ما الذي مزّق وشائج السياسيين ؟ .. بقلم بحري العرفاوي

مازال يشدني حنين إلى مقر الحزب الديمقراطي التقدمي بتونس العاصمة ومازالت ذكريات جميلة تقودني كل مرة لأجلس في مقهى الشعاع بحديقة الباساج.

كانت لحظات منتزعة من مسار زمني رتيب وكئيب حين أدخل مقر ال PDP حيث يجتمع المعارضون يومها وحيث يلجأ المضطهدون وحيث تحرر جريدة الموقف وحيث يرابط محمد الحمروني ومحسن المزليني وسمير ساسي ومحمد القوماني ومحمد الفوراتي واسماعيل دبارة ، وحيث ألتقي منجي اللوز ورشيد خشانة ونجيب الشابي ومية الجريبي رحمها الله ولا أجد مسافة نفسية أو إيديولوجية تفصلني عن أيٍّ ممن ألتقيهم هناك بل كنت أجد كيمياء كفاحية تشد الجميع إلى بعضهم.

إضراب الجوع الذي خاضه عدد من الرموز من مختلف العناوين (نجيب الشابي، حمة الهمامي، سمير ديلو ، محمد النوري، مختار اليحياوي ، العياشي الهمامي ، عبد الرؤوف العيادي ) كان نقطة ارتكاز العمل الكفاحي من أجل حياة سياسية ممكنة ومن أجل مواطنة لائقة ومن أجل كف الأذى عن أصحاب الرأي والانتماء.

كنت فخورا و أنا ألقي قصيدة “رفاق الملح” في مقر الرابطة التونسية لحقوق الإنسان بالعمران تضامنا مع المضربين وكان الحضور من مختلف المشارب ويشربون من عطش واحد للحرية.

بعد كل زيارة لمقر جريدة الموقف نخرج إلى مطعم لتناول الغداء ثم نتجه نحو مقهى نتحلّق كما “الأسرى” حول “خبر” أو “فكرة” أو “بادرة”.

أتذكر تلك الحلقات الدافئة حيث يكون محمد الحمروني والعجمي الوريمي وسامي ابراهم ولطفي الحيدوري ومحسن المزليني وشاكر الشرفي ، كنا نجد ما نهمس به ألذّ من القهوة ومن العصير والشاي بل لعل أحدنا لم يكن ينتبه إلى كونه شرب أو لم يشرب.

بعد كل دخول لمقر الموقف وبعد كل جلسة في مقهى الشمس كنت أجد أننا نحرر مساحة ونوسّع دائرة ونفعل فعلا.

هل كان ثمة قلق؟ نعم، هل كان ثمة حذر؟ نعم

كنتُ أتلقى رسائل مشفرة سواء عبر الهاتف القار ببيتي أو من خلال أشخاص يقتفون أثري وينطقون جملا أفهم أنها رسائل مشفرة وخاصة حين يستعملون مفردات أتذكر جيدا أني تعمدت استعمالها بحضرة أشخاص معينين.

حين اتصل بي محمد الحمروني أول مرة ذات شتاء 2005 لم أكن أعرفه من قبل، اتفقنا على موعد بمقهى بباردو، سألني سؤالا واحدا وطلب مني تحرير إجابة في شكل نص أو رؤية، فهمت بعدها أن الحوار كان لموقع قدس براس.
سؤاله كان: “هل توجد مشكلة في تونس”؟ وكانت أجابتي في شكل تصور أو رؤية سأنشرها لاحقا.

التقينا بعدها مرات وكان سؤاله في كل مرة: “هل يمكن أن يسكت الشاعر”؟ كنت أفهم ما يريد ولكنني كنت أجيبه دائما: “يظل الشعر يختمر حتى يحين أجله ليكون نصا”.

حين التقيت لأول مرة السيد علي العريض بقاعة أفراح بمناسبة زواج أخينا سامي ابراهم كنت أجد بأن حاجزا من “الصمت” يتهشم خاصة وقد حضر المناسبة وجوه بارزة لم تكن لتجتمع بمثل ذاك “الظهور”. لم ندخل قاعة الاحتفال (أنا والعريض)بل قضينا كامل وقت السهرة في الفضاء الخارجي وقد أحرجنا الأخ سامي حين غادر “عرش العروس” وجاءنا ليسلم علينا قائلا بلطفه المعهود :”أنا من يجيئكم ليسلم عليكما وليس أنتما”.

اتصل بي السيد منذر ثابت من الغد ليقول لي “علمت أنك البارحة في سهرة مطولة مع علي العريض” قلت له نعم وقد قال لي نفس ما تقول حيث سألني عن علاقتي بك وزيارتي لمقر الحزب الاجتماعي التحرري ، كانت مزحة سياسية جميلة.

مازلت أمر بنهج روما ثم اعرج يسارا لأمر من أمام مقر ال PDP ومازلت أستدعي “الصداقة” و”الأخوة” و”الدفء” كل مرة إلى مقهى “الشعاع” وغالبا ما أجعل مواعيدي في ذاك المكان، آخرها كان موعدي الاسبوع الفارط مع ابنتي أعترضتها لمرافقتها وهي عائدة من معهد بورقيبة للغات الحية بحي الخضراء قلت لها أنتظرك بمقهى الشعاع ثم أجلستها بجانبي وتناولت قهوة ثم سألتني: “هذي القهوة الي تحبها وديما تقابل فيها اصحابك”؟.

سؤالي كان من البداية: ما الذي مزق وشائج السياسيين؟ وأضيف إليه: ما الذي مزق وشائج الإخوة والأحباب والجيران والزملاء؟ هل هي السياسة التي انتقلت من كونها “كفاحا” إلى كونها “سلطة”؟ هل هي الأفكار التي كانت تحوم حول الحرية والعدالة والديمقراطية وحقوق الإنسان، لتصبح سباحة فوضوية في اللامعنى؟

“الجقيقة” و”الجمال” ليسا دائما في ما مضى، ولكن أيضا ثمة كثير مما يجعلنا نحن إلى ذاك الماضي نستفيد منه ونطرح من خلاله أسئلة ونشتغل على حاضر بتعقيداته ومكوناته بحثا عن حدّ أقصى من السعادة والأمان والمحبة والرفاه، ودفعا لحد أقصى من القلق والتوتر والاحقاد والكراهية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *