ما الذي يمكن أن يتغير في تونس؟ بعد استفتاء «الجمهورية الجديدة».. بقلم كمال بن يونس

رفعت كل الأطراف السياسية والاجتماعية والنقابية في تونس سقف مطالبها السياسية بعد الإعلان عن المصادقة على دستور «الجمهورية الجديدة» الذي عرضه الرئيس قيس سعيد على الاستفتاء يوم 25 يوليو (تموز) الماضي. الرئيس سعيد وأنصاره اعتبروا أن غالبية المشاركين صادقت على هذا الدستور الجديد، رغم «تمادي غالبية الأحزاب ومنظمات المجتمع المدني في التشكيك في النتائج السياسية والقانونية للاستفتاء». ومعلوم أن مراقبين يعتبرون أن هذا الاستفتاء يوشك أن يؤدي إلى «القطيعة» مع مسار دستور 2014 «الذي صادق عليه مجلس وطني تأسيسي تعددي انتخبه 4 ملايين مواطن في أول انتخابات شفافة ونزيهة وتعددية نظمت في أكتوبر (تشرين الأول) 2011». وفي الوقت نفسه كشفت ردود الفعل الأميركية والأوروبية على هذا الاستفتاء تصعيد العواصم الغربية انتقاداتها وضغوطاتها على السلطات التونسية بهدف دفعها نحو «العودة إلى مسار ديمقراطي تعددي وتشاركي» واحترام «المكاسب السياسية التي تحققت في البلاد منذ ثورة 2011، وبينها التوافق السياسي ونبذ سياسات الإقصاء»، وصولاً إلى حسم الخلافات عبر طريق صناديق الاقتراح والحوار، وليس عبر صناديق المتفجرات والعنف على غرار ما حصل في عدد من بلدان «الربيع العربي».

في خضم التطورات المتلاحقة في تونس، تُطرح تساؤلات عن ماهية ملامح «الجمهورية الجديدة» في البلاد بفعل متغيرات سياستها الداخلية والخارجي. ويبرز في مقدم التساؤلات تقديرات عما إذا الرئيس قيس سعيد وأنصاره قد كسبوا بعد الاستفتاء المثير للجدل معركتهم ضد معارضيهم في الداخل والخارج؟

كذلك ثمة من يتساءل عما إذا كانت الأزمة الاقتصادية الاجتماعية و«الورقة الدولية» ستؤديان مرة أخرى إلى إعادة خلط الأوراق، وبالتالي، تغيير المسار السياسي في تونس على غرار ما حصل عام 2011 عند إسقاط حكم زين العابدين بن علي… وقبل ذلك، عام 1987 عند الإطاحة بحكم الرئيس الحبيب بورقيبة.

– عن الموقف الدولي

الواقع أنه بعيداً عن حملات النقد في وسائل الإعلام الأميركية والأوروبية للسلطات التونسية منذ مدة، يعتقد كثيرون من صناع القرار في الكواليس أن «المسار السياسي» الذي يقوده الرئيس قيس سعيد منذ إعلانه «الإجراءات الاستثنائية» قبل سنة، حصل بالفعل على «ضوء أخضر» دولي وإقليمي، كما انحازت إليه قيادات المؤسسات الأمنية والعسكرية ومنظمات رجال الأعمال داخلياً.

ورغم «التحفظات» الصادرة عن وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن – وأيضاً عن أعضاء في الكونغرس الأميركي وقيادات في الاتحاد الأوروبي – على بعض قرارات سعيد وحكومته، يرى متابعون أن أولويات الغرب في تونس ومحيطها الإقليمي أصبحت أساساً «أمنية… لا سياسية ثقافية». ويعتبرون أن ما يسوغ ذلك فشل الحكومات المتعاقبة منذ 12 سنة في تحقيق ما وعدت به من تنمية اقتصادية واجتماعية ونجاح أمني.

تحفظات شتى للمعارضين

أحمد إدريس، رئيس معهد تونس للسياسات والخبير الدستوري والقانوني لاتحاد نقابات العمال، قال في تصريح لـ«الشرق الأوسط إن «الأوضاع ازدادت تعقيدا على كل المستويات بعد استفتاء 25 يوليو الذي تشكك المعارضة في مصداقيته ونتائجه وفي شرعية الدستور الذي سينبثق عنه».

وكان نور الدين الطبوبي، أمين عام «الاتحاد العام التونسي للشغل»، قد تحفظ بدوره باسم غالبية قيادات النقابات التونسية عن «فصول الدستور الجديد التي تنال من المكاسب الديمقراطية والتعددية والحقوقية في البلاد… وتتسبب في مركزة كل السلطات تقريبا بين أيدي رئيس الدولة»، وتحفظ أيضاً عما اعتبره «التراجع عن عديد المكاسب الديمقراطية» التي حققها أنصار الحريات العامة والفردية طوال عقود من النضال ضد الاستبداد والفساد، حسب رأيه.

وفي الاتجاه ذاته، اعتبر الوزير السابق غازي الشواشي، زعيم حزب «التيار الديمقراطي» خلال تصريح لـ«الشرق الأوسط» أن «حصيلة استفتاء 25 يوليو تكريس للانقلاب على الشرعية الدستورية الذي بدأ قبل عام عند إعلان «الإجراءات الاستثنائية» ردا على ما سُمي بالتصدي للخطر الداهم… وصراعات النفوذ بين اللوبيات داخل البرلمان ومؤسسات الدولة. وتوقع الشواشي ورفاقه زعماء الأحزاب اليسارية الخمسة، التي تصف نفسها بأنها «معارضة للانقلاب»، أن تسقط المنظومة السياسية الجديدة، وأن «لا ينجح الدستور الجديد في تعويض دستور الثورة الذي صادقت عليه كل التيارات تقريباً… وأكثر من 90 في المائة من أعضاء البرلمان الانتقالي في يناير (كانون الثاني) 2014، بعد حوارات واستشارات شارك فيها آلاف الخبراء وملايين المواطنين».

وفي سياق متصل، قال أحمد نجيب الشابي، زعيم «جبهة الخلاص الوطني» المعارضة خلال لقاء مع «الشرق الأوسط» إن الأطراف السياسية العشرة التي تشكل معاً جبهته «المعارضة للانقلاب» تشكك في صدقية استفتاء 25 يوليو. وأردف أنها هذه الأطراف سوف تتابع الطعن السياسي والقانوني في نتائجه، وأيضا في توجهات الرئيس سعيد ومشروعه لـ«الجمهورية الجديدة». وتوقع الشابي أن يؤدي مشروع الرئيس لـ«العودة إلى نظام رئاسوي مركزي واستبدادي، سيعارضه شركاء تونس في الاتحاد الأوروبي والعالم الديمقراطي ممن يعتبرون أن نجاح الديمقراطية في بلدان جنوب البحر الأبيض المتوسط، وبينها تونس المجاورة لليبيا والجزائر، من بين شروط ضمان الأمن والاستقرار في المنطقة والعالم».

– «ضوء أخضر»

إلا أن حمة الهمامي، زعيم حزب العمال الشيوعي، غرد خارج السرب. إذ اعتبر في تصريح لـ«الشرق الأوسط» عن اعتقاده بأن «واشنطن وبعض العواصم الغربية أعطت الضوء الأخضر لانقلاب العام الماضي». وتابع أن هذه القوى الغربية إنما استغلت «غلطات حكومات العشرية الماضية بقيادة حزبي حركة النهضة والنداء وحلفائهما لتبرير الانقلاب».

بل ذهب الهمامي في كلامه إلى حد اتهام دونالد بلوم، السفير الأميركي السابق لدى تونس، بدعم ما وصفه بـ«انقلاب 25 يوليو 2011» والقرارات الاستثنائية التي أعقبته. وربط ذلك – حسب ادعائه – بسلسلة من الاجتماعات التي عقدها في قصر رئاسة الجمهورية في قرطاج وخارجه حول «الأولويات الجديدة» لواشنطن في تونس والمنطقة، وعلى رأسها أولوياتها الأمنية، ودفع السلطات نحو «مزيد من التبعية والقرارات اللاشعبية التي أوصى بها صندوق النقد الدولي، وبينها التفويت في المؤسسات العمومية وإلغاء الدعم عن المحروقات والمواد الأساسية…»، كما قال.

التزامات عسكرية وسياسية

من جانب آخر، في ضوء اختلاط أوراق المساندين والمعارضين للمشروع السياسي للرئيس سعيد وتداخل مواقفهم، توقع الباحث في السياسة الدولية محمد العياري أن «ينهار في الفترة المقبلة المشهد السياسي القديم وأغلب أسسه في الحكم والمعارضة». وهو يتوقع ذلك «بسبب تفاقم الأزمتين الاقتصادية والسياسية داخلياً، وتزايد التدخل الأجنبي» الذي كرسته أخيراً انتقادات وزير الخارجية الأميركي بلينكن ونظرائه في ألمانيا والاتحاد الأوروبي وإسبانيا وإيطاليا وكندا من جهة… وتصريحات الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون من جهة ثانية.

لكن سالم الأبيض، الوزير السابق والبرلماني القيادي في حزب الشعب، قلل من فرص «تمرد حكومة سعيد» على شركائها في كل من حلف شمال الأطلسي (ناتو) والاتحاد الأوروبي اللذين تجمعها بهما اتفاقيات قديمة ملزمة تفرض على تونس تعهدات أمنية وعسكرية واقتصادية تتماشى ومنحها وضعية «الشريك المميز في الاتحاد الأوروبي» و«البلد الحليف غير العضو في حلف شمال الأطلسي».

وأشار سالم الأبيض إلى أن احتجاجات الخارجية التونسية والرئيس قيس سعيد على تصريحات السفير الأميركي المعين جودي هود، وأيضاً على وزير الخارجية بلينكن وعلى مسؤولي الاتحاد الأوروبي «ليست لها قيمة إذا لم تقترن بالتراجع عن الاتفاق الذي أبرم عام 2015 في واشنطن حول شراكة تونس مع الحلف الأطلسي في موقع متقدم شبيه بوضعية البلدان الأعضاء وبـ«الوضعية المميزة» التي منحها الحلف لإسرائيل. كذلك لا تستطيع حكومة الرئيس سعيد أن تتحرر من «التدخل الخارجي الأوروبي» إذا ما ظلت متمسكة باتفاقيات الشراكة التي أبرمتها حكومات تونس منذ 1995 مع الاتحاد الأوروبي، والتي تنص بوضوح على حق بروكسل والعواصم الأوروبية التدخل في سياسات شركائها في بلدان جنوب البحر الأبيض المتوسط و«دول الجوار».

– غلطات قيادات «النهضة» و«النداء»

في هذه الأثناء، يقدر عصام الشابي، زعيم الحزب الجمهوري التونسي أن الانتقادات الأميركية والأوروبية لسياسات الرئيس سعيد، منذ سنة، كانت «مجرد تحفظات». وتابع أنها جاءت تعبيراً عن «الانشغال»، مع ممارسة «ضغوط مالية»، على الحكومة لدفعها نحو تقديم مزيد من التنازلات الأمنية والعسكرية والدبلوماسية بما في ذلك «التطبيع الاقتصادي والسياسي مع إسرائيل».

أيضاً، عبد الحميد الجلاصي، القيادي المنشق عن حزب «حركة النهضة»، اتهم بدوره واشنطن والعواصم الغربية بـ«إعطاء ضوء أخضر لانقلاب قيس سعيد رداً على الغلطات القاتلة التي تورطت فيها قيادات أغلب الأحزاب الحاكمة والمعارضة منذ ثورة يناير 2011»، وعلى رأسها أحزاب «النهضة» بزعامة راشد الغنوشي و«النداء» بزعامة الباجي قائد السبسي و«تحيا تونس» بزعامة يوسف الشاهد و«قلب تونس» بزعامة نبيل القروي.

– موقف عبير موسي

في هذا الوقت، تابعت عبير موسي، رئيسة الحزب الدستوري الحر، تصعيد انتقاداتها للرئيس التونسي وحكومته وأنصاره، وأيضاً لـ«الدستور الجديد» و«الجمهورية الثالثة» وتعهدت بإسقاط «كل المنظومة الحاكمة الجديدة والأطراف «التي انقلبت على حكم الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي عام 2011 بدعم من جهات أجنبية – على حد قولها – ».

بيد أن موسي، التي تتزعم منذ عدة سنوات معارضة حزب «حركة النهضة» وزعيمه وكذلك كل قوى «الإسلام السياسي» في تونس، طعنت خلال اجتماع شعبي كبير نظمته قبل بضعة أيام في معظم رموز الطبقة السياسية الحالية، بما في ذلك قيادات حزبي «الشعب» و«التيار الشعبي» (بزعامة زهير المغزاوي وزهير حمدي)، المساندين بقوة للرئيس سعيد، واتهمتهما بـ«تبرير الانقلاب على دستور 2014 الذي يحتاج إلى تعديل وليس إلى إلغاء». كذلك اتهمت موسي هذين الحزبين بالتبعية لـ«جهات خارجية، من بينها إيران وأنصار تمدد الهلال الشيعي الإيراني ليشمل تونس وشمال أفريقيا».

– الصراع بين الرؤساء الثلاثة؟

وتلتقي زعيمة الحزب الدستوري في مواقفها هذه مع تصريحات عدد من كبار خصومها ومعارضيها بينهم قيادات في جبهة «مواطنون ضد الانقلاب» مثل الأكاديمي الحبيب بوعجيلة، وأستاذ القانون الدستوري جوهر بن مبارك، والوزير السابق، ونقيب المهندسين أسامة الخريجي الذين يرون أن من بين «أسباب انقلاب 25 يوليو الماضي» ثغرات في دستور 2014، واستفحال الصراعات داخل السلطتين التنفيذية والتشريعية، والاستقطاب بين البرلمان والحكومة ورئاسة الجمهورية، بجانب الخلافات بين الرؤساء الثلاثة.

هذا، وفي حين اعتبر الوزير السابق والخبير الدولي حاتم بن سالم أن «التناقضات داخل دستور 2014 تسببت في انهياره وانهيار المنظومة الحاكمة السابقة»، قال الجنرال المتقاعد المختار بن نصر إن كبار صناع القرار في المؤسسات العسكرية والأمنية والسياسية رحبوا بفرصة «تصحيح المسار تحت قيادة قيس سعيد»؛ لأنهم اقتنعوا بواجب وضع حد لحالة الفوضى داخل بعض مؤسسات الدولة، وتكرار الإضرابات، وتضخم دور النقابات، والصراعات بين البرلمان والحكومة ورئاسة الجمهورية. وتابع الجنرال المتقاعد بن نصر أنه شخصياً كان أحد الذين الذين شاركوا في الاستفتاء على الدستور الجديد لأن «الأولوية يجب أن تكون اليوم بناء دولة جديدة، ولدعم السلطة المركزية والقوية والموحدة للدولة، في سياق نظام ديمقراطي ينجح في رفع التحديات الاقتصادية والاجتماعية والأمنية والعسكرية التي تواجه الدولة والبلاد».

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *