مقال لكمال بن يونس بمناسبة صدرو كتاب الطالبي “ليطمئن قلبي” عام 2008

بعد تصريحات البابا وحملات الخلط بين الإسلام والإرهاب: الطالبي يشـنّ حربا على أركون والشرفي و«العقلانيين»

فقرات من الكتاب خلطت بين السجال الفكري… والتكفير

كمال بن يونس

تونس ـ الصباح:

تعاقبت الكتب الجديدة التي تعنى بقضايا الفكر العربي المعاصر.. وخاصة بمرجعياته الاسلامية والتراثية.. مع دراسات مقارنة بين الاديان والثقافات والايديولوجيات التي أثرت ولا تزال في حياة الشعوب..

وقد زاد الاهتمام العالمي بهذا النوع من الكتابات بعد مفاجأة نجاح ثورة ايران بزعامة الخميني عام 1979.. وبعد بروز ظواهر ثقافية وسياسية وأمنية معقدة في عدة مجتمعات عربية واسلامية خلال العقود الثلاثة الماضية.. ثم بعد هجمات 11 سبتمبر2001 على برجي نيويورك ومقر البنتاغون وما تلاها من حروب بوش وحلفائه في المنطقة العربية والاسلامية وفي العالم الغربي.. خاصة في فلسطين والعراق وأفغانستان.. حيث تداخل الديني بالسياسي.. والوطني بالعقائدي.. والعنف بالارهاب والجريمة المنظمة.. وشعارات نشر الديمقراطية والحداثة بالمخططات الاستعمارية.. الخ

في هذا السياق صدر مؤخرا كتاب جديد من عن دار سيراس للنشر للمؤرخ محمد الطالبي يحمل عنوان “ليطمئن قلبي” (الجزء الأول قضية الايمان وتحديات الانسلاخ إسلامية ومسيحية قداسة البابا بنوان 16).. جاء في معظمة ردا على كتابات تلميذه سابقا المختص في الحضارة العربية الاسلامية وفي المقارنة بين الاديان الاستاذ عبد المجيد الشرفي.. وعلى المفكر الفرنسي الجزائري محمد أركون.. وعلى البابا بنوان 16 صاحب التصريحات الشهيرة التي أثارت ردود فعل متوترة في أوساط عربية إسلامية واسعة.. خاصة أنها تزامنت مع ما عرف بـ”قضية الرسوم المسيئة للرسول ()” في صحف دانماركية وغربية..

الكتاب جاء في 290 صفحة من طبعات مؤسسة سيراس التي يديرها منذ عقود الاعلامي والمثقف الكبير محمد بن اسماعيل.. لكن من بين مفاجآتها غير السارة أنها مليئة بالاخطاء اللغوية.. بخلاف المنشورات السابقة لدار سيراس..

* موقف الاستاذ من الطالب

الا أن من بين ما يفاجئك منذ الوهلة الاولى من حيث المضمون أن مؤلف الكتاب ـ الاستاذ محمد الطالبي ـ صاغ نصه بأسلوب لم يعرف به في كتاباته العلمية.. لما كان أستاذا للتاريخ في الجامعة التونسية ومسؤولا في وزارة الثقافة.. وبعد تقاعده..

لقد بدا الكتاب من أوله إلى آخره شيقا بسبب أسلوبه السجالي.. المستفز في احيان كثيرة.. لكنه بدا مزعجا أحيانا لأن صاحبه نزل إلى مستوى تكفير خصومه ـ وخاصة الشرفي وأركون و”طلبتهما” ـ وتوجيه اتهامات خطيرة جدا إليهم.. من بينها التشكيك في نزاهتهم العلمية وفي انتمائهم إلى المنظومة الثقافية الاسلامية بمفهومها الواسع.. بل بلغ به الامر حد تفسير بعض أفكار المفكرين والباحثين الكبيرين عبد المجيد الشرفي ومحمد أركون بولاءات مشبوهة إلى جهات “صليبية”.. واستعمارية أوروبية مسيحية وأمريكية… والرئيس الامريكي الحالي بوش الابن.. الخ ؟

ومن حيث اسلوب الصياغة بدا الكتاب الجديد للاستاذ الطالبي أقرب إلى ملاحظات الذي يريد أن “يؤنب” تلميذه السابق “(عبد المجيد الشرفي).. ويطعن في كبرياء مفكر” انسلخ من الاسلام “(وانتمى حسب الطالبي) الى من وصفه بتيار” الانسلاخ إسلاميين “(اي الانسلاخ من الاسلام).. الذي اتهمه بالهزيمة والاسقاط والتجني على العقيدة الاسلامية وعلى الوحي وسيرة الرسول محمد .. الخ.

* “عيال الله” و”أمة الوسط”

الكتاب الجديد بدا مناقضا تماما لتمشي كتابيه السابقين “عيال الله” و”أمة الوسط”.. حيث اعتمد أساسا منهجا عقلانيا براغماتيا.. يؤكد على علوية مبدإ الحرية.. وسلطة العقل وحقوق الانسان واحترام كرامة البشر وحق الاختلاف.. بما في ذلك تاويل النصوص الدينية الاسلامية..

أما في كتابه الجديد فأكد الكاتب على حق غير المسلمين و”المنسلخين من الاسلام” في التعبير عن وجهة نظرهم.. وطعن في الاحكام الفقهية التي تبرر معاقبة المرتدين (عن الدين) بالقتل وبرر حرب أبي بكر ضد مرتدي عصره بكونها حربا سياسية هدفها المحافظة على “الوحدة الجغرافية” للدولة الناشئة التي عين على رأسها..

وقد كان الطالبي في موقفه هذا عقلانيا الى حد كبير.. وقدم اجتهادا قد يرفضه الاصوليون الذين قد يفتون بقتله بدوره؟؟ لكنه سرعان ما تراجع واتهم الذين يقدمون قراءات عقلانية مغايرة لتاويلاته بكونهم من “الصنف المقنع” من “الانسلاخ اسلاميين” (أي المنسلخين من الاسلام؟؟).. و”بالغش والدسيسة”.. (هكذا ؟؟) واعتبر “هتك قناعهم” فرضا دينيا..؟؟ ثم أسهب في شتمهم واتهامهم وتحقيرهم.. والتشكيك في كفاءتهم العلمية وطعن في عقيدتهم وايمانهم.. باسلوب لم تعرف به كتابات الطالبي ذات الصبغة التاريخية والثقافية.. عن الاغالبة والعهد الاسلامي الاول.. رغم ما عرفت به بعض كتاباته السياسية الجديدة بدورها من توتر.. مقارنة بكتاباته ومواقفه الموالية للمؤسسات الرسمية لما كان مسؤولا في وزارة الثقافة واستاذا في شعبة التاريخ بكلية الاداب والعلوم الانسانية.

* “الاسلام بين الرسالة والتاريخ”

وليس المقام هنا لاعلان موافقة كل ما جاء في الكتاب الجديد للطالبي أوكتب خصومه وخاصة كتابي “الاسلام بين الرسالة والتاريخ” للاستاذ عبد المجيد الشرفي. و”الفكر الاسلامي في الرد على النصارى الى نهاية القرن الرابع هجري العاشر ميلادي”… ومن حق الاستاذ الطالبي وغيره أن ينتقد كتب الشرفي علميا وبأسلوب أكاديمي وهادئ بالقوة التي يريد..

لكنه قد يكون فوت على نفسه وعلى خصوم الشرفي هذه الفرصة.. لما رد على كتاب تناول السيرة النبوية وملفات الوحي وأولويات العقل على النقل (أو العكس) بأسلوب الاتهامات العقائدية والفقهية ومنطق التكفير.. أي بمنهج يقصي الآخر.. عوض أن يتحاور معه.. خاصة عندما يتعلق بباحثين وكتاب في حجم عبد المجيد الشرفي (أو محمد أركون وهشام جعيط وعدد هائل من الباحثين العرب والمستشرقين..) تحركوا دائما من منطلق الدعوة للاجتهاد والعقلانية في قراءة التراث والمرجعيات الدينية وتطورات التاريخ السياسي والاجتماعي والفقهي في العالم العربي الاسلامي وفي بقية الدنيا.. مع الانتساب الى الفضاء العربي الاسلامي الكبير.. أو تأكيد عدم عدائهم له ولشعوبه بخلاف بقية منظري الاستعمار القديم والجديد..

* التشكيك في مواقف فلسفية تبناها الشرفي وأركون

وقد خصص الكاتب 7 فصول كاملة من كتابه للرد على “الانسلاخ اسلامية” مع عنونة بعضها بجمل فيها اسم عبد المجيد الشرفي.. وذكر اسمه اسم مؤلفه (الاسلام بين الرسالة والتاريخ) مرارا.. مع تسمية محمد أركون والاستدلال ببعض مقولاته “الخطيرة” في اكثر من موقع.. والتشكيك في نزاهته وصدق ايمانه بدوره.. خاصة عندما تعرض الى محاضرة القاها في واشنطن.. بعد هجمات 11 سبتمبر 2001 وبدء مسلسل جديد من الهجمات الاستعمارية الامريكية والحليفة على العالم العربي الاسلامي.. فاتهمه بالولاء للمخطط الاستعماري الامريكي الجديد..؟؟

وقد غاب عن الاستاذ الطالبي أنه بدوره اتهم مرارا بالولاء “للاجنبي” بسبب بعض محاضراته ومداخلاته في عواصم أوروبية.. وفي هيئات سياسية لها اجندا خاصة بها.. تلتقي أحيانا مع اجندا الادارة الامريكية بزعامة بوش الابن حليف المستعمر الاسرائيلي الأقوى منذ 2001..

* سجال عقائدي..أم أكاديمي؟

وقد بدا الكتاب في فقرات عديدة شيقا.. لأن صاحبه اعتمد فيه منهجا سجاليا مع كل الافكار التي عبر عنها الشرفي وأركون و”تلاميذهما المغرر بهم “(مثل الجامعية التونسية نايلة السليني).. فيما يتعلق بـ”تاريخية التفسير القرآني والعلاقات الاجتماعية من خلال كتب التفسير”..

واعتبر الطالبي أن خصومه تاثروا بمستشرقين “جهلة” من أمثال المستشرق الفرنسي رادينسونRadinson مؤلف كتاب عن النبي محمد اختار له تسمية “مهومات” Mahomet .. وقد عاب الطالبي عليه وعلى أمثاله من المستشرقين ـ وهو محق في ذلك ـ لانهم يتعمدون تشويه اسم الرسول محمد.. مثلما شوهوا اسماء عدد بارز من كبار العلماء العرب والمسلمين مثل ابن سينا والخوارزمي وابن رشد.. الخ.

لكن من بين ما قد يعاب على كتاب الطالبي أنه خلط بين رادينسون وغيره من الباحثين المستشرقين.. بينما يعلم الجميع أن بعض هؤلاء المستشرقين قدموا بدورهم دراسات متناقضة.. كثير منها نقدي لمنتوج زملائهم الغربيين “المستشرقين”.. الذين لم يكونوا أبدا حزبا واحدا..

كما قد يعاب على الطالبي انه حاسب الشرفي وأركون ونائلة السليني وغيرهم ممن يخالفهم الراي بما نشره بعض المستشرقين مثل رادينسون.. فوقع في الاسقاط حيث عاب على خصومه ذلك.. الى حد وصف محمد أركون بـ”الفرنسي من أصل قبائلي؟؟ تلميذ الاباء البيض الذي حبس حياته كلها في هدم بنية القرآن (..) وخدمة الرئيس بوش” (هكذا؟؟) فيما تهجم على الكاتب الجزائري مالك شبال ووصفه بـ”زعيم اسلام الانوار” وعرفه الطالبي بكونه “اسلام يستدعي الاستغناء عن الله والارسال به الى جبل اولانب Olympe مقر آلهة اليونان”#0236؟؟

ولاشك أنه يحق للطالبي أن ينقد خصومه بعمق أكاديميا.. لكن السؤال هو: هل يحق له أن يتهجم عليهم عقائديا ردا على وجهات نظرـ قد نختلف معها ـ لكن أصحابها قدموها وفق منهج علمي أكاديمي بصرف النظر عن نواياهم ومعتقداتهم.. التي يفترض أن لا تكون جزءا من السجال.. حتى لا ينحط مستوى الحوار العلمي.. ويتحول الى مشاكسات “مؤمنين” و”كفار”..

* الخلط بين السجال مع البابا الحالي والتفاعل مع العلماء المعتدلين

واذ خصص الكاتب الجزء الثالث والاخير من كتابه لنقد بعض تصريحات البابا الحالي.. وقدم قراءة مطولة لمقولاته ومواقف بعض الرموز المتشددين في الثقافة المسيحية ـ اليهودية.. فان من ثغرات الكتاب أنه خلط أحيانا بين كل شيء.. بين المواقف الدينية والكتب المقدسة والتاويلات المختلفة والمتناقضة للمسيحية واليهودية والاسلام.. وآلاف الكتب والمقالات المعتدلة عن الاسلام والعرب دينا وتراثا وواقعا الصادرة عن علماء وخبراء اوروبيين وغربيين.. لم يكونوا ابدا جزءا من “المؤامرات الخارجية” على العالم العربي الاسلامي قبل أحداث 11 سبتمبر وبعدها.. التي يبدو أنها أثرت كثيرا في نفسية الكاتب.. كما أحدثت هزات في صفوف كثير من المثقفين والساسة وعامة الناس في العالم.. وفي المنطقة العربية على وجه الخصوص..

كما خلط الكاتب بين القراءات الفلسفية والتاويلات الفكرية والتاريخية من جهة والمواقف الايمانية والعقائدية.. التي تبنى الطالبي بعضها رافعا شعار “ليطمئن قلبي”.. وذلك من حقه.. لكن هل يعني ذلك أن يسقط قراءة دينية اسلامية واحدة لتفسير بقية الاديان ومرجعياتها.. بما فيها المسيحية واليهودية.. حيث برزت آلاف القراءات الدينية.. وصراعات عقائدية تاريخية تسبب بعضها في تفجير حروب وصراعات سياسية دينية دامت قرونا بين دول أوروبية عديدة في العهدين الوسيط والحديث.. ويتواصل بعضها الى اليوم..؟؟

وهل يمكن أن “يطمئن قلب” المسلم اليوم.. أمام الكم الهائل من التحديات الثقافية والسياسية التي تواجهه بمجرد تقديم قراءة “ايمانية اسلامية” لتاريخ انبياء اليهود والمسيحيين وقداسهم وواضعي كتبهم المقدسة..؟؟

* كتاب يفتح باب السجال والحوار

تساؤلات بالجملة أثارها كتاب “ليطمئن قلبي”.. الذي ينبغي أن يقرأ بعمق.. قبل مناقشته والرد عليه بهدوء.. خاصة فيما يتعلق بمنهجه الذي بدا “ايمانيا” أكثر منه “معرفيا”.. و”عقائديا” أكثر منه عقلانيا..

الكتاب سيثير زوبعة.. وانتقادات ضد المؤرخ والكاتب الكبير محمد الطالبي.. ستصدر عن خصومه وأنصاره.. وعن طلبته السابقين الذين كان يشدهم بحياده العلمي.. ورفضه مسايرة “المسلمات” و”الافكار المسبقة”.. عندما كان بعض زملائه المؤرخين في الجامعة يتعصبون في وصف المنهج الماركسي في تفسير التاريخ بـ”المنهج العلمي الوحيد”.. وكان الطالبي وهشام جعيط من بين قلة من المؤرخين اللذين يعترضون على هذا “التبسيط”.. وعلى القراءات “العقائدية” ويدعون الى قراءة التاريخ دون تعسف على الوقائع.. كما تبينها الوثائق..أي المصادر والمراجع..

( جريدة “الصباح” الصادرة يوم 05-02-2008)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *