي أن البضائع والسلع التي يتم تصديرها من قبل الشركات غير المقيمة والتي تنشط في اطار نظام المناولة وتخضع لنظام التصدير الكلي لا تحتسب تصديرا ولا تحتسب في الميزان التجاري، ونفس الشيء يطبق في عمليات التوريد من قبل نفس الشركات، باعتبار أن هذه البضائع ليست على ملك البلد التي صدرها ولكن على ملك البلد الذي تنتمي له

الشركة الأم التي أعطت أوامر الإنتاج في بلد المناولة لتسجل عملية التصدير في ميزان المدفوعات كخدمات صناعية.

ما يجب الإشارة اليه أن اعلان المعهد الوطني للإحصاء عن اعتماد طريقة الاحتساب حسب النسخة السادسة لدليل احتساب ميزان المدفوعات لصندوق النقد الدولي، والتي تأخرت لعشر سنوات مقارنة مع الاتحاد الأوروبي، جاء بطريقة بعيدة عن الأضواء وتنظيم ندوة صحفية وكأنه أراد إخفاء حقائق خطيرة تتعلق بشريكنا التجاري الأوروبي الذي يقدم نفسه كشريكنا الأول حيث أن الطريقة الجديدة ستقلب كل الموازين وتعيد وزن الاتحاد الأوروبي في ميزاننا التجاري الى حجمه الحقيقي بعيدا عن التضخيم والمغالطات التي روجت لفائض لتونس في ميزانها التجاري مع الاتحاد الأوروبي وعدد من الدول مثل فرنسا وإيطاليا وألمانيا والحال أنه منذ عقود يشكو ميزاننا التجاري مع الاتحاد الأوروبي عجزا هيكليا كبيرا يحوم حول 50 بالمائة من العجز الجملي بقيمة تناهز 14 مليار دينار من عجز جملي يناهز 30 مليار دينار سنويا مقابل نسبة تغطية الواردات بالصادرات لا تتجاوز 30 بالمائة وهو ما يكشف عن حالة التبعية لتونس تجاه الخارج والاعتماد المتزايد على الاقتراض الخارجي من أجل تمويل الواردات دون الإعلان عن ذلك.

وكما أشرنا سابقا، في عديد المقالات منذ أكثر من ست سنوات، تقوم طريقة الاحتساب المعتمدة الى حد الان من قبل المعهد الوطني للإحصاء على دمج المبادلات التجارية للشركات المقيمة وغير المقيمة بما ضخم قيمة الصادرات دون أن يكون لها تداعيات حقيقية على الميزان التجاري وعلى الاحتياطي من العملة الصعبة باعتبار أنه بمقتضى مجلة الصرف التونسية فان الشركات غير المقيمة غير مطالبة باسترجاع مداخيل صادراتها.

بعبارة أخرى ما يسجله الميزان التجاري من تدفقات من قبل الشركات غير المقيمة الناشطة في إطار المناولة لا نجد لها أي أثر في ميزان المدفوعات باستثناء احتساب الخدمات الصناعية المرتبطة بأجور العاملين وفاتورات استهلاك الماء والكهرباء وغيرهما في الوقت الذي تروج فيه السلط التونسية لفائض لتونس، مع فرنسا مثلا بقيمة 4 مليار دينار، في حين أن هيكلة صادراتنا منذ سبعينات القرن الماضي لم تتغير ليقتصر التصدير على الفسفاط وزيت الزيتون وقليلا من التمور والقوارص ومنتوجات الصيد البحري بما يكشف عن تواطؤ خفي بين كل الحكومات المتعاقبة بعد الثورة والاتحاد الأوروبي بزعامة فرنسا باعتبار أن الاتحاد بدأ بتطبيق النسخة السادسة منذ سنة 2010 وكان عليه اعتماد هذه الطريقة مع تونس منذ ذلك التاريخ لنتساءل عن مصداقيته في هذا المجال وعن دور البرلمان الأوروبي لرفض مثل هذه الممارسات التي ترتقي الى مستوى التدليس.

كما يكشف التأخير في اعتماد الطريقة الجديدة عن تواطؤ كل الحكومات المتعاقبة بعد الثورة مع صندوق النقد الدولي الذي سمح لتونس بمواصلة العمل بطريقة تتناقض مع نسخته السادسة الصادرة في سنة 2008 وكانت موضوع ورشات تكوينية، بتمويل منه، للإطارات التونسية بما يكشف عن إرادة واعية لإخفاء حقيقة عجزنا التجاري مع الاتحاد الأوروبي الذي يضغط اليوم في اتجاه التوقيع على اتفاقية التبادل الحر الشامل والمعمق “الأليكا” التي يروج لها كمنقذ للاقتصاد التونسي ومسار لضمان اندماجه في الاقتصاد الإقليمي والعالمي والحال أن ميزاننا التجاري هو هيكل عظمي يعكس اقتصادا هشا قابل للاحتواء والاستيلاء عليه أكثر من قدرته على افتكاك موقع في الاقتصاد الإقليمي.

انه من حق التونسيين اليوم المطالبة بالحقيقة كاملة وبمحاسبة كل من كان يقف وراء المغالطة واخفاء الحقائق التي تعكس الحجم الحقيقي لاقتصادنا والعمل على تقديمه لقمة سهلة للشركات العالمية ورأس المال العالمي وايهام الرأي العام بالبحث عن أسباب تفاقم البطالة والفقر وانهيار الدينار وتفاقم المديونية والتفريط في سيادتنا الوطنية واعطاء الشرعية لممارسات أدخلت البلاد في المجهول والحال أن الخطوة الأولى في طريق الحل تبدأ من الميزان التجاري الذي كان وهما…فهوى.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *