مراجعات وخلافات داخل حزب النهضة: التداول على المسؤوليات خيار قانوني سياسي أم “مؤامرة خارجية”؟ .. بقلم كمال بن يونس

في الوقت الذي تستعد فيه تونس ودول المنطقة لإحياء “الذكرى العاشرة للثورات العربية ” ولمواجهة تحديات اقتصادية اجتماعية زادها وباء كورونا تعقيدا ،فجرت الاستعدادات للمؤتمر الحادي عشر لحركة النهضة التونسية جدلا قديما جديدا حول الحوكمة وبعض القضايا الفكرية والسياسية الخلافية التي سبق أن فتحتها خلال الأعوام والعقود الماضية عدة أحزاب حاكمة ومعارضة ، من بينها الأحزاب العقائدية القومية واليسارية والإسلامية .

لعل أبرز هذه القضايا وأكثرها حساسية تلك التي تهم الانتخابات الداخلية والتداول على المسؤوليات و الموقف من “التمديد” في المواقع القيادية للزعماء المؤسسين والعلاقة بين أجيال المناضلين ، وإن كان التداول على المسؤوليات ضرورة وشرطا لتأكيد الصبغة الديمقراطية لأي كيان سياسي أم ” مغامرة غير مأمونة العواقب “و” مؤامرة خطيرة تحركها أطراف خارجية تستهدف الاستثناء الديمقراطي التونسي” .

وكشف هذا الجدل خلافا حول أولويات المرحلة القادمة : هل تكون لتداول البرامج والمخططات والاستراتيجيات أم للتداول على المناصب القيادية في الأحزاب بدءا من منصبي الرئيس والأمين العام مع الانفتاح على الشباب تنفيذا لمقررات المؤتمرات السابقة للحركة ؟

وهل يشمل قانون التداول المواقع الرسمية للدولة فقط أم ينسحب كذلك على رؤساء الحركات والأحزاب السياسية والتنظيمات العقائدية ؟

وهل سوف يؤدي احترام قاعدة التداول على المسؤوليات فعلا إلى التجديد و الإصلاح أم تكون النتيجة معاكسة فيتراجع إشعاع الحزب أو الدولة بسبب انفجار الصراعات الداخلية على المواقع وعدم توفر “شروط” معرفية وسياسية عديدة في الفريق القيادي الجديد فضلا عن نقص الخبرة والكفاءة والتواصل مع المجتمع المدني ومع كبار صناع القرار الدولي ؟

على صعيد آخر : هل تكون خلافات القياديين في الأحزاب العقائدية – وبينها حزب النهضة التونسي -عابرة وظرفية أم تتسبب في تصدعهم في صورة عجزهم عن فتح حوار داخلي صريح ؟

وهل ما زال الباب مفتوحا “للتفاعل بهدوء ومع احترام الثوابت الأخلاقية “مع الرسالة المفتوحة التي أصدرها مائة من جيلي التأسيس الأول والثاني إلى زعيمهم التاريخي راشد الغنوشي حول التداول على المسؤوليات وأولويات المرحلة القادمة ؟

أم يتسبب الفشل في إدارة الاختلاف هذه المرة في ” تفجير التناقضات المجمدة بصفة مصطنعة ” بما يؤدي إلى شل أغلب مؤسسات الحزب وتفككه ثم تأسيس ” بديل ” أو ” بدائل ” عنه على غرار ما حصل سابقا في عدة أحزاب سياسية وعقائدية يسارية وقومية وإسلامية في تونس وفي المنطقة ؟

يعتقد كثير من الباحثين في تطور الفكر الإسلامي وحركات”الإسلام الاحتجاجي” ، مثل المفكر الفرنسي فرانسوا بورقات والمؤرخ والمفكر التونسي هشام جعيط ، أن ” المراجعات الفكرية والسياسية ” من بين شروط نجاح أو فشل مسارات التجديد والإصلاح والتداول بين البرامج والمخططات والزعماء والقيادات داخل الأحزاب ذات المرجعيات العقائدية ، مثل حركة الاتجاه الإسلامي التونسية التي تأسست آخر السبعينات من القرن العشرين وتطورت منذ 1989 إلى ” حركة النهضة ” ومنذ 2011 إلى حزب قانوني يشارك في الحكم .

وقد تطورت ” النهضة ” من ” حزب تبنى خطابا ثوريا راديكاليا ” قبل 40 عاما ثم بعد انفجار الثورات التونسية والعربية في 2011 إلى ” حزب براغماتي” تصالح ، بعد المنعرج العسكري في مصر في 2013 ، مع ” النظام القديم” و” النظام الدولي” .

كما دخلت قيادة هذا الحزب بزعامة راشد الغنوشي في سلسلة مشاريع “شراكة” مع الزعيمين الجديدين ” للمنظومة القديمة” الباجي قائد السبسي ونجله حافظ قائد السبسي ورفاقهما في حزب ” النداء ” بزعامة رجل الأعمال والإعلام نبيل القروي . ثم تحالفت النهضة مع “المتمردين” على قائد السبسي وابنه بزعامة رئيس الحكومة ومؤسس حزب ” تحيا تونس ” يوسف الشاهد ثم مع مؤسس حزب ” قلب تونس” نبيل القروي . وتسبب تحالف قيادة النهضة مع القروي وحزبه بعد انتخاب منافسه قيس سعيد رئيسا للدولة بنسبة 73 بالمائة في أكتوبر 2019 في سلسلة من الأزمات داخلها وفي علاقتها بمؤسسات الدولة .

وبعيدا عن مزايدات بعض قيادات حركة النهضة وخصومها خاصة منذ خروج خلافاتها حول ” التمديد والتداول على المسؤوليات “إلى وسائل الإعلام ، فإن السؤال الكبير الذي يفرض نفسه على الجميع : هل شهدت الحركة تراكما عقلانيا للرؤى والاستراتيجيات ومخططات العمل لتفسير سلسلة التغييرات التي أصبحت مقبلة عليها وتلك التي سجلت في مسارها خلال الخمسين عاما الماضية ؟

وهل أن الاستعدادات للتغييرات القادمة على رأس الحركة تحركها رؤيا وإستراتيجية أم سلسلة من الخلافات الشخصية والتنظيمية التي تراكمت ولم تحسم بسبب غياب آليات ومؤسسات واضحة للحوار ول”تفكيك الألغام” بعيدا عن المغالبة والإقصاء و الإقصاء المضاد وعن خطابات التكفير والشيطنة؟

وهل بنيت مشاريع التغيير في القيادة وفي مستوى رئاسة الحركة من جهة وفي الإستراتيجية ومخططات العمل والمواقف على رؤيا أوصل إليها تراكم التجارب والخبرات والنقد الذاتي الجماعي الجريء أم فرضتها عوامل أمنية وسياسية وشخصية وموازين قوى ظرفية ؟

وهل بلغت الأحزاب العقائدية وبينها النهضة نضجا تبرره مراجعات فكرية وسياسية عميقة وعقلانية ؟ أم أن محاولات ” التغيير” كانت ولا تزال تعاقبا لقرارات مرتجلة ومتناقضة فرضتها ” الصبغة السرية ” للحركة وهياكلها و المستجدات الأمنية الوطنية والدولية و حملات القمع والمطاردة المتعددة الأشكال ؟

في كل الحالات تبين أن الكثير من المراجعات العميقة التي قام بها الجيل المؤسس الأول والثاني ثم الجيل الثالث من القياديين والمناضلين تراجع تأثيرها في مراحل المحاكمات السياسية والمنفى ، و بعد أن كثرت الحاجة إلى ” المواقف البراغماتية ” وإلى مسايرة “ضغوطات حلفاء الحركة ” العرب والأجانب ، عندما تقاطعت مصالحهم مع مصلحة تأمين مصالح أبناء الحركة في المنافي والسجون ، أو مع مشاريع محاولة التمكين لها ومساعدتها على المشاركة في الحياة السياسية وفي مؤسسات صنع القرار الوطني أو الإقليمي .

تداول المرجعيات وتداول الزعامات

في هذا السياق يتابع كثير من الباحثين الأكاديميين والإعلاميين داخل تونس وخارجها باهتمام الحوارات الفكرية والسياسية والتنظيمية العلنية والداخلية ، تحضيرا للمؤتمر القادم لحركة النهضة ، بين من وصفهم راشد الغنوشي والمقربون منه في النهضة مثل خليل البرعومي ب” الإسلاميين الديمقراطيين التونسيين ” .

ويقر أغلب القياديين المناصرين للغنوشي والمعارضين له من بين من صاغوا عريضة ” المائة ” ، أن تقييم تجارب الحركة ومختلف قياداتها بعد نصف قرن كامل عن تأسيس”الجماعة الإسلامية في تونس” في 1972 أصبح ضروريا ، وقد يقدم ” إضافة فكرية سياسية وطنيا ودوليا ” . كما قد يكون فرصة لتحقيق ما أسماه المفكر ورئيس دائرة الثقافة في حركة النهضة والزعيم الطلابي السابق العجمي الوريمي ” التجاذب الجيلي” ( أي التجاذب بين ممثلي أجيال مختلفة ) و” تنظيم التنوع للنجاح في معالجة أعراض أزمة نمو الحركة سياسيا وثقافيا حتى لا تتطور إلى أزمة وجود” .

ويعتبر القيادي العجمي الوريمي من أكثر المدافعين عن مقولة ” حاجة الحركة والبلاد للإبقاء على الزعيم راشد الغنوشي في قيادة النهضة ” ، لكنه يقر بكون ” الانتقال القيادي من جيل إلى جيل جديد ضروري جدا ، مع إمكانية القفز على جيل كامل “، بما يعني الانتقال مباشرة من الجيل المؤسس الأول إلى جيل الشباب والتحرر من ” معارك الجيلين السابقين “.

ويستدل الوريمي بمقولات الفيسلوف الالماني هيغل التي تؤكد على كون ” الاندثار” يهدد الاطراف التي لا تتطور.

لكن عبد الكريم الهاروني الوزير السابق ورئيس مجلس الشورى ورفاقه المناصرين للتمديد للغنوشي مثل خليل برعومي رئيس دائرة الإعلام في القيادة المركزية يختلفون مع معارضيهم بزعامة الوزيرين السابقين سمير ديلو وعبد اللطيف المكي والخبير الاقتصادي محمد النوري حول آليات هذا التقييم وأهدافه : هل يكون علنيا ويناقش في وسائل الإعلام أم داخل مؤسسات الحركة بعيدا عن أعين ” الخصوم ” و” المتربصين ” ؟

معركة خلافة الرئيس

وينفي محمد النوري القيادي في النهضة وأحد مهندسي ” عريضة المائة ” تمسكه ورفاقه ” من معارضي التمديد لزعيم الحركة ” افتعالهم أزمة سياسية بسبب ما عرف ب ” معركة خلافة الغنوشي ” ، وأورد أنه ورفاقه اقترحوا على الغنوشي تعيينه على رأس ” هيئة حكماء ” أو أي موقع شرفي آخر لضمان الاستفادة من خبرته ورصيده مع احترام القانون الداخلي للحركة وخاصة الفصل 31 الذي حدد منذ المؤتمر الثامن المنعقد في لندن عام 2007 مدة رئاسة الحركة بالنسبة لأي شخصية ب10 أعوام .

وأورد عبد الفتاح مورو نائب رئيس الحركة السابق أن الاختلافات الحالية في تقييم استراتيجيات الحركة وأداء قياداتها برزت بقوة داخل السجون وبين كوادرها في المنافي .

وأكد كوادر من حركة النهضة في أوربا بينهم عبد الرؤوف الماجري والازهر عبعاب وعلي قعليش ومحمد النوري ، أنه سبق أن وقع توثيق تلك الخلافات حول ” الانتقال القيادي ” و” التداول على المسؤوليات ” بوضوح في وثائق اجتماعات قيادات الحركة في المنفى أبرزها اجتماع عقد في ألمانيا في 1992 بعد المنعرج الأمني في تونس والمنعرج العسكري في الجزائر ، ولجوء راشد الغنوشي وعشرات من القياديين والمناضلين إلى بلدان أوربية أهمها فرنسا وألمانيا وايطاليا وبلجيكيا وسويسرا .

وكانت النصوص أكثر وضوحا ودقة في لوائح المؤتمرين السادس الذي عقد في سويسرا في 1995 و السابع الذي عقد في هولندا في 2001 ثم في المؤتمر الثامن في لندن في 2007.

وقد قدمت في كل تلك الاجتماعات والمؤتمرات مداخلات ودراسات ومشاريع لوائح حول التداول بين الأجيال والتوازن المطلوب بين الاعتراف بدور الزعماء المؤسسين والقيادات الجديدة المنتخبة.

و تكشف تلك الوثائق خلافات في المرجعيات الفكرية والأولويات بين أنصار الغنوشي ومنافسيه بزعامة صالح كركر وعبد الرؤوف بولعابي والأزهر عبعاب ثم الحبيب المكني ورضا ادريس و محمد النوري وجمال الطاهر العوي…

لكن حصيلة تلك الاجتماعات كانت غالبا ” نوعا من توافق المصلحة ” وتكريس زعامة ” الرئيس المؤسس ” راشد الغنوشي ثم ” تجميد التناقضات السابقة”.

تغير المواقع

ومن بين ما يلفت النظر أن عددا من أبرز معارضي الغنوشي اليوم ، من داخل ” مجموعة المائة ” وخارجها ، مثل الوزيرين السابقين محمد بن سالم ولطفي زيتون ، كانوا في مرحلة المهجر” الأكثر دفاعا للتمديد للغنوشي ” وعارضوا إبعاده عن رئاسة الحركة أو إضعاف دوره ، أو استبداله بشخصيات نافسته جزئيا في انتخابات مؤتمرات 1995 و2001 و2007 مثل عبد المجيد النجار وعبد الرؤوف بولعابي ونجم الدين الحمروني ووليد البناني والحبيب المكني..

بل إن بعض معارضي الغنوشي والموقعين على “عريضة المائة ” كانوا في مرحلة المنفي يوصفون ب” الصقور”ويتهمون بتعطيل تنفيذ مقررات مؤتمر 1995 التي دعت الى ” المصالحة الوطنية الشاملة ” وانتقدت مخططات ” التصعيد السياسي والأمني غير المتكافئ مع النظام في 1987 و 1990-1991 ، بما تسبب في أزمة سياسية شاملة وطويلة في البلاد وفي حملات قمع عنيفة لغالبية المعارضين والحقوقيين والنشطاء الإسلاميين .

وقد تعثر مسار التغيير والاصلاح في تلك المؤتمرات بسبب عدم الحسم في الخلاف السياسي وتعمق التناقضات بين تيارين كبيرين في قيادات الحركة في المنفى والسجون وداخل البلاد: الأول يدعو إلى النقد الذاتي لخطتي التصعيد في 1987 و 1991 وإلى المصالحة الوطنية ، والثاني يتمسك بمقررات ” التصعيد ” الصادرة عن المؤتمرين الثالث والرابع والخامس اللذين عقدا على التوالي في 1984 و 1986 في ظروف معركة خلافة الرئيس الحبيب بورقيبة ، ثم عن ثم المؤتمر الخامس الذي عقد في صفاقس في 1988 والذي عين الجامعي ” المحافظ ” الصادق شورو رئيسا للحركة بدعم من أنصار ” الصدام الشعبي مع السلطة بدعم من المجموعة الأمنية ” مثل علي الزروي ومحمد شمام وصالح كركر..

وقد تعاقب على رئاسة الحركة بين مرحلة الصراع مع بورقيبة في 1987 إلى موفى 1991 عدد من القياديين هم صالح كركر وجمال العوي والصادق شورو ومحمد القلوي و محمد العكروت و محمد بن سالم والحبي اللوز ونرو الدين العرباوي ووليد البناني ثم عادت الرئاسة مجددا الى الغنوشي منذ موفى 1991.

لكن رغم إعادة تزكية الغنوشي في كل مؤتمرات الحركة فقد بحث المؤتمران السابع (“مؤتمر إعادة الهيكلة”) في هولندا في 2001 ، ، و الثامن في لندن في2007 سلسة من المراجعات .

كما صادق مؤتمر 2007 على الفصل المثير للجدل حاليا في النظام الداخلي ، الفصل 31 ، الذي حدد عدد الدورات بالنسبة لرئيس الحركة باثنتين فقط ، أي ب8 أعوام .

من لندن إلى تونس : ترحيل الخلافات

وأثير الجدل مجددا حول هذا الفصل وفصول أخرى من بينها ما يهم صلاحيات رئيس الحركة والمكتب التنفيذي ومجلس الشوري في المؤتمر التاسع الذي عقد في صائفة 2012 بتونس ، بعد ان فازت الحركة بالمرتبة الاولى في انتخابات المجلس الوطني التأسيسي واستلمت رئاسة الحكومة وعددا من الحقائب السيادية فيما استلم حلفاؤها في حزبي المؤتمر بزعامة المنصف المرزوقي والتكتل بزعامة مصطفى بن جعفر رئاستي الدولة والبرلمان الانتقالي وعددا من الحقائب والسفارات .

وحسم المؤتمر الخلاف بقرار ” توافقي” نص على كون ” الثورة تجب ما قبلها ” وعلى عدم احتساب الدورات السابقة لرئيس الحركة . وتقرر بدء احتساب الدورات من مؤتمر 2012. وبذلك وقع ” ترحيل الخلاف مجددا ” على حد تعبير القيادي العجمي الوريمي ورئيس الحركة عام 1991 الفاضل البلدي.

وكان المؤتمر العاشر الذي عقد في مايو 2016 في الملعب الاولمبي في رادس جنوبي العاصمة تونس ثم في منتجع الحمامات السياحي ، مؤتمر مناقشة كثير من الورقات الفكرية والسياسية التي حاولت أن تخرج حركة النهضة من ثنائية الجماعة الدينية الدعوية / الحزب العقائدي إلى مرحلة ” الحزب الوطني الجامع “.

ولقي هذا التوجه ترحيبا كبيرا أول الأمر من قبل المثقفين والسياسيين العلمانيين والدبلوماسيين الذين حضر مئات منهم الجلسة الافتتاحية للمؤتمر العاشر.

وبرزت خلال الأعمال التحضيرية للمؤتمر العاشر وعند مناقشة اللوائح نخبة من المثقفين والمفكرين والباحثين في العلوم الانسانية والسياسية والدراسات الإستراتيجية والاستشرافية مثل رضا ادريس وعبد الرؤوف النجار و نجم الدين الحمروني ورفيق عبد السلام و لطفي زيتون ومحمد النوري وزياد العذاري وعماد الحمامي ورضا الشكندالي ورضا السعيدي ..

لكن الصراعات على المواقع والخلافات حول صلاحيات رئيس الحركة وحقه في تعيين أعضاء المكتب التنفيذي أو تكليف مجلس الشورى بانتخابهم ، عوامل أجهضت مشروع الانتقال إلى ” حزب وطني مفتوح ” ، والصراع حول الرؤى والبرامج والإستراتجية وليس حول المواقع والمسؤوليات وما وصفه محمد عابد الجابري ب” معركة الغنائم “.

وخلافا للتوقعات تعثرت مخططات إحداث نقلة فكرية سياسية نوعية في مسار الحزب ومشاريع تطوير الحركة من ” جماعة مغلقة وسرية ” إلى ” تجمع سياسي وطني مفتوح لكل الديمقراطيين والوطنيين والحداثيين المتصالحين مع المرجعية الإسلامية للبلاد وللدستور”.

المراجعات منذ 1979

وتكشف وثائق محاكمات الإسلاميين التونسيين منذ 1981 ثم الدراسات التي أعدها عدد من الباحثين الأكاديميين والشهادات التي نشرها عدد من مناضلي الحركة وخصومها ، أن المراجعات الفكرية والسياسية والقانونية والتنظيمية تعاقبت منذ اجتماعها التأسيسي الأول في ضاحية مرناق جنوب العاصمة تونس في 1972 ثم مؤتمرها الأول المنعقد في أغسطس 1979 بالضاحية الغربية للعاصمة تونس منوبة.

تداخلت منذ تلك الفترة عوامل عديدة من بينها ” الخلافات بين ” القيادات التقليدية المحافظة و السلفية ” للجماعة و” الرموز الإخوانية ” وجهات النظر التي عبر عنها رموز” التيار الجديد” وبينهم مؤسسون انشقوا عن الحركة مثل احميدة النيفر وصلاح الدين الجورشي وعدد من قيادات العاصمة تونس و” الاتجاه الإسلامي في الحركة الطلابية” .

وكان من بين محاور الخلاف بروز قراءات المتباينة ” للتيارات العقلانية في التراث العربي الإسلامي والحركة الوطنية التونسية وفي شمال افريقيا ” ولتجارب حركات الاصلاح والتجديد والنهضة الفكرية في القرنين التاسع عشر والعشرين ، إلى جانب اختلاف في تقييم تجارب جماعات الاخوان المسلمين في المشرق العربي وللشخصيات التي تأثرت بها في البلدان المغاربية واوربا وفي المشرق الاسلامي .

واستفحل الخلاف والجدل في السجون والمنافي في حقبات مختلفة . وبلغ أحيانا حدة كبيرة مثل يؤكد النائب السابق لرئيس حركة النهضة عبد الحميد الجلاصي .

لكن حصيلة الخلاف كانت انفتاح التيار السائد على المدارس غير الاخوانية والسلفية ، ثم على التيارات اليسارية الوطنية والقومية الوحدوية في الحكم وفي المعارضة .

وتطور الانفتاح الى مشاركة قيادات من النهضة في تظاهرات مشتركة في ليييا وسوريا ولبنان والعراق مع زعامات قومية عروبية في الحكم والمعارضة بينها معمر القذافي وصدام حسين وحافظ الاسد ..ثم انخرطت في مؤتمر الحوار القومي العربي الاسلامي مع شخصيات قومية ويسارية اعتبارية مثل خير الدين حسيب ومعن بشور من العراق وعبد الحميد مهري من الجزائر ومسعود الشابي من تونس و حمدين صباحي من مصر وقيادات فلسطينية ورموزمن ” تيار الممانعة ” في لبنان وفي المنطقة . لكن هذا المسار اجهض بعد الثورات العربية بسبب تباين المواقف من الحرب في سوريا وليبيا .

تفكيك المرجعيات الفكرية والسياسية

يعتبر صلاح الدين الجورشي الرئيس السابق لمنتدى الجاحظ و احميدة النيفر رئيس رابطة الثقافة والتعدد والباحث في الفلسفة بن عيسى الدمني ..أن التقييم والنقد مدخل رئيسي للمراجعات ولتفكيك الفكر الذي تسبب في شيطنة الخصوم وتكفيرهم ..بمن فيهم قيادات داخل التيار الاسلامي ..

ودعا الجورشي الى تفكيك المرجعيات العقائدية والفكرية والسياسية لحركة النهضة ولبقية مكونات الأحزاب العقائدى الإسلامية ..قبل اي عملية تطوير او تأسيس لمشروع ديمقراطي جديد ..

لكن الحوارات والمعارك الكلامية حول ” الانتقال الديمقراطي ” في تونس وداخل حركة النهضة ، بما كشفت الحاجة إلى تفكيك ” ألغاز مسكوت عنها” من بينها تحقيق “توازن” بين صلاحيات “الرئيس المنتخب” و ” هيئة كبار الخبراء ” أو ” مجلس الشيوخ” وغيرهما من الهيئات التي قد يقرر المؤتمر القادم إحداثها ويسند رئاستها إلى الغنوشي في صورة موافقته على عدم الترشح لدورة جديدة مقابل ” ضمانات ” و” التزامات ” من قبل مؤسسات الحركة والمؤتمر ب” احترام المقامات ” والاستفادة من خبرته الطويلة وشبكة علاقاته ..

في الأثناء قد تعتبر الأغلبية من ناخبي النهضة وحلفائها أن أولوياتها مستقبلا اقتصادية اجتماعية وأن الصراعات الحزبية الداخلية قد تنال أكثر من شعبية الإسلاميين في الانتخابات القادمة ..وكانت النهضة خسرت ما بين انتخابات 2011 و2019 ثلثي ناخبيها رغم فوزها بالمرتبة الأولى في الانتخابات البرلمانية ..وقد تؤدي الصراعات داخل النهضة إلى توجه مزيد من ناخبي ” تيار الهوية ” نحو منافسيها مثل حصل في انتخابات 2019 عندما انتخب قطاع واسع منهم قيس سعيد وسيف الدين مخلوف والصافي سعيد في الرئاسية وليس عبد الفتاح مورو فيما فاز المرشحون الاسلاميون تحت قائمات ” ائتلاف الكرامة ” بالمرتبة الرابعة ..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *